الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التصوير أداة بارزة في فنه
…
ومرة أخرى يصور لنا تساقط الدموع الغزار من عينيه لفراق محبوبته بتساقط الماء من الغرب، أو تساقط اللؤلؤ من عقد انقطع خيطه1:
كأن عيني وقد سال السليل بهم
…
وعبرة ماهم لو انهم أمم
غرب على بكرة أو لؤلؤ قلق
…
في السلك خان به رباته النظم
وإن كان الدكتور شوقي ضيف يرى أن هذه الدموع ليست دموع حب، وإنما كل ما في الأمر أنه شاعر يعرف كيف يصور دموع الحب2.
ومن الصور البيانية استعارة كلمة رهن لقلبه في قوله:
وفارقتك برهن لا فكاك له
…
يوم الوادع فأمسى رهنا غلقا
واستعارة الحبل للوصل في قوله:
وأخلقتك ابنة البكري ما وعدت
…
فأصبح الحبل منها واهنا خلقا
وأتى بما يرشح هذه الاستعارة ويقويها في قوله:.......واهنًا خلقًا وتشبيه عنقها بجيد الظبية، وريقها بالخمر.
بجيد مغزلة أدماء خاذلة
…
من الظباء تراعي شادنا خرقا
1 شرح ديوان زهير: صـ 149.
2 العصر الجاهلي: صـ 315.
كأن ريقتها بعد الكرى اغتبقت
…
من طيب الراح لما يعد أن عتقا
وفي البيت الأول نجد صفات متتالية للظبية تعود في النهاية لمحبوبته، بينما الصفات في البيت الثاني تعود إلى الحبيبة مباشرة، وكلها تتعاون وتتآزر للوفاء بحق المعنى، وكذلك تشبيه الضفادع التي تحبو في الجداول والحفر بالصبيان اللاعبين حتى إذا أدركها الماء علت إلى جذوع النخيل تريد أن تتقيه.
وحين يتحدث عن كرم هرم يلجأ إلى الصورة التي تحتاج إلى إعمال الفكر وقدح الذهن للدلالة على مهارته الفنية كقوله:
قد جعل المبتغون الخير في هرم
…
والسائلون إلى أبوابه طرقا
وقد أعجب النقاد بهذه الصورة، إذ جعل أقدام السائلين تترك آثارها وتمهد طرقا إلى بيت هرم، وهنا يستنبط السامع ما وراء هذه الصورة ودلالتها على كرم هرم لكثرة قصاده وطالبيه.
كما نراه يشبهه بالجواد مرة وبالليث مرة أخرى، إلى غير ذلك من الصور التي يستمدها من مصادرها البدوية، وهو أمر طبيعي، فقد أدارها حول الدلو والجدول والناقة والفرس، والبستاني والسائق، وغير ذلك، وصورة تعي الزمان كما تستوعب المكان، فهو يعطينا الزمان في مثل قوله يوم الوداع فأمسى رهنها غلقا كما تصور المكان في مثل قوله قامت تبدي بذي ضال لتحزنني وقوله ليث بعثر يصطاد الرجال وقوله من ماء لينة إلى آخر ما اشتملت عليه القصيدة كلها من الأزمنة والأمكنة.
وزهير في هذا الجزء الذي جعله للمديح يغلب على أسلوبه التقريرية والمباشرة لأنه يقرر حقيقة ويصف واقعا، وكأن وصفه بهذه الصفات لا يماري فيها السامع ولا يجادل، ولذلك فهو لا يحتاج في إثباتها له سوى الإخبار عنها.
كما أن أسلوب القصيدة واضح إذ تدل عبارته على المعنى دون الحاجة إلى كد الذهن، أو إجهاد الفكر، وتلك خاصة من خواص شعر زهير، مع أنه شاعر صنعة، ينقح شعره ويجوده، ويبيت بأبواب القوافي يتودد إليها وينفي عنها ما يشينها حتى تخرج مستوية متناسقة وهو في صنعته يستوفي ضروب الكمال والإتقان، فليس في قوافيه نشاز من إقواء أو غيره، أو اجتلاب للقافية وإكراها في موضعها، بل هي متمكنة في مكانها محكمة في صنعتها، ولكن المبالغة في الشيء والإفراط فيه، قد يفضي إلى ضده، فيظهر أثر التكلف في القافية أحيانا، وذلك مثل قوله: ومن أعناقها الربقا.
فقد أراد بالربق الأغلال، لكن القافية ألزمته أن يعبر عن الأغلال بالربق وقوله: تسقي جنة سحقا فوصف المفرد بالجمع وأراد بالجنة بستان النخيل، وقد يكون المراد تسقي جنة ذات سحق أي ذات بعد، يريد أنها متباعدة الأقطار والنواحي1.
ومن ذلك قوله:.............. قد أحكمت حكمات القد والأبقا أراد وحكمات الأبق، فنزل على حكم الروي.
1 يراجع شرح ديوان زهير: صـ 38.
وفي القصيدة عناية بموسيقاه وألحانه الداخلية بجانب العناية بالوزن والقافية، فأحيانًا يقسم البيت تقسيمات موسيقية، تنتقي بسجعات مكررة، كقوله:
بجيد مغزلة أدماء خاذلة
…
من الظباء تراعي شادنا خرقا
وهذا ما يسمى بالترصيع ويعدون ذلك من جمال الصنعة1، ومن التقسيم الذي نلمح فيه التوازن الموسيقي ما نجده في قوله:
بل اذكرن خير قيس كلها حسبا
…
وخيرها نائلا وخيرها خلقا
فبين قوله: خيرها حسبا، وخيرها نلائلا، وخيرها خلقا توازن، موسيقي، وتكرار لفظي يجعل الأذن تستريح لسماعه، وتشوق لتكراره فيستقر المعنى، ويثبت في الأذهان. ومن حسن التقسيم الذي استقصى فيه الشاعر جميع ما أبتدأ به قوله:
يطعنهم ما ارتموا حتى إذا طعنوا
…
ضارب حتى إذا ما ضاربوا اعتنقا
وقد علق ابن رشيق على هذا البيت بقوله: فأتى بجميع ما استعمل في وقت الهياج، وزاد ممدوحه رتبة، وتقدم به خطوة على أقرانه، ولا أرى في التقسيم عديل هذا البيت، ويليه في بابه قول عنترة2:
إن يلحقوا أكرر وإن يستلحموا
…
أشدد وإن يلفوا بضنك أنزل
1 نقد الشعر لقدامة بن جعفر: صـ 40.
2 العمدة: حـ 23/2.