الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جـ
المديح
بل اذْكُرَنْ خير قيس كلها حسبًا
…
وخيرها نائلًا وخيرها خلقا
وذاك أحزمهم رأيًا إذا نبأٌ
…
من الحوادث آب الناس أو طرقا
فضل الجواد على الخيل البطاء فلا
…
يعطي بذلك ممنونًا ولا نزقا
قد جعل المبتغون الخير في هرم
…
والسائلون إلى أبوابه طرقا
القائد الخيل منكوبًا دوابرها
…
قد أحكمت حكمات القد والأبقا
غزت سمانًا فآبت ضمرًا خدجا
…
من بعد ما جبنوها بدنًا عققا
حتى يئوب بها شعثًا معطلة
…
تشكو الدوابر والأنساء والصفقا
يطلب شأو امرأين قدَّما حسنا
…
نالا الملوك وبذَّا هذه السوقا
هو الجواد فإن يلحق بشأوهما
…
على تكاليفه فمثله لحقا
أو يسبقاه على ما كان من مهل
…
فمثل ما قدَّما من صالح سبقا
أشم، أبيض، فياض، يفكك عن
…
أيدي العناة وعن أعناقها الربقا
من يلق يوما على علاته هرما
…
يلق السماحة منه والندى خلقا
وليس مانع ذي قربى وذي نسب
…
يومًا ولا معدمًا من خابط ورقا
ليث بعثر يصطاد الرجال إذا
…
ما الليث كذَّب عن أقرانه صدقا
يطعنهم ما ارتموا حتى إذا طعنوا
…
ضارب حتى إذا ما ضاربوا اعتنقا
هذا وليس كمن يعيا بخطته
…
يوم النديِّ إذا ما ناطق نطقا
لو نال حيٌّ من الدنيا بمنزلة
…
أفق السماء، لنالت كفه الأفقا
29 13 بل: للإضراب، أضرب عما كان فيه وأخذ في وصف الممدوح، الحسب: ما يعده الرجل من مفاخر آبائه، أو هو الفعال الحسن له ولآبائه، مأخوذ من الحساب إذا حسبوا مناقبهم، قال المتلمس الضبعي1:
ومن كان ذا عرض كريم فلم يصن
…
له حسبًا كان اللئيم المذمما
1 الديوان: صـ 16، تحقيق حسن كامل الصيرفي، ط معهد المخطوطات العربية القاهرة سنة 1970.
النائل: العطاء ومثله النوال، قال وضاح اليمن1:
إذا قلت يوما: نوليني تبسمت
…
وقالت: معاذ الله من نيل ما حرم
فما نولت حتى تضرعت عندها
…
وأنبأتها ما رخَّص الله في اللمم
15 ممنونًا: مقطوعًا، ومن ذلك قول لبيد بن ربيعة2:
لمعفر قهد تنازع شلوه
…
غبس كواسب لا يمن طعامها
أو أنه لا يمن على من يعطيه، نزقًا: أي لا يعطي عن خفة وطيش.
16-
الدوابر: أواخر الحوافر، واحدها دابر، ونكبت الدوابر: أكلتها الأرض وأثرت فيها، وأصل النكب داء يأخذ الإبل في مناكبها فتظلع منه، القد: سير يتخذ من جلد غير مدبوغ، وأحكمت الخيل: جعل لها القد حكمات، والحكمة: حديدة في اللجام تكون على أنف الفرس وحنكه تمنعه من مخالفة راكبه، وكانت العرب تتخذها من القد والأبق الذي هو شبه الكتان، يقال حكمت الفرس وأحكمته وحكمته بالتضعيف إذا قدته وكففته، وحكمت السفيه وأحكمته إذا أخذت على يديه، ومنه قول جرير:2
أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم
…
إني أخاف عليكم أن أغضبا
1 اللسان "نول".
2 اللسان: 222، شرح القصائد السبع الطوال لابن الأنباري: صـ 557.
3 ديوان جرير: المجلد الأول: صـ 466، تحقيق الدكتور نعمان محمد أمين، ط دار المعارف سنة 1909.
17 ضمَّر: جمع ضامر وضامرة، وهو القليل اللحم والمهزول، الخدج: جمع خوادج، وهي التي ألقت ولدها قبل أوانه لغير تمام، جنبوها: شدوها إلى جنب ركابهم، البدن: العظام الأبدان، العقق: جمع عقوق وهي التي عظمت بطونها، أو هي الحوامل، وفي شرح الأعلم هي التي استبان حملها، ولم يرد أن جميع الخيل إناث، ولا أن جميع الإناث عقق، وإنما خص ذكر العقق ليخبر بجهد جميعها، وشدة عنائها وتعبها1:
18 يئوب: يرجع مع الليل، شعثًا: مغبرة، معطلة: لا أرسان عليها من الإعياء والجهد، فتمشي بلا أرسان، ومثله قول امرئ القيس2:
مطوت بهم حتى تكل مطيهم
…
وحتى الجياد ما يقدن بأرسان
الدوابر: مآخير الحوافر، والأنساء: عروق في الفخذين، الصفق: جمع صفاق، وهو الجلد الذي دون الجلد الأعلى مما يلي البطن.
19 الشأو: الغاية، امرأين: يعني بهما هنا أباه وجده، نالا الملوك: بلغا منزلتهما، وبذَّا: غلبا وفاقا، السوقة: الرعية التي تسوسها الملوك، سموا سوقة، لأن الملوك يسوقونهم، فينساقون لهم، وقيل أوساط الناس، قال نهشل بن حرِّي:3
ولم تر عيني سوقة مثل مالك
…
ولا ملكًا تجبى إليه مرازبه
1 هامش شرح ديوان زهير بن أبي سلمى: صـ50.
2 ديوان امرئ القيس: صـ93، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف بمصر سنة 1964.
3 اللسان "سوق".
20 الجواد: هو هرم، على تكاليفه: على مشاقه، فهو يطلب كل ما صنع أبواه.
21 مهل: تقدم، ومنه فلان ذو مهل: أي ذو تقدم في الخير، ولا يقال ذلك في الشر، قال ذو الرمة1:
كم فيهم من أشم الأنف ذي مهل
…
يأبى الظلامة منه الصيغم الضاري
فأبَوَا الممدوح تقدماه في الشرف، فإن سبقاه بمثل فعلهما، وما قدماه من صالح سعيهما، سبقا من جاراهما.
22 أشم: من الشمم وهو ارتفاع قصبة الأنف في اعتدال، ويكنى به عن العزة والأنفة، فهو سيد ذو أنفة، ومن ذلك قول كعب بن زهير يحذو حذو أبيه:2
شم العرانين، أبطال، لبوسهم
…
من نسج داود في الهيجا سرابيل
أبيض: قد يراد به البياض الحسي، وزهير في وصفه هذا يجري على طبيعة العرب في حبهم لِلَّون الأبيض، وبغضهم للون الأسود، وقد وصفوا كل شيء ممدوح عندهم بالبياض، وقد يراد بالبياض البياض المعنوي، وهو نقاء العرض من الدنس والعيوب، ولذلك يكنون به عن الرفعة وشرف النفس، كقول طرفة في وصف رفاقه على الشراب3:
1 اللسان "مهل".
2 شرح ديوان كعب بن زهير: صـ 23.
3 الديوان: صـ44، تحقيق فوزي عطوي، الشركة اللبنانية للكتاب، بيروت.
نداماي بيض كالنجوم وقينة
…
تروح علينا بين برد ومجسد
قول حسان:1
بيض الوجوه كريمة أحسابهم
…
شم الأنوف من الطراز الأول
فياض: كثير العطاء، يقال فاض النهر: إذا كثر ماؤه، يفكك: يفك مرة بعد أخرى، العناة: الأسرى، الواحد عانٍ، وأصل العنوِّ الذلُّ والخضوع، وفي القرآن الكريم {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} 2، الربق: جمع ربقة وهي الأغلال والكبول.
23 على علاته: على فقره وقلة ماله، أو على كل حال، كما أشار إلى ذلك زهير في قصيدة أخرى3:
إن البخيل ملوم حيث كان ولـ
…
ـكن الجواد على علاته هرم
السماحة: الجود والكرم، الندى: الفضل والخير، والخلق: الطبيعة والسجية.
24 الإعدام: المنع أي تمنع الرجل ما يريد، الخابط: الطالب والسائل ومن: ملغاةٌ، والعرب تقول إذا ضرب الرجل الشجر ليحتَّ ورقه فيعلف ماشيته قد خرج يختبط الشجر4، ويقال للرجل الكريم: إن خابطه ليجد ورقا، أي أن سائله ليجد عطاء، والمخبطة: القضيب والعصا. قال كثير عزة5:
1 ديوان حسان: صـ 366، ط بيروت، بتصحيح وتعليق عبد الرحمن البرقوقي.
2 سورة طه: الآية 111.
3 الديوان: صـ 125.
4 شرح ديوان زهير: صـ 52.
5 اللسان "خبط".
إذا خرجت من بيتها حال دونها
…
بمخبطة يا حسن من أنت ضارب
يعني أن زوجها يخبطها، والخبط: الورق الساقط، وهو من علف الإبل والناقة تختبط الشوك: تأكله.
25 عثر: مأسدة، كذب: جبن ولم يصدق في حملته، القرن: الكفء في القتال، صدق: حمل وأقدم.
26-
ارتمو: رموا بالسهام من مدى بعيد، الطعن: يكون بالرماح، اعتنق: أخذ بالعنق، يصفه بأنه أقربهم إلى القتال، ويزيد عليهم في كل حال من أحوال الحرب، كما قال:1
تركت النهالب لأهل النهاب
…
وأكرهت نفسي على ابن الحمق
جعلت ذراعي وشاحا له
…
وبعض الفوارس لا يعتنق
27-
عيي بلأمر: عجز عنه ولم يطق إحكامه، والندى: المجلس ما داموا مجتمعين فيه، فإن تفرقوا عنه فليس بندى، والنادي كالندى، وقد أشار الشعراء إلى هذه النوادي، كالخنساء التي أشارت في رثاء أخيها صخر بإنه كان يحرص على شهود هذه الأندية، ومداومة الحضور فيها:2
حمال ألوية هباط أودية
…
شهاد أندية للجيش جرار
1 شرح الديوان ص54.
2 شرح ديوان الخنساء ص27 دار التراث بيروت 1968.
التحليل:
ثم أضرب عما كان فيه، وأخذ في وصف الممدوح، وهذا من عاداتهم، أي دع حديث الغزل، وخذ في مدح هرم بن سنان أفضل قيس حسبًا حين يفخرون بآبائهم وأجدادهم، وأنداهم يدًا حين يتباهون بالجود وكثرة العطاء، بل هو أجمعها لمكارم الأخلاق، فإذا ما نابتهم نائبة، أو ألم بهم مكروه ظهرت قدرته على التصرف في الأمور، والحزم في مواجهتها فيلبس لكل حالة لبوسها، ولذلك تفوق على الناس جميعًا، وفضله عليهم كفضل الجواد على الخيل البطاء، وفضلًا عن ذلك، فيداه مبسوطة بالنوال لا ينقطع سيبه، ولا يقل عطاؤه، ولذلك ذاعت محامده، واشتهر فضله فأمه الناس يسعون إليه من كل فج، ويسلكون إلى أبوابه كل سبيل حتى أصبحت الطرق إليه ممهدة مذللة.
وهو الفارس الشجاع الذي يقود الخيل في الغزوات، ويبعد بها في أقصى البلاد يخرج بها عظيمة الأبدان، قد علاها السمن، ويعود بها ضامرة هزيلة من طول الأسفار، قد نحل شعرها، وذاب شحمها، وتقوست ظهورها وألقت الحوامل أجنتها قبل تمامها، يعلوها الغبار، وقد تعطلت من كل ما يضبط أمرها وينظم سيرها، فقام الإعيار مقام الإرسان، وحل الضعف محل القيود واللجم، عادت وكل ما فيها يشكو الألم، وخصوصًا دوابرها في حوفرها، وعروقها في أفخاذها، وطبقات الجلد المختلفة، وسائر أعضائها.
وهو في كرمة وفروسية يحذو حذو والده وجده، ويقتدي بهما في طلب المجد، ويسلك سبيلهما في الوصول إلى الغاية، فقد بلغا
بجميل أفعالهما وحسن صنيعهما منزلة الملوك، وخلفا السوقة، وفاقا أوساط الناس وعامتهم، فإن لحق بهما على ما يتحمل من مشقة، وما يتكلف من عناء، فمثله لحق وهو جدير بذلك، فالولد سر أبيه، وإن سبقاه فقد تقدما، والفضل للمتقدم على حد قول يزيد بن معاوية:
ولو قبل مبكاها بكيت صبابة
…
بسعدى شفيت النفس قبل التندم
ولكن بكت قبلي فهاج لي البكا
…
بكاها فقلت: الفضل للمتقدم
ويتابع مدح هرم بن سنان، فهو عزيز النفس عالي الهمة، شامخ المنزلة يطاول السحاب أنفة، ويحاكي النجوم منزلة، نقيٌّ من الدنس، مبرءٌ من العيب، سمح، واسع العطاء، فهو البحر الذي لا يغيض ماؤه، ولا يقل عطاؤه، يطلق الأسرى، تارة يفديهم، وتارة يمن عليهم بغير فداء، ولقد أصبح السخاء طبيعته، والكرم سجيته، ولا يستطيع أن يتخلى عنهما حتى في وقت العسر، وزمن الشدة، فإذا قصدته وهو في هذه الحال بذل لك أقصى الجهد، وآثرك بما عنده، فكيف إذا جئته والزمان مقبل والدهر مساعد والمال كثير، إنه لا يرد سائلًا، ولا يمنع طالبًا سواء أكان قريبًا منه أم بعيدًا عنه.
ويعود مرة أخرى لوصفه بالشجاعة، والقدرة على النزال، ومواجهة الأقران، ما أشبهه بالأسد عند لقاء الرجال، إنه يتقدم إليهم، لا يجبن ولا يضعف ولا يعرف التردد سبيلًا إلى نفسه، بينما لا يصمد
خصمه، منهم من يستسلم، ومنهم من يفر خوفًا على حياته وطلبًا للنجاة من هلاك محقق.
وهو دائما متفوق على أعدائه، إذا رموا بالنبل من مكان بعيد طعنهم بالرمح، فإن طعنوا بالرمح دخل تحت الرماح وأعمل فيهم السيف، فإن ضربوا بالسيوف لوى أعناقهم، فهو سابق في كل حال، فيصل بصفة الشجاعة فيه إلى أقصى درجاتها:
يطعنهم ما ارتموا، حتى إذا طعنوا
…
ضارب، حتى إذا ما ضاربوا اعتنقا
يطعن الطعنة النجلاء، وما يزال كذلك حتى تنحسر غمرات الحرب، ويضاف إلى شجاعته، قوة بيانه وفصاحة لسانه، يقف وسط الندي فيبهرك بمقولته ويدل بحجته، لا تتحيفها عجمة ولا ينقصها وضوح، فيستولي على قلوب السامعين ويأسرهم بعذب منطقه وقوة حجته.
فبعد أن وصفه بالكرم والشجاعة يصفه بالبلاغة، وأنه لا يعيا بحجته إذا قام وسط الندي، وأخيرا يختم مدحته بهذا البيت الرائع الذي يدل على أن الفضائل تجسدت فيه، ففاق الناس جميعا:
لو نال حيٌّ من الدنيا بمنزلةٍ
…
أفق السماء، لنالت كفه الأفقا
أي لو بلغ إنسان بمجده عنان السماء ولو وصل بسعيه الجوزاء، لكان هرم بن سنان.