الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التصالح مع الطبيعة
…
فإن يك من جن لأبرح طارقا
…
وإن يك أنسا ماكها الأنس تفعل
وفي هذا البيت تشبيه ضمني حيث شبه نفسه بالشياطين الذين يأتون بالمعجزات التي تفوق طوق البشر.
فالشنفرى يفخر بتحديه للطبيعة وانتصاره على نواميسها؛ مثل البرد والمطر واليل الأليل والجوع الذي يلهب الأحشاء وينتصر عليه بالتنكر له ومجاهدة النفس وتحمله للظمأ والحر الذي يسيل لعابه حتى يضيق به الأفاعي فتتململ على الرمل بينما هي لا تنشط ولا تتحرك إلا في الصيف، هذا الجو لا يخيف الشنفرى ولا يفر منه بل يمارس حياته العادية متعرضا لحر الشمس ليس بينه وبينها كن أو ستر:
ويوم من الشعرى يذيب لوابه
…
أفاهية في رمضائه تتململ
نصبت له وجهي ولاكن دونه
…
ولا ستر إلا الأتحمي المرعبل
10 واذا كان الشنفرى ثائرا على أبناء قبيلته وعلى المجتمع وعلى البيئة وعلى كل قوة خارجية لا تصدر عن إرادته، فإننا نراه في هذه اللوحة متصالحا مع الطبيعة حين يصور أناث الوعول وهي تعدو من
حوله هنا وهناك آمنة مطمئنة وكأنها عذارى من الأدميات لابسات ثيابا طويلة الأهداب:
ترود الأراوي الصحم حولي كأنها
…
عذارى عليهن الملاء المذيل
ويركدن بالآصال حولي كأنني
…
من العصم أدفى ينتحي الكيح أعقل
فالوعول هنا لا تنفر منه وإنما تألفه وتأتس به وهو يأتس بها، فكأنها إناث تلتف حول ذكر قوي منيع في وقت الأصيل، فقد أصبح جزءا من هذه البيئة أو وحشا من وحوشها، فالطبيعة التي كان ثائرا عليها حيث تصليه برمضائها وتذيقه من الظمأ والجوع ما يهد جسمه وتصيبه بالبرد والرعدة قد تصالحه في وقت ما، ويجد فيها من مظاهر الجمال والمتعة ما يخلب النفس ويسحرها.
ويبدو من خلال الصورة شيء، قد يكون حرمانا جنسيا يعانيه من كان في مثل ظروفه، ولذلك نراه يتحدث عن الوعول الإناث وبزرها في صورة العذارى من الأدميات، وعليهن ثياب ذات ذيول وكأنها ثياب العرائس، أو المسرفات في التزين، وهو في الصورة الذكر الوحيد بين هذه الإناث، بل فحل بالغ القوة والمنعة، فكأنه يحاول إشباع حاجته
الجنسية من خلال نفسيته وخياله، وهذه هي المرة الوحيدة التي ينسلخ فيها من رجولته لتقمص شخص ذكر من الوعول1.
وعلى كل فهي لوحة مصورة ابتدعتها يد فنان ماهر في لحظة من لحظات صفاء النفس، ليست سوى طيف مول وهدنة يسيرة لا يلبث أن يعود بعدها إلى حلبة الصراع.
وبهذا يبدو الشنفرى بارعا في استجماعه لعناصر الدقة وتوزيعه الألوان والظلال مع البساطة في عرض صورة وتفوقه على الطبيعة التي يحاكيها.
وهكذا يتضح لنا من خلال هذا العرض قدرة الشنفرى على التصوير والتجسيد بحيث لم يترك شيئا غامضا أو معنى مجردا لا يتمثله السامع إلا وألبسه ثوبا أدبيا وأخرجه في صورة محسة مرئية في الخيال، والتمثيل دائما يوافق النفس البدائية التي تبصر المعاني أكثر مما تفهمها، يقول ابن رشيق: والتشبيه والاستعارة جميعا يخرجان الأغمض إلى الأوضح ويقربان البعيد2.
ولذلك لم يكد يخلو بيت من صورة بدوية وهي صور تنطلق من مشاهد الصحراء التي شهداها وعاش فيها وقد استطاع أن يستغل معجمه اللغوي والتصويري أبرع استغلال ليكون ذلك في خدمة الفكرة التي أراد أن يبرزها، ففي معرض حديثه عن الجوع الذي يعانيه
1 يراجع: شاعر الصعاليك: الشنفرى ولامية العرب، ص 183، د/ عبد الحليم حفني.
2 العمدة جـ 1/ صـ287.
يشبه نفسه بالذئب الذي يبحث عن الطعام لذئاب أخرى، هذه هي الصورة الكلية والتي تتضمن في داخلها صورة أخرى جزئية.
ويقول عن الذئب المشبه به تهاداه التنائف فكل تنوفة تقدمه هدية إلى أخرى، مع ما تنطوي عليه الكلمة من سخرية مريرة تجعلنا نتصور الشنفرى وهو يندب حظه ويأسى لهذا المصير الأليم، ويعبر عن يأس الذئب وخيبة أمله في الحصول على الطعام بقوله: يخوت، أي يصوت ويطلق صيحاته العالية، وبقوله: يعسل، ليوحي باضطرابه وفقد توازنه وحركته اللاإرادية، وكذلك قوله: لواه القوت، ولم يكن هناك قوت، وقوله: أستف ترب الأرض فهو خير له من أن يتلقى نعمة ممن يمن عليه أو يستند له، والكلمة بهذه الصورة أستف تشعر بتكرار هذا الأمر والإكثار منه مع تقبله له، وهذا المعنى لا يتأتى لو قال آسف، أو آكل تراب الأرض، وكأنه مستعد لأن يأكل التراب لا مرة واحدة بل أكثر من مرة، وأشد من ذلك أيسر عليه من الهوان.
وقوله فؤاد مشيع للدلالة على جرأته وقوته وكأن له أتباعا وأنصارا وشيعة وعشيرة تؤازره وتقف إلى جانبه، ولا شك أن هذا المعنى لا يتأتى لو استبدلنا بهذا الوصف كلمة أخرى.
من حيث أمه، إلى غير ذلك من الكلمات المصورة والمعبرة التي نراه يستخدمها حين يتحدث عن كثرة جناياته وكيف أنها تقض
مضجعة وتمنع عنه النوم: طريد جنايات، تياسرن لحمه، لأيها حم أول تنام يقضي عيونها، إلى مكروهه تتغلغل.
وبهذا نجد أن طبيعة التجسيد عنده تعني التعبير بالمشهد أو الحادثة كما في تصويره لحالة الذئب والذئاب الرفاق وقد استبد بها الجوع، أو حديثه عن إحدى غاراته في ليلة مظلمة شديدة البرد، أو التعبير بالصورة الفنية كما تقدم في تشبيهاته واستعاراته أو كناياته الفطرية اللطيفة التي نقع عليها، أو التعبير بالكلمة الموحية المشعة التي لا يكاد يخلو منها بيت أو بيتان متجاوران، بحيث يضع المعنى أمامنا وكأننا نبصره أو نستطلعه، بدلا من أن نفهمه فهما ذهنيا.
وكثيرا ما يلقانا التعبير عن خواطره بالكناية كقوله أقيموا صدور مطيكم كناية عن التحول والتهيؤ؛ لأن المطايا إذا سارت رفعت صدورها، وآلف وجه الأرض كناية عن ملازمة الهموم له وقوة تحمله بأهدأ تنبيه، سناسن قحل كناية عن الهزال والضعف وبروز العظام، ومثله وأعدل منحوصا 43، وقوله يوم
…
يذوب لوابه، وعن الأفاعي، في رمضائه تتململ كناية عن شدة القيظ وحرارة الشمس التي لا تطاق، فهو حر يذيب رأس الضب كما يقولون.
وأستف ترب الأرض كناية عن اعتزازه بنفسه واعتداده بكرامته، فأكل التراب أهون عليه من أكل ما لذ وطاب من يد منان أو متطول عليه.