الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عرض النص
الفخر الجاهلي:
إذا القوم قالوا: من فتى؟ خلت أنني
…
عنيت فلم أكسل ولم أتبلد
ولست بحلال التلاع مخافة
…
ولكن متى يسترفد القوم أرفد
فإن تبغني في حلقة القوم تلقني
…
وإن تقتنصي في الحوانيت تصطد
وإن يلتق الحي الجميع تلاقني
…
إلى ذروة البيت الرفيع المصمد
متى تأتني أصبحك كأسا رويَّةً
…
وإن كنت عنها ذا غني فاغن وازدد
شرح المفردات:
2 حلال: مبالغة من الحلول وهو النزول بالمكان، وفي رواية بمحلال التلاع: جمع تلعة وهي مجاري المياه من رؤس الجبال إلى
الأودية، يسترفد: يطلب الرفد وهو العطاء، أرفد: أعطيهم ولا أبخل عليهم.
3 حلقة القوم: حيث يجتمعون ويتحلقون، الحوانيت: جمع حانوت وهو بيت الخمار، تصطد: تعثر على وتقتنصني.
4 المصمَّد: الذي يعتمد عليه الناس لشرفه أي يقصدونه في حوائجهم.
5 أصبحك: أسقك الصبوح وهو شراب الغداة، والغبوق شراب العشى، والقيل شراب نصف النهار، والكأس، مؤنثة: قال ابن الأعرابي: ولا تسمى الكأس كأسا إلا وفيها الشراب، فإن لم يكن فيها شراب سميت قدحا
…
وكأسا روية: مشبعة فهن تروي وتشبع الري فيمن يشربها، غانيا: مستغنيا.
نداماي بيض كالنجوم وقينة
…
تروح علينا بين برد ومجسد
إذا نحن قلنا: أسمعينا انبرت لنا
…
على رسلها مطروقة لم تشدد
إذا رجعت في صوتها خلت صوتها
…
تجاوب أظآر على ربع ردي
شرح المفردات
6-
الندامى والندام: الأصحاب واحدها ندمان، ويطلق على المشارب أي المشارك في الشراب، كما يطلق على المصاحب والمحادث وأن لم يكونا على شراب.
ومنه ندمان جذيمة اللذان اتياه بإبن أخته، فسالاه يكونا في سمره ثم وجد عليهما فقتلهما، وكنى بالبيض عن الإشراف، والتشبيه بالنجوم في الشهرة وعلو المنزلة أي أنهم أعلام.
والقينة: الجاراية مغنية كانت أو غير مغنية قال زهير بن أبي سلميى:
رد القيان جمال الحي فانصرفوا
…
إلى الظهيرة أمر بينهم لبك
والعرب تقول لكل من يصنع بيديه قين، ومنه قيل للحداد قين.
المجسد: الثوب المصبوغ بالزعفران، أو هو الثوب الذي يلي الجسد ويسمى بالشعار.
7-
اسمعينا: غنينا، انبرت: أعترضت، على رسلها: على هيئتها أي ترنمت في رفق، مطروفة: ساكنة الطرف فاترته، وتكسر الطرف من محاسن المرأة ولذلك قيل:
ضعيفة كر الطرف تحسب انها
…
قريبة عهد بالإفاقة من سقم
وقيل معنى مطروفة: كأنها أصابت عينها طرفة من فتورها، قال المخبل السعدي:
وإذا ألم خيال طرفت
…
عيني فماء شئونها سجم
او أن المطروفة التي طرفت وتطمح بعينها إلى الرجال، لم تشدد: لم ترفع صوتها، أولم تعنف فيه.
8-
الترجيع: ترديد الصوت وتغريده، الاظآر: جمع ظئر وهي التي ترضع ولد غيرها من النساء والمقصود هنا الناقة الحانية على ولدها الذي فقدته قبل فطامه. الربع من الإبل: أول نتائج الناقة في زمن الربيع، ردى: هالك.
ومازال تشر أبي الخمور ولذئي
…
ويبعي وانفاقي طريفي ومتلدي
إلى أن تحامتني العشيرة كلها
…
وافردت افراد البعير المعبد
رأيت بني غبرا لا ينكرونني
…
ولا أهل هذاك الطراف الممدد
شرح المفردات
9تشراب: تفعال بفتح التاء من الشراب وهو يفيد الكثرة، والشرب للقلة والكثرة، الطريف والطارف، ما استحدثه الرجل واكتسبه، والمتلد والتالد والتليد: ما ورثه عن آبائه، يقال: مال تالد وطريف، ومجد تالد وطريف، وحب تالد وطريف، قال جميل بن معمر:
وقد كان حبيكم طريفا وتالدا
…
وما الحب إلا طارف وتليد
10 تحامتني: تركتني وتخلت عني، عشيرة الرجل: أهل بيته ومن يخالطونهم، البعير المعبد: المهنوء الذي طلي بالقار، وأبعد عن رفاقه حتى لا تمتد العدوى منه إلى غيره.
11 الغبراء: صفة للأرض، وبنو الغبراء: الفقراء والأضياف، فهم لشدة فقرهم ينسبون للأرض، الطراف: قبة من أدم يتخذها المياسير والأغنياء الممدد: الذي مد بالأطئاب على نحو يوحي بالعظمة والفخامة.
التحليل
استهل الشاعر هذه الأبيات مفاخرا بنخوته على عادة الجاهليين فهو يقول: إذا تساءل القوم عن فتى يدفع عنهم الملمات ويكفيهم أمورهم ظننت أني أنا المعني بذلك وكنت عند حسن ظنهم، فأتقدم لأحمل عنهم ما نابهم وأدفع عنهم ما ألم بهم دون تقاعس أوكسل، وهذا هو مقياس الخلق الكريم في تلك البيئة العربية الصحيحة التي يهب فيها العربي نفسه لقومه، ويوقف حياته على قبيلته، وفي هذا تصوير لمكانة الشاعر ومنزلته بينهم، ثم أخذ في الحديث عن صفاته النفسية فيقول: إنني لست ممن يحاول التستر والتخفي عن أعين الناس فأنزل في الأماكن التي لا يراني فيها أحد، مخافة حلول الأضياف أو غزو الأعداء ولكن مكاني معروف لكل من يستمد منى العون أو يطلب المساعدة.
وطرفة رجل يعرف مقامه من الجد ومكانه من المتعة واللهو، وإن طلبته في مجتمع القوم وناديتهم وجدته حيث إجالة الرأي والمشورة، وإن طلبته في الحوانيت وجدته هناك يشرب ويسقي غيره فهو يجمع بين الجد واللهو والسكر والإفاقة، فإذا حدث وجئته في الحانوت سقاك كأسا من كئوس الصباح ترويك وتنقع غلتك وتذهب ظمأك وإن كنت متسغنينا عنها بما عندك من الشراب فازدد بها غنى.
وربما لا تجد غناء في هذه الشطرة:
وإن كنت عنها غانيا فاغن وازدد
إلا إذا قلنا أن الشاعر تسيطر عليه روح المرح والدعابة في قوله هذا، فكأنه يقول لمن يقدم له كأس الصبوح وهو في غنى عنه، اشرب وازدد غنى. فزيادة الخير خيران وفي ذكره الاقتناص والاصطياد ما يؤكد سريان هذه الروح.
ثم يؤكد على مكانته في قومه شأن الشعراء الجاهلين الذين يتعزون بأنسابهم، فإذا اجتمع الناس للمباهاة والمفاخرة وذكر معاني الشرف والمجد وجدتني أنتسب إلى أرفع بيوتهم مجدا وأعلاقهم شرفا فأنا مقصود كل طالب وملاذ كل لاجئ.
وإن أردت أن تقف على حقيقة معدنه وصفاء جوهره فسل عن خلطائه وجلسائه، فنداماه من ذوي المكانة وأولى الوجاهة، فهم ذائعو الشهرة كالنجوم في تألقها وعلو مكانتها، تروح عليهم مغنية تتبختر في مشيتها تجيئهم وعليها البرد والمجسد أو تجيئهم مرة عليها البرد وأخرى عليها المجسد.
فإذا طلبنا منها الغناء لم تمتنع علينا، بل انبرت وأخذت في الغناء في هدوء وتؤدة وهي تمشي على هيئتها وطبيعتها غير مسرعة، كما أنها تكون فاترة الطرف مريضة اللحظ، أو أنها تغني على سجيتها وكأنها لا تغني لسكون أعضائها.
وإذا رجعت في صوتها خيل إليك أنك تسمع أصوات نوق أخذها الحنين على ولدها الرضيع الذي هلك، فصوتها في رقته يشبه أصوات النوادب والنوائح على صبي هالك.
ومما يثير الانتباه في هذا البيت:
إذا رجعت في صوتها خلت صوتها
…
تجاوب أظآر على ربع ردي
إن الشاعر وهو يصور مجلس لهوه وساعة أنسه هو ورفاقه بهذه الجارية التي لا تمتنع عليهم تتهادى وتتبختر في مشيتها وتشجيهم بصوتها الندي وعينها الناعسة يصور صوتها بصوت مجموعة من النوق تبكي وتنوح على ولدها الهالك.
ويمكن تفسير هذه الظاهرة، بأن غريزة حب الحياة والإقبال عليها والتعلق بها تولد في الإنسان الإحساس بالخوف من الموت الذي يؤدي إلى الحرمان من هذه الحياة بكل ما فيها من متع وبهرج وزينة، وظهور مثل هذا الإحساس يدل على تعلق الإنسان بالحياة، وأسفه على أنه سيحرم منها يوما ما، فلا عجب أن يشعر وهو في أحلى ساعات عمره بإحساس المرارة والألم، لأنه يخشى لحظة الحرمان.1
وقد صدق إحساس طرفة، فقد اختطفه الموت وانتهت حياته وهو في ميعة الصبا وعنفوان الشباب.
1 يراجع: الشعر الجاهلي د. محمد أبو الأنوار صـ164.
بعدئذٍ ينصرف الشاعر إلى نفسه، فيتحدث عن متعه ولهوه، وما جره ذلك عليه، فقد أسرف في معاقرة الخمر واحتساء كؤوسها فجعلها لذته الكبرى، وأخذ يشرب شربًا مبالغًا فيه، مبددًا في سبيل ذلك أمواله كلها، ما ورثه عن آبائه وأجداده وما استحدثه من مال ومتاع حتى ازور عنه أبناء عشيرته فقاطعوه ونبذوه وأفردوه كما يفرد البعير المصاب ويبعد عن رفاقه حتى لا تتسرب عدواه إليهم وفي هذا دليل على أن العكوف على اللهو ودوام مصاحبة الدَّنِّ، وإنفاق المال وراء المتع واللذات، لم يكن عرفًا عامًا، ولم يكن هو الخلق الذي يحرص عليه المجتمع الجاهلي، لأنه كان يقدر خطر هذه المفاسد وخصوصًا إذا أدت إلى إتلاف المال، فقد نبذ المجتمع طرفة، وأعلن عن غضبته عليه حيال هذا السلوك المشين.
وعلى كلٍ إذا أنكره قومه وتجهمت له عشيرته فإن غيرهم من الفقراء والأضياف يبشون له ويهشون لإحسانه إليهم وسخائه عليهم، كذلك يقدره الأغنياء لأنه كان يجالسهم وينادمهم والشاعر بذلك يصر على موقفه من اللذة ولا يبالي بتجنب قومه واعتزالهم إياه وإنما يؤكد ذاته ويستمرئ سلوكه.