الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مشاهد من الرحيل
…
إِذَا الْأَمْعَزُ الصَّوَانُ لاقَى مَنَاسي
…
تَطَايَرَ مِنْهُ قَادِحٌ وَمُفلَّلُ
أُدِيْمُ مِطَالَ الجْوعِ حَتَّى أُمِيْته
…
وأضرب عنه الذكر صفحًا فأَذْهَل
وأستف ترب الأرض كي لا يَرَى لَهُ
…
عليَّ من الطَّول أمرؤ متطولُ
ولولا اجتنابُ الذام لم يُلفَ مشرب
…
يعاش به، إلا لدي ومأكلُ
ولكن نفسا مرَّة لا تقيم بي
…
على الضيم، إلا ريثما أتحولُ
وأطوي على الخُمصِ الحوايا كما انطوت
…
خيوطة ماريِّ تغار وتفتلُ
اللغة:
20 الأمعز: المكان الصلب الكثير الحصى، الصوان: صفة للأمعز والمراد الحجارة الشديدة الملساء، المناسم: جمع منسم وهو خف البعير والمراد أقدامي، شبه قدميه بأخفاف الإبل، القادح: الذي تخرج النار من قدحه، المفلل: المتكسر من الحجارة.
21 أديم: من المداومة وهي الاستمرار، المطال: التسويف والتأخير، وأضرب عنه الذكر صفحا: أعرض عنه وأتركه.
يقال: أضربت عن كذا صفحا أي أعرضت عنه، صفحا: معرضا وفي القرآن الكريم: {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا} 1
أذهل: أنساه وأغفل عنه.
22 استف التراب: أكله سفا أي غير ملتوت ولا معجبون، الطول المن، المتطول: الذي يمن بفعل الخير، وهذا غاية في العفة وشرف النفس.
وكانت النبي صلى الله عليه وسلم يعجب بقول عنترة، وهو قريب من هذا المعنى2.
ولقد أبيت على الطوى وأظله
حتى أنال به كريم المأكل
23 الذأم والذم: العيب الذي يذم به، يلف: يوجد.
1 سورة الزخرف الآية 5.
2 الديوان 97 ط بيروت.
24 المرة: العصة الأبية إذ يروى ولكن نفسا مرة والنفس الحرة: العزيزة الأبية، الريث: الوقت اليسير، وريثما أتحول: أي إلا قدر تحولي.
25 الخمص: بفتح الخاء الجوع، والخمص بضم الخاء: ضمور البطن، الحوايا: جمع حوية، وهي الأمعاء، الخيوطة: خيوط النسيج التي يخاط بها، والتاء تدل على كثرة الجميع، ماري: اسم لفاتل الخيوط، أو اسم رجل مشهور بصناعة الحبال وفتلها، ويقال أغار الفتل أي أحكم فتله. قال امرؤ القيس1:
فيا لك من ليل كأن نجومه
…
بكل مغار الفتل شدت بيذبل
التحليل:
ويواصل الحديث عن صفاته الشخصية التي تعد بحق سمة مميزة للصعلوك الحقيقي وقد تجمعت كلها في شخصه، فهو قوي الجسم، سريع الخطو، وحين يعدو تتطاير الحجارة الصغيرة تحت قدميه، ويضرب بعضها بعضا، يخرج منها الشرر، وتتكسر، فهو وإن لم يتحدث صراحة عن سرعته، لكن تحدث عن آثار سيره السريع، من تطاير الحصى، وتكسرها التي ينتج عنها الشرر، وذلك أبلغ في قوة مناسمه،
1 الديون 19 بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم
وسرعة سيره، فهذا مظهر من مظاهر الصمود والمعاناة التي يتعرض لها الصعلوك.
وينتقل من الحديث عن صفته الجسمية إلى صفاته النفسية، وهي القدرة على التحمل، ومداومة الصبر على الجوع الشديد، وله طريقته الخاصة في التغلب عليه، حيث يشاغل الجوع الشديد، وله طريقته الخاصة في التغلب عليه، حيث يشاغل الجوع ويتجاهله ويماطله حتى يفنيه فيتناساه، وكأنه غير جائع، لأنه لا ييأس من الحرمان، وإنما يصبر انتظار اليسر، وتبدل الأحوال.
وتصل به عزة النفس مداها إلى الحد الذي يفضل معه أن يذرع الصحراء ويخترق شعابها ودروبها، ويستف تراب الأرض على أن يمد يد الضراعة لأحد، أو يمد أحد إليه يده بفضل أو نعمة يمن بها عليه فيجرح مشاعره ويطعن كبرياءه، وعلاقة هذا البيت وهو 22 بما قبله واضحة، فإذا كان يتغلب على الجوع حتى ينساه أو يميته، فإنه هنا على فرض عدم صبره عليه لا يمد يده لأحد إكراما لنفسه من التطلع إلى ما عند غيره من الناس، ممن يمن بفضله، ويستكثر إحسانه ولو أداه ذلك إلى لعق تراب الأرض، في الوقت الذي تتلوى فيه أمعاؤه من الفاقه والحرمان.
وليس حاله تلك عن ضعف أو عجز، فلولا أنه يربأ بنفسه عن العيب، ولولا كراهيته للذم لاستطاع أن يحصل على كل ما يعاش
به من مأكل ومشرب هنيء، أو لجمع عنده أصناف المآكل والمشارب من طريق غير كريمة، فبعد أن عرض لحالته السابقة أراد أن ينفي أن يظن به أحد ذلك لضعفه عن الحصول عن المأكل أو المشرب، بل إن الذي قد يوصله إلى هذا المجال عزة نفسه وتعففه عن العيب، مع قدرته على الكسب من أي جهة، فنفسه الأبية تأبى عليه أن يأتي ما يذري به من عيب أو نقص، وما أن تراه أو تحس به حتى تتحول عنه مسرعة.
ومن أجل ذلك تراه خميص الحشا يطوي أمعاءه على الجوع وهي خاوية حتى يبست فغدت كخيوط رفيعة محكمة الشد والالتواء من العسير أن تعود إلى طبيعتها الأولى لأنها أصبحت كالحبال المفتولة بدقة وإتقان، ولا شك أن الأخذ بهذا الأسلوب، وقسوته على نفسه مما يوهن قوته ويضعف بنيته ويبدو ذلك واضحا على محياه وأسارير وجهه.