الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حول الأبيات المختارة:
والأبيات التي اخترناها تمثل
فلسفة طرفة
التي اعتنقها وآمن بها ودلل عليها، هذه الفلسفة مؤداها أن الموت هو نهاية الحياة، ولا شيء بعده، فعلى الإنسان أن يمتِّع نفسه ويشبع غرائزه وحاجاته بإنفاق ماله في ملذاته، وإلا فإنه يعذب نفسه عن غير طائل: وهو لا يكتفي بإعلان هذه الفلسفة، وإنما يدعو إلى اعتناقها، ويناقش لائِمِيه ويجادلهم، ويسوق لهم الدليل تلو الدليل على صحة هذه الفلسفة وصوابها، فهي فلسفة واعية قائمة على المنطق والإقناع والبرهان.
إنها فلسفة اللذة التي يحقق بها ذاته ويثبت وجوده، لأن الموت آت لا محالة، فهو الحقيقة التي روعته، والانتصار عليه إنما يكون بإنفاق ماله.
فلعل في تحقيق اللذة انتصار على الموت، ذلك أنه إذا كان الموت -كما تصوره الجاهلي- هو نهاية الوجود الإنساني، فإن الموقف الوجودي للشاعر الجاهلي إنما يبرز في تحديه للموت والفناء بالغوص عن لذائذها، لا حبا في اللذة بوصفها لذة، ولكن حبا في الحياة وتعلقًا بها، وكراهية في الفناء الذي تتوقف به ممارسة هذه اللذات:1
1 موسوعة الشعر العربي، اختارها وشرحها مطاع صفدي وإيليا حاوي: جـ 386/3.
يقول:
كريم يروِّي نفسه في حياته
…
مخافة شرب في الممات مصرد
أرى قبر نحام بخيل بماله
…
كقبر غوي في البطالة مفسد
تري جثوتين من تراب عليهما
…
صفائح صم من صفيح منضد
فهو يروِّي منه أيام حياته بالخمر ليموت ريانا، ويموت عاذله عطشانا، ولا فرق في النهاية بين البخيل المقتر على نفسه والغوي الضال الذي يُهلِك ماله في لهوه وملذاته، فقبراهما متشابهان، لأنهما ليسا سوى كومتين من التراب عليهما حجارة عليهما عراض صلاب، ولذلك فهو يقتنص لذة الحياة، خوفا من ضياعها، ويأسا من دوامها.
إنها فلسفة فريدة في هذا العصر، فالبيئة الجاهلية في بساطتها المادية والعقلية والثقافية ما كانت لتوحي لبنيها بالنظر العميق إلى الأشياء، أو التفكير الفلسفي في الحياة، أو الربط بين الأشياء برباط المنطق، وإنما هي نظرات مجردة بسيطة يعبرون عنها في يسر وسهولة.