الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ظهر شخصية الشنفرى من خلال لاميته
…
فقد حمت الحاجات والليل مقمر
…
وشدت لطيات مطايا وأرحل
ولم يحاول أحد من النقاد سواء أكان من العرب أم من العجم المستشرقين أن يقارن بين القصيدتين فبينهما بون شاسع بحيث لا تصلح المقارنة بينهما، وإذا جاز لأحد أن يقارن بينهما فإنما يكون ذلك من باب المقارنة بين السيف والعصا، على حد قول القائل:
ألم تر أن السيف ينقص قدره
…
إذا قيل هذا السيف خير من العصا
وعلى كل فإن إنشاد الطغرائي للاميته هذه إنما يوحي بمدى الصراع والتنافس الذي كان بين العرب والعجم آنذاك.
3 على أننا نستيطع أن نتلمس شخصية الشنفرى ونتمثلها واضحة من خلال قصيدته تلك، فقد كان الشنفرى من أغربة العرب الذين تسرب إليهم السواد من أمهاتهم الإماء، وشبهوا بالأغربة في لونهم، وكان العرب يكرهون السواد من كل شيء؛ لأنه يرمز عندهم إلى لون من السلالة المتخلفة التي لا تصلح لما يصلح له الأحرار، وقد نشأ صاحبنا مستعبدا في بني سلامان، تتدافعه القبائل وتزدريه، فشب يحمل عقدة الولادة ويرى ازدراء الناس له من غير ما ذنب جناه حتى
1 يراجع في ذلك البحث القيم الذي نشره الدكتور عبد الحليم حفني تحت عنوان: شاعر الصعاليك، ص105 المطبعة النموذجية 1976.
أصبح لا يطيق صحبة الناس ولا يتحمل رؤيتهم، وأحسن له أن يعيش بعيدا عنهم في الفلوات، ويألف البراري والقفار، ويساكن الوحوش، ويعقد علاقة حميمة بينه وبين الضباع والأسود فهي خير له من مصاحبة الناس:
هم الأهل لا مستودع السر ذائع
…
لديهم ولا الجاني بما جر يخذل
وبالإضافة إلى عقدة السواد التي كانت تتسرب في أعماقه كان الشنفرى يحس بعدم الانتماء وربما كان هذا هو السبب الجوهري في خروجه على المجتمع وعلى الناس، ووجد أن الظلام ربيه وابن جلدته.
وكان صاحبنا ثائرا يرفض الواقع ويأباه هذا الواقع الذي أدرجه ضمن طبقة العبيد الذين قنعوا بالذل ورضوا به ولم يجدوا لأنفسهم خلاصا منه. أما الشنفرى فإن نفسه تأبى الضيم وترفض المهانة كما يقو هو عنها:
ولكن نفسا حرة لا تقيم به
…
على الضيم إلا ريثما أتحول
ويتضح هذا في قوله للسلامية التي لطمته1:
ولو علمت قعسوس أنساب والدي
…
ووالدها ظلت تقاصر دونها
أنا ابن خيار الحجر بيتا ومنصبا
…
وأمي ابنه الأحرار لو تعرفينها
وقوله مبينا سر خروجه:
وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى
…
وفيها لمن رام القلى متعزل
فإذا أضفنا إلى ذلك القبح الشديد في خلقة الشنفرى والدمامة التي تطالعها في وجهه وقسماته أدركنا سر نقمته على المجتمع وعلى بني سلامان خاصة، وإذا كان هؤلاء أقرباءه حيث أنهم فرع من الأزد التي منها عشيرته، فإن إساءات ذوي القربى وظلمهم أياه تحدث جراحات نفسية لا تلتئم فقد آتته الإساءة من حيث لا يحتسب بل من حيث ينتظر العون والمساندة. كما قال الشاعر القديم:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة
…
على النفس من وقع الحسام المهند
1 الطرائف الأدبية: 41.
فشخصية الشنفرى إذن شخصية ثائرة بحكم الظروف التي أحاطت به والتي لا دخل له فيها.
وإذا كان للبيئة دورها في تشكيل شخصية الإنسان ونوازع مناحي تفكيره فمن اليسير أن تتصور مدى مساهمة هذه البيئة الجافة القاحلة المتقلبة المناخ في نفسية الشنفرى وسلوكه، فقد عرفت البرد الذي يعقد ذنب الكلب والحر الذي يذيب رأس الضب، وشهدت لونا من التضاد الجغرافي كذلك حيث الجبال الشاهقة والأغوار المنخفضة كل ذلك أثر في أخلاقه فجعله مبالغا في عداوته مبالغا في محبته على حد سواء، وهي بيئة مليئة بالمحاذر ومصادر الخطر فيها متعددة -شأن كل البيئات الصحراوية ففيها الحيوانات المفترسة والوحوش الضارية فضلا عن المخاطر التي يترقبها من الأعداء الذين يترصدونه والتي جعلته كما يقول عن نفسه:
طريد جنايات تياسون لحمه
…
عقيرته لايها حم أول
هذه المخاطر جعلته شديد اليقظة دائم الحذر والانتباه، وهذا شأن الصعاليك جميعا، كما يقول تأبط شرا عن نفسه:
ينام بإحدى مقلتيه ويتقي
…
بأخرى المنايا فهو يقظان نائم
وإذا كان الشنفرى يشعر بالمطاردة لكثرة الجنايات التي ارتكبها فقد كثر فتكه ببني سلامان وقضى على تسعة وتسعين شخصا منهم كما تروي إحدى الروايات، ولنا أن نتصور قبيلة فقدت هذا العدد الهائل من رجالها وعلى يد شخص واحد، كيف يكون شعورها، وقد عبر عن هذه الجرائم التي ارتكبها بقوله: طريد جنايات وليس جناية واحدة، وهذا مما زاد شعوره بالخوف فأرهف حسه وضاعف من حذره، وهو يتصف بالإباء الذي يفوق الوصف والذي جعله يهجر الناس ويؤثر عليهم أقسى ألوان الحياة، ويفضل ذلك على أطيب العيش وأرغده:
ولولا اجتناب الذم لم يلف مشرب
…
يعاش به إلا لدي ومأكل
فهو لا يهجر الناس من أجل طلب العيش وحوزة المال، فلو أراد ذلك لتحقق له أكثر مما يريد، ولكنه يهجرهم حفاظا لمروءته وصونا لكرامته فلقد ترك بني سلامان مرددا:
وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى
…
وفيها لمن رام القلى متعزل
بل بلغت به العزة حدا جعله يقاوم الجوع ويغالبه، وقد كان الجوع حتما عليه لا قبل له بأن يدفعه أو يمتنع عن الشعور به، ومع ذلك كان يتناساه ويذهل عنه، أو يضرب الذكر عنه صفحا حتى ينتصر
عليه فينساه، وإذا كان الصبر عليه من صفة الصعلوك فربما تفوق الشنفرى عليهم في هذا ساعيا للانتصار عليه وعلى الطبيعة؛ لأنه إذا طعم حتى الشبع والتخمة، فإن ذلك يكون دليلا على تساويه مع الآخرين بل وعلى استسلامه للواقع، مع أنه يرفضه، فالصعاليك تحدثوا عن أثر الفقر والجوع عليهم وما سببه لهم من ضعف وهزال حتى أظلمت الدنيا في عيني السليك بن السلكة، وأصابه من الدوار ما جعله يفقد الوعي:
وما نلتها حتى تصعلكت حقبة
…
وكدت لأسباب المنية أعرف
وحتى رأيت الجوع بالصيف ضرني
…
إذا قمت تغشاني ظلال فأسدف
وأبو خراش يقاوم الجوع ويديم حبسه حتى يمله ويذهب عنه دون أن يلحقه عار ويتخذ من ذلك مجالا للفخر بقوة عزيمة وقدرته على الاحتمال1.
وإني لأثوى الجوع حتى يملني
…
فيذهب لم يدنس ثيابي ولا جرمي
1 ديوان الهذليين: جـ2/صـ127.
ويكتفي بالماء القراح ليسد به بطنه بينما البخلاء من البشر يستمتعون بما تحت أيديهم من الزاد:
وأغتبق الماء القراح فأنتهي
…
إذا الزاد أمسى للمزلج ذا طعم
أرد شجاع البطن قد تعلمينه
…
وأوثر غيري من عيالك بالطعم
فاذا عجز الشنفرى عن المقاومة وضعف أمام سطوة الجوع اضطر أن يحفظ رمقه بشيء من تراب، ولا يقبل شيئا من أحد يدل له أو بما عليه بعد ذلك، وفي هذا غاية الإباء:
أديم مطال الجوع حتى أميته
…
وأضرب عنه الذكر صفحا فأذهل
وأستف ترب الأرض كي لا يرى له
…
علي من الطول امرؤ متطول
وقد يتضور أياما ثم يعثر على الطعام ومع ذلك لا يتعجل في الإقدام عليه؛ لأنه لو تعجل من دون الآخرين لكان في ذلك خضوع لحاجته فلا يأكل حتى ينتهي الآخرون، ويأكل منه بقدر ما يحفظ حياته ويمسك أوده:
من أيام الصيف القائظ الذي تعرض له دون أن يجد مأوى يستظل به أو ثيابا تمنع عنه هبوات النار:
نصبت له وجهي ولاكن دونه
…
ولا ستر إلا الأتحمي المرعبل
وهو حافي القدمين فلا يستطيع لفقره وبؤسه أن يلبس خفا:
فإما تريني كابنه الرمل ضاحيا
…
على رقة أحفى مرارا ولا أتنعل
وهكذا نراه هزيلا نحيلا يلبس ثيابا بالية ولا يتنعل، وأن تنعل فخفا ممزقا. وقد طال شعر رأسه واسترسل على كتفيه وتلبد؛ لأنه لا يغسله ولا يمشطه حتى تراكم عليه من الوسخ والأقذار ما يشبه ما يعلق بأذناب الإبل والغنم لبعد عهده بالدهن والأفتلاء:
وضاف إذا هبت له الريح طيرت
…
لبائد عن أعطافه ما ترجل
بعيد بمس الدهن والفلي عهده
…
له عبس عاف من الغسل محول
وبهذا كانت اللامية صورة حية وثيقة تاريخية صادقة لحياة الشنفرى، بل لحياة الصعاليك جميعا، بكل ما اشتملت عليه تلك
ويوم من الشعرى يسيل لعابه
…
أفاعية في رمضائه تتململ
نصبت له وجهي ولاكن دونه
…
ولا ستر إلا الأتحمي المرعبل
فهو يصبر على الجوع الذي تلتهب منه أحشاؤه والحر الذي يسيل لعابه حتى إن الأفاعي التي خلقت في هذه الرمضاء تتململ من دونه، وهو لا ينام على فراش وثير بل على الأرض الصلبة، كل ذلك يدل على قوة العزيمة وعلى الرفض وعدم الاستسلام لما يستسلم له الآخرون بل تمادى به شعور الرفض والثورة على واقعه وأبناء قبيلته حتى شمل كل قوة خارجية لا تصدر عن إرادته وحريته، وكأنه بهذا يصوغ حياته كما يريدها هو لا كما يريدها له الآخرون.
وقد بلغ الصبر حدا جعله يمتلك زمامه ويسيطر عليه، فقد أصبح يمتلك أحسن ما يتحلى الناس منه يقول:
وإني لمولي الصبر اجتاب بزه
…
على مثل قلب السمع والحزم أنعل
فهو ليس صبورا فحسب، وإنما هو مالك للصبر ومتحكم فيه، فصبره إذن ليس ناتجا عن ضعف أو خور في العزيمة، وإنما هو الصبر الذي يكون دليلا على قوة الإرادة والتحكم في أهواء النفس ونوازعها
لذلك كان لا يفرح بالغنى إلى درجة البطر ولا يجزع من الفقر حتى ييأس في الحصول على المال:
وأعدم أحيانا وأغنى وإنما
…
ينال الغنى ذو البعة المتبذل
فلا جزع من خلة متكشف
…
ولا مرح تحت الغنى أتخيل
فهو متزن ومعتدل اعتدالا ينبئ عن ثقته في نفسه.
وخير للمرء أن يتجمل بالبر والتجلد على المكارم بدلا من إظهار الضعف والشكوى التي لا جدوى من ورائها حيث لا تدفع ضرا ولا تجلب نفعا:
وللصبر إن لم ينفع الشكو أجمل _ وفي هذا المقام يرد صبره على الهموم التي يعيش معها في صراع دائم. فكلما نحاها عنه وصرفها عادت ثانية إليه لتحيط به من كل جانب.
وآلف هموم ما تزال تعوده
…
عيادا كحمى الربع أو هي أثقل
ولا شك أن الصبر وقوة الإرادة ليست صفة خاصة بالشنفرى وإنما هي من صفات الصعلكة بنوع عام، وإن كان شاعرنا قد بلغ فيها حدا كبيرا، فهذا عروة بن الورد يحدثنا عن صبره على مصائب الدهر ونوائبه فيقول:
1 الديوان: 91
صبور على رزء الموالي وحافظا
…
لعرضي حتى يؤكل النبت أخضرا
وصبره هذا ناتج عن إرادة صلبة وقوة احتمال، ولذلك فهو لا يجزع ولا يشتكي:
فلا أنا مما جرت الحرب مشتك
…
ولا أنا مما أحدث الدهر جازع
كما لا يجزع أبو خراش بفقد بني أمه وأخواته، ولا تذهب نفسه عليهم حسرات بل يلوذ بالصبر وقوة الاحتمال:2
فقدت بني لبنى فلما فقدتهم
…
صبرت ولم أقطع عليهم أباجلي
كما تتضح لنا من القصيدة شجاعة الشنفرى واستبساله، ويظهر ذلك حين يقارن بينه وبين الوحوش، فحين يتحدث عن الذئب القوي، والنمر الأرقط، والضبع العرفاء، ويحمل من هذه الوحوش أهلا يقول عنها،
وكل أبي باسل غير أنني
…
اذا عرضت أولى الطرائد أبسل
1 الديوان: 99.
2 ديوان الهذليين جـ2/ صـ123.
ويقول نافيا عن نفسه الروع والفزع وغير ذلك من الصفات الذميمة
ولست بعل شره دون خيره
…
ألف اذا مارعته اهتاج أعزل
ويدل على بسالته كذلك كونه مطاردا ممن ثار منهم لنفسه ومطالبا بجنايات كثيرة ارتكبها في حقهم، فكلهم يتنافسون في الوصول إليه والانقضاض عليه والأخذ بثأرهم.
طريد جنايات تياسرن لحمه.....
ثم هذه الغارة التي شنها على أعدائه في ظرف بالغ الصعوبة حيث كان الظلام دامسا والبرد شديدا حتى بلغ من شدة فتكه أن يلقي في النار صاحب القوس بقوسه ونبله التي يرمي بها ليستدفء، والمطر غزير وقد اشتد به الجوع، ومع كل هذه المعوقات فقد نجح في الإغارة عليهم فقتل الرجال ويتم الأطفال وغدت نساؤهم أيامي وأطفالهم يتامى:
وليلة نحس يصطلي القوس ربها
…
أقطعه اللاتي بها يتنبل
إلى أن يقول:
فأيمت نسوانا وأيتمت آلدة
…
وعدت كما أبدأت والليل أليل
ويحدثنا الشنفرى في غير لاميته عن واد موحش موغل في أعماق الصحراء قد بات مأوى للجن والوحوش، هجره الناس جميعا حتى المغامرون والأبطال ولكن شاعرنا اقتحمه صاعدا روابيه التي لا يجرؤ على صعودها إنسان في جرأة وشجاعة غير مبال بما يصيبه في وقت مبكر قبل أن يذيب دفء الشمس قطرات الندى:1
وواد بعيد العمق ضنك جماعة
…
بواطنه للجن والأسد مألف2
تعسفت منه بعدما سقط الندي
…
غما ليل تخشى غيلها المتعسف
ونمضي مع الشنفرى في قصيدته التائية التي رواها له المفضل الضبي، فإذا هو يحدثنا عن الهدف من إغاراته وأنه كان يقصد بها بني سلامان ليأخذ بثأره ويشفي حقده وغليله، يقول:
جزينا سلامان بن مفرح قرضها
…
بما قدمت أيديهم وازلت
وهنئ بي قوم وما أن هناتهم
…
وأصحبت في قوم وليسوا بمنيتي
1 الأغاني: جـ 21 صـ 191.
2 جماع الشيء: مجتمع أصلة- تعسف: مشى على غير هدى
الغماليل: الروابي، الغيل: الأشجار الكثيفة.
إلى أن يقول:
وأني لحلو إن أريدت حلاوتي
…
ومر اذا نفس العزوف استمرت
فقد جزاهم بما قدمت أيديهم، ويحز في نفسه أن يكون ذا بأس ولا ينتفع به قومه، وإنما يكون بأسه عليهم بسبب جنايتهم عليه، وهو حلو لأصدقائه ومر كالحنظل لأعدائه.
ويلاحظ أنه لم يتحدث عن شجاعته واستبساله صراحة، وإنما من خلال مواقفه المتعددة، وكأن ذلك لا يحتاج على تنويه فإن مسكله كله إنما ينبع من منطلق التضحية والفداء، والثورة على الواقع الذي فرض عليه، وذلك يجعله في غنى عن تكلف إثباته والتدليل عليه، هذه أهم ملامح شخصية الشنفرى كما تدل عليه قصيدته تلك.
بالإضافة إلى أنها ترسم صورة لمظهره الخارجي، فيبدو جسمه ضامرا ناحلا وكأنه مجرد هيكل من العظام لا لحم عليه، فهو حين يفترش الأرض يستقبلها بظهر يابس تحول دون وصوله إلى الأرض حروف فقار ظهر، فيظل الجسم مرتفعا، كما يتوسد ذراعا قليلة اللحم وكأنها قطع صلب ركب بعضها فوق بعض، وهذا يعكس ما لحق بجسمه كله من هزال يقول:
وآلف وجه الأرض عند افتراشها
…
بأهدأ تنبيه سناسن قحل
وأعدل منحوضا كأن فصوصه
…
كعاب دحاها لاعب فهي مثل
كذلك تأبط شرا نشزت أضلاعه وبرزت فقار ظهره والتصقت أمعاؤه من شدة الجوع:
قليل ادخار الزاد إلا تعلة
…
فقد نشز الشرسوف والتصق المعى
ونحافة الجسم وضموره صفة يشترك فيها الصعاليك جميعا حتى يتمكنوا من العدو الذي ميزهم عن غيرهم ولذلك أفردوا له مساحات شاسعة في شعرهم.
وقد ضرب المثل الشنفرى في العدو فقيل: أعدى من الشنفرى، وإذا كان الصعاليك يشاركونه في العدو إلا أن موهبته في ذلك وتفوقه فيه جعله قمة متميزة حيث ضرب به المثل.
وقد عبر عن عدوه بأكثر من أسلوب فحين يعدوا مسرعا تتحطم الحجارة الصلبة وتزل من تحت قدميه ويتطاير منها الشرر:
1 الإغاني جـ 18/ صـ217.
إذا الأمعز الصوان لاقى مناسمي
…
تطاير منه قادح ومفلل
ويصف لنا صورة من عدوه فيحدثنا عن مسابقة جرت بينه وبين سرب من أسراب القطا للوصول إلى الماء المتخلف من هطول الأمطار في الصحراء، وكيف أنه سبق الطير على مكان الماء فشرب وارتوى وانصرف قبل أن تصله القطا:
وتشرب أساري القطا الكدر بعدما
…
سرت قربا أحناؤها تتصلصل
هممت وهمت وابتدرنا وأسدلت
…
وشمر منى فارط متمهل
فوليت عنها وهي تكبو لعقره
…
يباشره منها ذقون وحوصل
وتصبح المسافات لا معنى لها مع عدوه الذي يقرب البعيد حتى يختلط بعضها ببعض حين يحرك ساقيه ويطلقها للجري:
وخرق كظهر الترس قفر قطعته
…
بعاملتين ظهره ليس يعمل
فألحقت أولاه بأخراه موفيا
…
على قنة أقعي مرارا وأمثل
وأبو خراش الهذلي يتحدث عن عدوه واتخاذه، وسيلة يعتمد عليها:
فإن تزعمي أني جبنت فإنني
…
أفر وأرمي مرة كل ذلك
أقاتل حتى لا أرى لي مقاتلا
…
وأنجو إذا ما خفت بعض المهالك
وتأبط شرا يعتمد على عدوه في التنقل بين القفار والصحاري الشاسعة ويكاد يسبق الريح:
يظل بموماة ويمسي بقفرة
…
جحيشا ويعروري ظهور المهالك
ويسبق وفد الريح من حيث ينتحي
…
بمنخرق من شدة المتدارك
فالعدو كان وسيلة الصعاليك بعتمدون عليها في الغزو والإغارة.
ونلمح صورة الشنفرى وهو يرتدي الأسمال والخرق البالية التي لا تستر جسمه فلا تقيه حر الصحراء ولا زمهرير الشتاء، يقول عن يوم
من أيام الصيف القائظ الذي تعرض له دون أن يجد مأوى يستظل به أو ثيابا تمنع عنه هبوات النار:
نصبت له وجهي ولاكن دونه
…
ولا ستر إلا الأتحمي المرعبل
وهو حافي القدمين فلا يستطيع لفقره وبؤسه أن يلبس خفا:
فإما تريني كابنه الرمل ضاحيا
…
على رقة أحفى مرارا ولا أتنعل
وهكذا نراه هزيلا نحيلا يلبس ثيابا بالية ولا يتنعل، وأن تنعل فخفا ممزقا. وقد طال شعر رأسه واسترسل على كتفيه وتلبد؛ لأنه لا يغسله ولا يمشطه حتى تراكم عليه من الوسخ والأقذار ما يشبه ما يعلق بأذناب الإبل والغنم لبعد عهده بالدهن والأفتلاء:
وضاف إذا هبت له الريح طيرت
…
لبائد عن أعطافه ما ترجل
بعيد بمس الدهن والفلي عهده
…
له عبس عاف من الغسل محول
وبهذا كانت اللامية صورة حية وثيقة تاريخية صادقة لحية الشنفرى، بل لحياة الصعاليك جميعا، بكل ما اشتملت عليه تلك
الحياة من قسوة وعنف، وصبر وقوة إرادة، وبما فيها من مشاق ومخاطرة وما تحمله من آلام وهموم.