الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حتمية الموت
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي
…
عقيلة مال الفاحش المتشدد
أرى العيش كنزا ناقصا كل ليلة
…
وما تنقص الأيام والدهر ينفد
لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى
…
لك الطول المرخى وثنياه باليد
متى ما يشأ يوما يقده لحتفه
…
ومن يك في حبل المنية ينقد
أرى الموت أعداد النفوس ولا أرى
…
بعيدا غدا ما أقرب اليوم من غد
اللغة:
23 يعتام: يختار، وعقيلة كل شيء خيرته وأنفسه عند أهله، وأصلها في المرأة الكريمة النفيسة، يصطفي: يختار صفوته، الفاحش: القبيح السيء الخلق، والمتشدد والشديد: البخيل، ومنه قوله تعالى:{وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} 1.
24 العيش: العمر والحياة، الكنز: المال المدفون، وجعل العمر كالكنز لأن المال عديل الروح في المحبة والمحافظة والإشفاق، ينفد: يفني ويذهب.
25 لعمرك: العمر بمعنى الحياة فاللام لام القسم، وعمرك مبتدأ خبره محذوف دائما، تقديره قسمي، الطول: حبل طويل تربط به الدابة ويطول لها في الكلأ حتى ترعاه، ثنياه: طرفاه.
26 يقده: يجره، الحتف: الهلاك، ينقد، يجر.
27 أعداد النفوس: أي على قدر عددها.
1 العاديات الآية 8.
التحليل:
وعلى الإنسان أن يغتنم فرصة الحياة قبل أن يهجم عليه الموت الذي لا يبقي على شيء إذ يختار كرام الناس وشرفاءهم الذين ندخرهم للشدائد ونفع الآخرين كما يختار أكرم مال للبخيل وأنفسه، ولذلك كان من الخير له أن ينفقه في ملذاته بدل أن يضيع بين يديه ويذهب سدى، فلا معنى للحرص على الحياة وعلى المال، لأنه حرص على ما هو ضائع لا محالة.
ويوالي الحديث عن فلسفته التي اقتنع بها فيقول: إن العيش والحياة في نقص مستمر لأن الأيام والليالي تأخذ منها، وما تأخذ منه الأيام والليالي لا بد أن يفنى فعاجل لذاتك وبادر أمانيك.
على أن الإنسان ليس مطلق الحرية في هذه الحياة، وإنما هو مربوط بالموت لا يفلت منه ولا يخطئه، بل يمهله إلى حين ثم ينقض عليه، فالموت في تركه الفتى وإمهاله إياه شبيه بالحبل الذي تربط به قوائم الدابة ثم تترك في الكلأ ترعاه، فإن شئت تركت لها الحبل وإن شئت أمسكتها عن الكلأ بشدة، ولعل في هذا ما يوحي بتسلط الموت على الإنسان كتسلط صاحب الدابة عليها، وإذا كان الأجل آتيا لا محالة، فخير للإنسان أن يحقق ذاته في حياته فيصيب من اللذائذ ما يشتهي
ويحصل من المتع على ما يبتغيه، وقد عبر الشاعر عن طول العمر بإخطاء الموت، كما قال زهير:1
رأيت المنايا خبط عشواء، من تصب
…
تمته ومن تخطئْ يعمَّرْ فيهرم
وتعبير لبيد في ذلك خير من تعبير زهير وطرفة حين قال:
حين يتحدث عن البقرة الوحشية التي يشبه بها ناقته:2
صادفن منها غرة فأصبنها
…
إن المنايا لا تطيش سهامها
وإذا كان الإنسان مربوطا بحبل المنية يهجم عليه الموت متى شاء حين ينقضي الأجل، فإن الموت موفور وفرة تساوي عدد النفوس وكثرتها، إذ لكل نفس موتة لا تنفك عنها وهي آتية لا محالة عاجلا أو آجلا.
1 شرح ديوان زهير: صـ 29.
2 ديوان لبيد: صـ222، دار صادر، بيروت.