الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صورة الذئب الجائع وحولة الذئاب
…
6 وتلقانا صورة للذئب الجائع الباحث عن الطعام وحوله الذئاب التي تشبه حاله وكأن هذه الذئاب أصابها ما أصابه فاستطرد إلى ذكر صورة مشابهة له في لوحة بلغت الغاية في الروعة والإعجاب، فالذئب الذي صور به حاله قد استبد به الجوع فانطلق يسابق الريح ويرمي نفسه في الأودية يبحث عن رزقه هنا وهناك، ولما لم يجد، أطلق صيحة مدوية أجابته على إثرها الذئاب الجائعة التي تعذر عليها الحصول على الرزق
فلما لواه القوت من حيث أمه
…
دعا فأجابته نظائر نحل
ثم يستطر الشاعر في تصوير هذه الذئاب فهي ضامرة هزيلة فأجابته نظائر نحل، وهي شيب الوجوه لما يغلب على وجوهها ورءوسها من بياض الشعر وهي كالعيدان التي يحركها بيده كأنها قداح بكفي ياسر، وأما حالتها النفسية فهي في رعب وفزع من جراء ما هي فيه حتى كأنها نحل طرد من خلاياه
أو الخشرم المبعوث حثحث دبره
…
محابيض أرداهن سام معسل
هذه الذئاب تفتح أشداقا متراخية مشقوقة الجوانب كأنها عصا مشقوقة تضامت شفاهها لجفانها.
ونحن نرى ما ترسب في أعماق هذه الذئاب من أسى عميق نتيجة لهذا الجوع المضني والعناء المهلك منعكسا على وجوهها فهي كالحات وبسل.
وبذلك لا يفوته أن يصور وجوهها بعد أن صور حالها حتى تكتمل لها الصورة ويستوفيها من جميع جوانبها، حتى حالة الجوع والمناخ يسجله حين يتحدث عن الريح ومعارضته لها مما يوحي بصبره وقدرته على التحمل:
غدا طاويا يعارض الريح هافيا
…
يخوت بأذناب الشعاب ويعسل
وأخيرا تضج هذه الذئاب وتتصايح وتتشكى الجوع وتقيم مثل المناخة، ولكن أصواتها تذهب سدى في هذا الفضاء، ونكاد نستشف نفسيته ويظهر ما بداخله من خلال إسهابه وإغراقه في وصف الذئاب وموقف الطبيعة منها بعد أن تذهب وتعدو هنا وهناك حاملة معها مشاعر البؤس والحيرة ثم الصبر، والصبر إن لم ينفع الشكو أجمل كما يقول الشاعر.
فهذا مشهد من صراع العبث، وتجربة من تجارب الهلال والمعاناة التي ألمت بالشاعر فأسقطها على الكلاب ليعمق أبعادها ويجعلها أكثر شمولا.
يدل لذلك ما وصف به الكلاب بعد أن يئست من الحصول على الطعام فقد تذرعت بالصبر وللصبر إن لم ينفع الشكو أجمل، وصبرها هذا شبيه بصبره السابق على الجوع حتى نسيه وأضرب عنه الذكر صفحا فأذهل.
وتتضح قدرة الشاعر على التصوير والوفاء بحق المعنى حين جعل الثواكل في قوله من الذئب والذئاب الرفاق:
فضج وضجت بالبراح كأنها
…
وإياه نوح فوق علياء ثكل
جعلها تنوح على شاهق الأرض ليساعد على انتشار الصوت وسرعته، ولعله لاحظ أن أصوات الذئاب عالية في عوائها فهي صورة مركبة حفلت بالتفاصيل تغلب عليها ملامح القصة، بل من الممكن أن تسلك في عداد القصص النفسية التي يعرفها العصر الحديث.
وليس من البعيد أن يكون امرؤ القيس قد تأثر من الناحية الفنية بالأسلوب القصصي عند الصعاليك فحاول تقليده في شعره ثم اتخذه مذهبا، وإذن فليس امرؤ القيس أول من اصطنع القصة الشعر العربي، بل هم الشعراء الصعاليك1.
7 وتلقانا صورة أخرى من صور المعاناة والمكابدة التي يلقاها الشنفرى حين يزاحم القطا للحصول على الماء، فإذا كان مشهد
1 الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي د/ يوسف خليف ص 281.