الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وصف القوس
…
واذا كان الشنفرى لا قبل له بالعيش مع الأحياء من البشر ولا بالحياة مع الجماد والنباتات؛ لأنها لا تفصح ولا تبين فهناك أوجه الشبه بينه وبين الوحوش فكل منهما يأبى الذل ويرفض الهوان، ويتصف بالشجاعة ويعشق الحرية ويهواها.
ثم يقارن بينه وبينها ويقرر أنه يفوق الوحوش في بسالته حيث يسبقها في مطاردة الفريسة، ولكنه مع ذلك يتصف بالقناعة والعفة مع القدرة فلا يزاحم في الأكل، فقوته لا تطغيه ولا تجعله ينسي الخلق الكريم:
وإن مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن
…
بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل
2 ويعاود الشاعر حديثه عن قومه ويأسى لتذكرهم حيث إنه لا خير فيهم فلا فائدة في قربه منهم؛ إذ لا يقدرون المعروف ولا يجزون عليه، وكان ذلك سببا لانتقاله من الحديث عن ذاته إلى الحديث عن أسلحته وأدواته التي يحتاجها في الدفاع عن نفسه وقد أحصاها في ثلاثة: قلبه القوي الذي قد من صخر حتى كأنما أحيط بشيعة من الأنصار وسيفه الصقيل وقوسه الطويلة العنق، وفي التعبير عن هذه الثلاثة بالأصحاب ما يوحي بالألفة والمودة بينه وبينها، فحيث كان الخروج على قومه كان التألف والتعارف والتفاعل بينه وبين الطبيعة ولذلك صح تعبيره عن أدوات القتال بالأصحاب وإيثاره لهذا
التعبير على ثلاثة أفراد مثلا ليوحي بالوفاء والنصرة -وهذا يدل على أنه لا صديق له من البشر- وأنه هو وحده صاحب نفسه، والسيف والقوس هما وسيلتاه للدفاع عنها، والأفكار هنا تنساب في سلاسة ويسر وترتيب منطقي.
3 على أن العلاقة الحميمة التي تربط الشنفرى بالقوس تدعوه إلى الإسهاب في وصفها، فهي وسيلته للإغارة ومصدر معيشته في الصيد وقد بلغ الجودة في وصفها يقول:
هتوف من الملس المتون يزينها
…
رصائع قد نيطت إليها ومحمل
إذا زل عنها السهم حنت كأنها
…
مرزاة ثكلى تئن وتعول
البيت الأول هنا تقرير لحال القوس ووصف مادي لها لكنه ينطوي على دلالة نفسية ترتبط بموقف الشاعر فلها صوت يرن عند انطلاق السهم واندفاعه الشديد في الفضاء، كما أنها ملساء ليست خشنة حتى لا تؤذي يد حاملها أو ذات عقد فيؤثر ذلك في أدائها نتيجة لتأثيرها على يد مطلق السهم، يعني ذلك أنها حسنة الصنع فتؤدي وظيفتها على أكمل وجه، ومع ذلك فهي مرصعة ببعض ما يحليها بالإضافة إلى محمل تحمل منه وتعلق بواسطته، وهاتان الصفتان تنمان عن شغف وهيام بين الشاعر وقوسه المعشوقة تتعدى
صلة الآلة بصاحبها يدل لهذا العشق هذه الزخرفة وتلك الحلي التي يجعلها بها كما يجعل عروسه إذ هي تمثل أمره وتحقق ثاراته.
والقوس في البيت الثاني هنا ترن وقد صور هذا الصوت الصادر منها بصورة مستمدة من البيئة حيث مثل لها بالناقة أو المرأة الثكلى التي فقدت رضيعها وترسل أصواتا هي أصوات الحنين والتفجع.
فالسهم ينسل من القوس ويفارقها كما ينسل الوليد من حضن أمه، فقد شخص القوس وبث فيها الحياة، وصح أن يطلق عليها قبل ذلك أنها واحد من أصحابه الثلاثة الذين لا يخذلونه ولذلك فهو يزينها ويرصعها ويزهو بها ولعل هذا التوفيق الذي أصابه في وصف القوس هو الذي جعل المبرد يقرر أنه لم يسبق بهذا الوصف ولعله لم يلحق به حتى الآن.
وأرق عبارات الوصف قوله: حنث، ثم تشبيهها بالثكلى التي توالت عليها المصائب.
وفي هذا إشارة إلى أنه حين يخرج سهمها تهدي إلى أهدافها الأرزاء، والوصف بالتعجيل في قوله: عجلى الذي يدل على تتابع الصرخات وتوالي البكاء يدل على سرعة القوس في الرمي وكثرة استعماله لها.
1 قطوف من ثمار الأدب د. عبد السلام سرحان - 83.
وعشقه لقوسه جعله دائم الحديث عنها فنراه مرة أخرى يذكر لونها ويصور صوتها بصوت الحزين، وصوت النحل حين يضل عن خلاياه، في منحنيات الجبل فيكون له دوي وطنين شديد1
وصفراء من نبع أبي ظهيرة
…
ترن كإرنان الشجي وتهتف
إذا طال عنها النزع تأتي بعجسها
…
وترمي بمذربها بهن وتهتف2
كأن حفيف النبل من فوق عجسها
…
عوازب نحل أخطأ الغار مطنف3
وفي معرض الحديث عن القوس ووصفها يطالعنا غير شاعر من شعراء الصعاليك نظرا لاهتمامهم جميعا بها.
فهذا صخر الغي يرى أن لها صوتا معينا كصوت العدائين حين يطلبون شيئا4
وسمحة من قسي زارة صفرا
…
ء هتوف عدادها غرد1
1 مهذب الأغاني جـ1/صـ85 النبع: شجر يتخذ منه القسي والسهام القاموس "نبع".
2 العجس: مبض القوس، ومذرا القوس: الموضعان اللذان يقع عليهما الوتر وأحدهما مذري.
3 العوازب: البعيدة الضالة، الطنف: الحيد من الجيل يريد كصوت النحل حين يضل عن خلاياه.
4 ديوان الهذليين جـ2/صـ 60.
كأن إرنانها إذا ردمت
…
هزم بغاة في إثر ما فقدوا
4 وبدءًا من البيت الرابع عشر وحتى التاسع عشر يلقانا أسلوب الفخر الذي يخلع فيه عن نفسه ثياب الخسة والضعف ولبس ثياب القوة وحسن التصرف وكمال الرجولة معتمدا في ذلك على الأسلوب التقريري الذي يقرر به الواقع، والذي يلجأ فيه إلى التصوير لتجسيد المعاني وإلباسها ثوبا أدبيا يجسمها في خيال السامع فيصور لنا الجبان في اضطرابه وتتابع دقات قلبه، كأن هذا القلب معلق في طائر يعلو به وينخفض، كأن فؤاده يظل به المكاء يعلو ويسفل، ولما كان الذعر لا يفارقه بل يستديم معه عبر بالفعل ظل ويعلو وينخفض؛ لأن ذلك يزيد من ضربات القلب؛ نظرا للحركة الشديدة والاهتزاز العنيف.
وفي البيت الأخير من هذه المجموعة يثبت لنفسه خبرته بدروب الصحراء ومسالكها التي لا حدود لها ولا معالم فيها، فلا يتحير فيها أو يضل حتى وهو يجتازها في ظلام الليل الحالك، بل يهتدي فيه كما تهتدي الشمس في فلكها، كما يقول تأبط شرًّا في حديثه عن الصحراء 2:
1 سمحة: سهلة، زراة: مكان مشهور بصناعتها من أسد السراة، عدادها: صوتها، غرد: بعيد الصوت، إرنانها: صوتها، وردمت: الردم هيئة معينة في استعمال القوس، هزم: صوت، في أثر شيء فقدوه، فهم يطلبونه.
2 حماسة أبي تمام جـ 1/صـ49.
يرى الوحشة الأنس الأنيس ويهتدي
…
بحيث اهتدت أم النجوم الشوابك
يقول الشنفرى:
ولست بمحيار الظلام اذا انتحت
…
هدى الهوجل العسيف يهماء هوجل
ولما كان السير في الصحراء فيه مشقة وتعرض لألوان المخاطر والأهوال حتى ليتعذر السير فيها على غير من ألفها ويثقل عليه ناسب أن يعبر عن ذلك بألفاظ يتعسر فيها النطق تعسر المتحير في الصحراء في قوله:
هدى الهوجل العسيف يهماء هوجل
وصعوبة النطق تأتي من تكرار الهاء أربع مرات في كلمات متتابعة لا يفصل بينها سوى كلمة واحدة، وتكرار كلمة الهوجل مرتين وكأنه بذلك يلائم بين الشعور والتعبير عنه.
5 والأبيات من 20-25 يتحدث فيها عن سرعة عدوه وعفته التي صارت مضرب المثل في ذلك، وفي حديثه عن عدو لم يتحدث عن سرعته، بل تحدث عن آثار هذه السرعة في المكان الصلب فإذا لمست رجلاه الأرض تطايرت الحجارة وقد تحطم بعضها وتتطاير منه الشرر، وكأنه لا يجري على الأرض بل يطير في الجو، فإذا لمستها
رجلاه حدث هذا المنظر واستعار المناسم التي هي أخفاف البعير لرجليه للدلالة على ألفه للحيوان وامتزاجه معه.
وإذا كان جل الصعاليك قد تحدثوا عن أثر الفقر والجوع في أجسادهم وما يحمله لهم من هزال الجسم ونحوله، فإن الشنفرى قد تعامل مع الجوع مباشرة واتخذ من ذلك متكأ للفخر بقوة نفسه وصدق عزيمته وطاقته العجيبة على الاحتمال الذي قلما نجده في مقدور رفاقه من الصعاليك، فيشخص لنا الجوع ويصوره بصورة محسوسة ثم يماطله الشنفرى ويراوغه وكأن له عليه دينا يريد أن يستوفيه، وقد تكون المماطلة لعجز عن الأداء، ولكن مماطلة الشنفرى هنا يقصد منها التيئيس حتى يفقد الأمل وهو ما عناه، بقوله: حتى أميته، فهو مصمم على قتل الجوع ومحوه من حياته، وقد يصاب الشنفرى بالذهول والإعياء من جراء تناسبه للجوع.
ومرة أخرى يحدثنا عن أثر الجوع على نفسه فيصور أمعاءه وقد خلت من الطعام وجفت من الماء حتى التصق بعضها ببعض يصورها بالخيوط المشدودة وقد التف بعضها على بعض في قوة وإحكام:
وأطوي على الخمص الحوايا كما انطوتْ
…
خيوطَةُ ماري تغار وتفتلُ
والتعبير عن الخيوط بالفتل يدل على أن أمعاءه رفيعة وخالية تماما من الطعام والشراب، مما ينعكس على جسمه كله بالهزال والضمور. /50