الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سرعة العدو من مؤهلات الصعلوك
…
وتشرب أَسْآري القطا الكدر بعدما
…
سرت قربًا أحناؤها تَتَصلصل
هَمَمْتُ وهمت وابتدرنا وأَسْدَلَت
…
وشَّمَر مني فارطٌ مُتَمَهلُ
فوليت عنها وهي تكبو لعِقْرِهِ
…
يُبَاشِرُهُ منهل ذُقُونٌ وَحَوْصَلُ
كأن وَغَاهَا حَجْرَتَيْهِ وَحَوْلَهُ
…
أَضَامِيْمُ مِنْ سَفْرِ الْقَبَائِل نُزَّلِ
تَوَافَيْنَ مِنْ شَتَّى إِلَيْهِ فَضَمَّهَا
…
كَمَا ضَمَّ أَذوادَ الأصَارِيمِ مَنْهَلُ
فَعَبَّتْ غِشَاشًا ثُمَّ مَرَّت كَأَنَّهَا
…
مَع الصُّبْحِ رَكْبٌ مِنْ أُحَاظَةَ مُجْفِلُ
اللغة:
36 الأسآر: جمع سؤر وهو بقية الشراب، ومنه الحديث:"إذا شربتم فاسئروا" أي: أبقوا شيئا من الشراب في قعر الإناء، قال الأخطل:
وشارب مربح بالكأس نادمني
…
لا بالحصور ولا فيها بسآر
أي لا يسئر الأناء سؤرا، بل يشتقه كله:
القطا: نوع من الطير مشهور بسرعته، الكدر: جمع، المذكر فيه أكدر والأنثى كدراء، وهي ما كان في لونها غبرة مع نقطة في الظهر، والكدر تقع وصفا للقطا، والقرب بفتح القاف والراء السير إلى الماء وبينك وبينه مسير ليلة واحدة، فهو كما قال الأصمعي سير الليل لورد الغد، والقارب: الذي يطلب الماء.
الأحتاء: جمع حنو وهو الجانب، تتصلصل: يصدر منها صوت معين فيه صلصلة هو صوت العطش، أو المقصود بالإحناء الأحشاء والمقصود بالصلصلة على هذا هو صوت الإمعاء.
37 هممت وهمت: الهم: العزم وقد صدر منه ومن القطا العزم على طلب الماء والإستعداد نحوه، ابتدرنا: سابق كل منا الآخر، واسدلت: يعني القطا بمعنى أرخت أجنحتها لتعبها، وأصل الأسدال أرخاء الثوب، شمر: يمعنى جد في السير، وألفاظ: السابق المتقدم إلى الماء
يتقدم الواردة ليهيء لهم الأرسان والدلاء ويملأ الحياض، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم:"أنا فرطكم على الحوض" أي أنا متقدمكم.
38 تكبو: تتساقط من الضعف والإعياء طوال الليل، والعَقر: مكان الساقي من الحوض يكون فيه ما يتساقط من الماء عند أخذه، يباشره: يلامسه، ذقون: جمع ذقن، وحوصل: جمع حوصلة وهي معدة الطائر أسفل رقبته.
39 وغاها: أصواتها ومنه قيل للحرب وغى لما فيها من الصوت والجلبة، وحجرتاه: جانباه، والضمير في حجرتيه يعود على الماء أضاميم: جمع إضمامه وهم القوم ينضم بعضهم إلى بعض في السفر، السَفْر: بفتح السين وسكون الفاء جمع السَّافر وهم المسافرون، ومنه قول أبي تمام في رثاء محمد بن حميد الطرسي:
توفيت الآمال بعد محمد
…
وأصبح في شغل عن السَّفَر السَّفْرُ
النزل: النازلون، يريد الشنفرى المسافر الذي يحط رحله وينزل.
40 توافين: توافدن وأقلبن أي جماعة القطا، من شتى: أي من أماكن وجهات متفرقة، ضمها: جمعها، الأذواد: وهو ما بين الثلاث إلى العشر من الإبل، الأصاريم: جمع أصرم، وأصرم جمع صرم وهي
القطعة من الإبل نحو الثلاثين، المنهل: مورد الماء الذي ينهل منه ترده الإبل في المراعي، ومنه قول كعب بن زهير:1
تجلو عَوارض ذِي ظَلَمٍ إِذا ابتسمت
…
كَأَنه منهل بالراح معلول
41 العب: شرب الماء من غير مص، بأن يصب في الحلق مرة واحدة، وفي الحديث:"مصوا الماء مصًا ولا تعبوه عبا"، غشاشًا: مسرعة على عجل، والركب: أصحاب الإبل في السفر خاصة دون الدواب الأخرى والركب جمع وهم العشرة فما فوقهم، ويجوز أن يطلق الركب على راكبي الخيل كذلك كما ورد في قوله تعالى:{وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} 2 فقد يجوز أن يكونوا ركب خيل أو ركب إبل، وربما كان الجيش يتكون منهما معًا. أحاظة: اسم قبيلة من الأزد شربت مستعجلة، مجفل: مسرع خوفًا، ومن عادة المذعور أن يسرع هربًا من مصدر الإزعاج، يقال: ربح مجفل، وجافلة: سريعة، وفي الحديث:"ما يلي رجل شيئًا من أمور المسلمين إلا جيء به فيجفل على شفير جهنم".
1 الديوان ص7 ط دار الكتب المصرية.
2 سورة الأنفال الآية 42.
التحليل:
وفي هذه الأبيات يعلن الشنفرى عن بعض مقومات الصعلكة التي لا تتوافر لكل صعلوك وهي سرعة العدو، وهي وإن كانت تتوافر في غيره إلا أن هذه الموهبة قد تحققت لديه بصورة جعلته مضرب المثل في ذلك حتى قيل: أعدى من الشنفري، أعدى من السليك بن السلكة، وقد ضرب مثلًا على سرعته وقدم دليلًا محسوسًا فهذه طيور القطا المعهودة بسرعتها بين الطيور يفوقها الشنفرى في عدوه، ويسبقها إذا سابقته في الوصل إلى الماء، فيشرب منه ويرتوي قبل أن تصل إليه، فإذا ما وصلت لا تجد إلا قليلًا من الماء وهو ما تبقى منه، فهو يسبقها مع إلحاح العطش عليها الذي يجعلها تضرب بجناحيها أحشاءها وتصلصل وهذا ما يريد في سرعتها ومع ذلك يتفوق عليها.
ثم يقول وحين بدأ السباق أدرك القطا الإعياء وبدا عليه التعب فأرخى أجنحته، بينما شمرت عن ساعد الجد فأصبحت متقدمًا عليها مع تمهلي في السير ثقة في السبق ويقينًا مني بعجزها عن ملاحقتي فكأنه ادخر الكثير من قوته ولم يبذل منها إلا ما يوفر له السبق ويضمن الفوز، فهو معجب بنفسه واثق من قدرته.
ثم يستطرد في وصف القطا ومدى ما ألم بها من الظمأ على عادته في استقصاء الوصف، فبعد أن ورد الماء وصدر عنه جاءت هذه الطيور تتساقط نحوه لا تملك لنفسها دفعًا لتروي عطشها، فتنغمس فيه
بمناقيرها وحوصلها محدثة أصواتًا مختلطة تعبيرًا عن فرحتها برؤية الماء وسعادتها بالوصول إليه، وكأن هذه الأصوات أصوات جماعات القبائل المسافرة من الرجال والنساء والأطفال ومعهم دوابهم وأمتعتهم فآبوا بعد سفر وقفلوا راجعين على أوطانهم، فهم يحدثون جلبة وأصواتًا متنوعة فالعلاقة هنا بين أصوات القطا الظمآ وأصوات المسافرين بعد رجوعهم فالبهجة والسعادة تغمر الجميع هذا يسر بالوصول إلى الماء وذاك يفرح بالإياب.
وتعجب لهذه الطيور التي اجتمعت على الماء وتوافدت إليه فأتت من أماكن متفرقة يضمها مورد واحد، كما تجمعت جماعات إبل حي من أحياء العرب عند حوض الماء وتزاحمت عليه فتكاثر القطا وتجمعها حول الماء كتجمع الإبل عليه.
ولا يفوت الشاعر أن يصور لنا كيفية شرب القطا، فهي لشدة ظمئها وتلهفها على الماء عبته عبًا في إسراع وعجلة من غير مص، ثم عادت مسرعة محلقة في الفضاء الفسيح كأنها ركب من بني إحاظة يسرع عند الصباح في سيرة.
وقد يكون المقصود بقر إحاظة، فاجأه خطر ففر مسرعًا ويكون المراد تصوير القطا في سرعته بعد قفوله من منهل الماء وإسراعه في الطيران متفرقًا بصورة قطيع من الحيوان فاجأه الخطر ففر مذعورًا مسرعًا.
ويخيل لي أن الشاعر لم يكن يعنيه تصوير سرعة هذه الطيور بقدر ما كان يعنيه التعريض بهذه القبيلة، وكأنها صارت مثلًا للجبن الذي من أحد مظاهره الجد في الهرب1.
1 يراجع من الشعر الجاهلي د/ طه أبو كريشة/32، مطبعة المدني 1981