الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لقيط يرسم لقومه طريقة اللقاء وأسلوب المواجهة
…
4 وبعد أن سجل حال كل من الفريقين أخذ يستنفر قومه، ورسم لهم طريقة اللقاء وأسلوب مواجهة الخطر، وهو هنا يبدو حكيمًا ناصحًا حين يوجه حديثه لبنى قومه يطلب منهم إعداد العدة لهذا الموقف العصيب، ويتمثل ذلك في الحفاظ على الخيل والإهتمام بها وحسن تدريبها، وقد جعلت حياتهم الحربية الخيل أثيرة لهم مفضلة على غيرها لما تقوم به من مهام في السلم والحرب يعجز عن آدائها سواها، ولذلك عدوها بمثابة أولادهم يقول ابن هذيل: فلم تزل العرب تفضل الجياد من الخيل على الأولاد وتستخدمها للزينة والطرد، على أنهم ليطوون مع شبعها ويظمأون مع ريها ويؤثرونها على أنفسهم وأهليهم عند حدوث الأزمة اللأواء1.
فهذا زيد الخيل يعتز بفرسه ويفضله على سائر بنيه2:
أسوِّيه بمكنفَ إذ شتونا
…
وأوثره على جل العيال
وهذا متمم بن نويرة يسقي جواده اللبن الخالص ويشرب هو وأهله ما تبقى منه يقول3:
1 حلية الفرسان وشعار الشجعله لابن هذيل 172.
2المفضلة رقم9.
3 الضريب: اللبن الخالص، المريب: الذي يغذونه في بيوتهم.
فله ضريب الشول إلا سؤره
…
والجل فهو مربب لا يخلع1
ونظرا لأهمية الخيل ودورها في المعركة أعاد الحديث عنها ثانية في قوله:
صونوا جيادكم واجلوا سيوفكم
…
وجددوا للقسىِّ النبل والشرعا
كذلك يتمثل في التذرع بالصبر على تحمل الشدائد وترك الجزع والخور حتى يكتب لهم النصر على حد قول القائل:
أخلق بذى الصبر أن يحظى بحاجته
…
ومُدمن القرع للأبواب أن يلجا
وحين يحثهم على التمسك بالصبر يسوق لهم هذا الأمر في صورة جميلة إذ يصوره لهم بصورة الشعار واللباس، ليتمثلوه حقيقة ويصاحبهم في كل مواقفهم:
...................... واستشعروا الصبر لا تستشعرو الجزعا
1 ابن هذيل: حلية الفرسان وشعار الشجعان: صـ 172،تحقيق الأستاذ محمد عبد الغني حسن ط. دار المعارف 1949.
كما يتمثل في اجتماع الكلمة ووحدة الصف، بأن ينزعوا من قلوبهم ما فيها من تباغض وتحاسد، ويجعلوا شعارهم حماية الذمار مهما كان الثمن:
ولا يدع بعضكم بعضا لنائبة
…
كما تركتم بأعلى بيشة النخعا
ووسيلتهم لذلك السيوف الصقلية والقسىُّ بأوتارها، وإذكاء العيون وإرسال الرسل للاطلاع على أحوال العدو واستراق أخباره.
هذه هي وسائل القوة التي يلاقون بها عدوهم ويؤملون النصر عليه. ويلاحظ أن الشاعر استخدم أسلوب الأمر وهو يدعوهم أن يأخذوا بأسباب القوة وحذرهم من كل ما يشغلهم عنها وهو تثمير المال، ويبدو أنهم كانوا مولعين بحبه والتعلق به ولذلك ساق هذا التحذير في أربعة أبيات تتقارب في معناها، وفي كل بيت يذكر القضية والدليل عليها ليحملهم على الاقتناع ويدعوهم للاستجابة، يقول في نهيهم عن الانشنغال بالإبل وتثميرها:
لا تلهكم إبل ليست لكم إبل لأنهم لو استمروا على غفلتهم وأصموا آذانهم عن الاستجابة لتحذيره تصبح هذه الإبل ملكا لعدوهم الذي يفجؤهم ويستولي عليها لا محالة لا سيما وقد دقت طبول الحرب وأصبحت على الأبواب إن العدو بعظم منكم قرعا.
ويقول في نهيهم عن الانشغال بالمال لا تثمروا المال للأعداء، إنهم لا يثمرونه لأنفسهم أو لأبنائهم، وإنما يثمرونه لعدو انتصر عليهم وفتك بهم واتخذ أموالهم نهبا وغنيمة، ولا شك أن هذا يدعوهم إلى اليقظة والتفكير فيما هم عليه إنهم إن يظهروا عليكم يحتووكم والتلاد معا.
وحتى من بقي منهم على قيد الحياة بعد المعركة وسلم من ذل الأسر وهوان القيد هيهات أن يستفيد بهذا المال، لأن العدو لن يمكنهم من ذلك:
هيهات لا مال من زرع ولا إبل
…
يرجى لغابركم إن أنفكم جدعا
ويؤكد على هذه الفكرة في البيت الذي يليه، فالمال تبع لأصحابه يضيع ويتبدد بذهابهم ويكثر وينمو في وجودهم، ويقسم بأن هذه حقيقة جلية وثابتة منذ زمن بعيد فهي سنة من سنن الاجتماع:
والله ما انفكت الأموال مذ أبد
…
لأهلها إن أصيبوا مرة تبعا
وبهذا وفق الشاعر في تحذيرهم من الانشغال بالمال وساق لهم على صحة ما يقول الدليل تلو الدليل والحجة عقب الحجة حتى يصل بهم إلى مرحلة الاقتناع.
وحين يستنفرهم ويحذرهم من ضياع ماضيهم المجيد ومجدهم التليد الذي يحرصون على استدامته يربط بين الماضي المتوارث وبين الخطر الذي يدهمهم، فلا يبقي أثرا لماضٍ شريف أو حاضر مشرق، والعربي لا يعتز بماضيه فحسب، وإنما يستلهمه ويعيش عليه، ولن يفيدهم هذا الماضي ولن ينفعهم الاعتزاز به، إن هم قصروا في الحفاظ عليه، وفرطوا في الدفاع عنه وجاء تعبيره عن ذلك بالاستفهام المفيد للنفي تأكيدا لهذا المعنى:
ماذا يرد عليكم عز أولكم
…
إن ضاع آخره أو ذل واتضعا
وقد استغل فرط حساسيتهم وشدة غيرتهم على أعراضهم وحذرهم من العدوان عليها فهم إن قصروا في الدفاع، أو توانوا في الاستعداد وأخذ الأهبة استبيحت حرماتهم وانتهكت أعراضهم، كما حذرهم من هول الفجيعة والمفاجأة باحتلال أرضهم إن استمروا على غفلتهم، ولم يعملوا بما يوجبه نصحه وتحذيره، فيستبد بهم عدوهم ويستسلمون لحكم الدهر فيهم، وما أقسى حكمه، إنه الفناء الذي لا بديل عنه:
ياقوم بيضتكم لا تفجعن بها
…
إني أخاف عليها الأزلم الجذعا
هو الجلاء الذي يجتث أصلكم
…
فمن رأى مثل ذا رأيا ومن سمعا
وكأن بلقيط يذكرنا بقول الحارث بن حلِّزة في وصف اعتزام القوم للرحيل واجتماع كلمتهم على القتال، ثم نهضتهم للسير إلى عدوهم:
أجمعوا أمرهم عشاء فلما
…
أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء
من مناد ومن مجيب ومن
…
تصهال خيل خلال ذاك رغاء
مع ما في هذا الشعر من جلبة الأصوات وتداخلها1.
لقد كان لعمل الشاعر في ديوان كسرى أثر كبير على صياغته الفنية، فهي صياغة تخاطب العقل، وتستثير العاطفة، وتهز المشاعر.
فحين يصور عدم جدوى قومه في تثمير المال بينما الحرب وشيكة الوقوع يقول:
لا تلهكم إبل ليست لكم إبل
…
إن العدو بعظم منكم قرعا
1 تاريخ الشعر العربي حتى آخر القرن الثالث الهجري نجيب محمد البهدبيتي 81.
ونراه مرة أخرى يقول:
لا تثمروا المال للأعداء إنهم
…
إن يظهروا يحتووكم والتلاد معا
فهو يختار من المؤثرات ما يهز القلوب لهذه الغفلة، وينتخب من المعاني ما يناسب الموقف ليلهب حماسهم ويبعث فيهم الحمية واليقظة:
يا قوم لا تأمنوا إن كنتم غيرا
…
على نسائكم كسرى وما جمعا
ويؤكد تحذيره لهم ويقويه بأكثر من مؤكد، بالقسم في قوله: والله ما انفكت الأموال مذ أبد وبأن واسمية الجملة إن العدو بعظم منكم قرعا وفيها كناية لطيفة عن نذر الحرب ومقدماتها.
وتتجلى عاطفة الشاعر نحو قومه، عاطفة الحب والولاء في هذه النصائح المتكررة، وفي التحذير المصحوب بالدليل، لأنه يرى ما لا يرون، وفي النداء المتكرر بقوله يا قوم، مع إضافته لضمير المتكلم مما يوحي بحبه لهم وإشفاقه عليهم، نظرا لوشائج القربى وعلائق النسب الوثيقة التي تربطه بهم، وفي الاستفهام المتضمن معنى التمني في قوله: فمن رأى مثل ذا رأيا ومن سمعا يتمنى أن يروا جميعا مثل رأيه وأن تقرع كلماته أسماعهم وتجد طريقها إلى قلوبهم، ولعل في كل ذلك ما يدعوهم إلى الاستجابة لأن هذا النصح وذلك التحذير صادران من مخلص أمين يخفق قلبه بحبهم.