الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سر مجيء القصيدة على بحر البسيط
…
تأملات في القصيدة
1 القصيدة جاءت من بحر البسيط ويجئ الشطر الواحد منه على وزن مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعلن وهذا الوزن الشعري يتلاءم مع عاطفة الشاعر، عاطفة الوله واللهفة على قومه، والخوف من المصير المحتوم الذي ينتظرهم بالإضافة إلى أنه يتميز برقته وعذوبته، ولذلك قل في أشعار الجاهليين وكثر عند المولدين، فإذا أضفنا إلى ذلك رويها الذي يتضافر معها ويتظاهر على أحداث هذا الرنين أدركنا أن الشاعر قد أصاب حظا من التوفيق، وكأن إيقاعات الألفاظ طبول تدق بنذر الحرب وتعلن أن ساعة الخطر قد حانت على نحو ما نجد في قوله:
قوموا قياما على أمشاط أرجلكم
…
ثم افزعوا قد ينال الأمن من فزعا
وإشباع حرف الروي وهو العين يتلاءم مع تجربته الشعورية إذ أن إطلاق الصوت وعدم انحباسه نتيجة للإشباع يوحي بأن الشاعر يصرخ صرخات متتالية ليبلغ قومه هذا النذير.
2 والقصيدة بعد ذلك نفثة شعرية ونغمة حزينة توحي بالوفاء لقومه وتنبئ بالإخلاص والمحبة، وتذكر الأخبار أن القصيدة حين وقعت في يد كسرى قطع لسانه وما كان ذلك ليثني الشاعر عن مهمته، أو يؤثر على ولائه لقومه، ذلك لأن ارتباط الشاعر بقضايا
قبيلته ومصيرها جعله يستهين بكل شيء حتى لو ضحى بعضو من أعضائه أو بحياته كلها.
وربما لجأ الشاعر إلى الحيلة وحسن التدبير ليصل نذيره لقومه حين يكون مغلوبا على أمره، كما فعل رجل من تميم كان أسيرا في حي من أحياء العرب، فعزم ذلك الحي على غزو قومه، فكتب إليهم معجما يدعوهم أن يتركوا أرض الدهناء، حتى يفوتوا على عدوهم فرصته ويأمرهم أن يعتصموا بالصمان، يقول:
خلوا عن الناقة الحمراء واقتعدوا
…
العود الذي في جنابي ظهره وقع2
إن الذئاب قد اخضرت براثنها
…
والناس كلهم بكر إذا شبعوا3
فقد أراد الشاعر بالناقة الحمراء أرض الدهناء وهي لبنى تميم وشبهها بالناقة لسهولة ركوبها والسير فيها، وباقتعاد العود ركوبه، وأراد به بلد الصمان، فحين وطئ وكثرت فيه الأقدام صوره بصورة البعير المسن الذي وضح في ظهره آثار الدبر. فهو يناشدهم أن يعتصموا بأرض الصمان، ويمتنعوا بها فالسير فيها عسير لوعورتها، لذا يشق على خيلهم أن تطأها، أما الدهناء فهي ممكنة، ثم صور القوم الذين يغيرون عليهم بالذئاب لغدرهم وحرصهم على أن يصادفوا منهم غرة، فالأرض إذا أخصبت واخضرَّت وكثر العشب فيها شبع الناس، فساعدهم ذلك على الإغارة، فعداوة هؤلاء بكر بن وائل، فما كان من قومه إلا أن أطاعوا دعوته ووعوا تحذيره وانتقلوا إلى حيث يطيب لهم المقام.
فالشاعر ما كان لينسى قومه أو يضن عليهم بالنصح والتحذير حتى وهو فاقد حريته يرسف في أغلاله ويعاني مرارة الأسر وذل القيد.
1 معاني الشعر للإشنانداني: جـ 58/57.
2 العود: المسن من الإبل، الوقع: آثار الدبر في ظهر البعير.
3 الذئاب: القوم الذين يغيرون عليهم شبههم بالذئاب لختلهم وحرصهم على الغارة، اخضرت براثنها: هذا مثل يريد أن الأرض قد أخصبت وكثر العشب فيها، فأمكن، الغزو، فالأقدام مخضرة من الكلأ فجعل الأقدام براثن، والناس كلهم بكر، أراد أن بكر بن ربيعة أشد القبائل عداوة لتميم وأكثر مغازاة.