الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تأملات في القصيدة
لعل أول ما يلفت نظر الباحث إلى هذه القصيدة أنها طويلة طولا لم يعهد في شعر الصعاليك؛ إذ من المعروف أن شعر الصعاليك عبارة عن مقطوعات إذا استثنينا قصيدة الشنفرى الأخرى القافية التي رواها له المفضل الضبي إذ يبلغ عدد أبياتها خمسة وثلاثين بيتا، بينما يبلغ عدد أبيات قصديته التي نحن بصددها ثمانية وستين بيتا، فهي ليست أطول قصيدة في ديوان الشنفرى الذي جمعه الأستاذ عبد العزيز الميمني ضمن مجموعة الطرائف الأدبية فحسب ولكنها أطول قصيدة في شعر الصعاليك جميعا، وربما كان هذا الطول الذي لم يؤلف في شعرهم هو ما دعا الدكتور يوسف خليف إلى الشك في نسبة هذه القصيدة إلى الشنفرى وإلحاقها بخلف الأحمر الراوية المشهور كما ذهب إلى ذلك بعض المستشرقين، على أن ذلك لا يمنع من نسبتها إلى الشنفرى؛ لأن الذي يستطيع أن ينشد قصيدة من خمسة وثلاثين بيتا لا يعجزه أن يبدع أخرى تبلغ ثمانية وستين بيتا على أن المتتبع لشعر الصعاليك بجد أن هناك بعض القصائد الأخرى التي اتسمت بالطول كقصيدة مالك بن حريم العينية التي رواها له الأصمعي إذ تبلغ أربعين بيتا وقصيدة عبدة بن الطبيب الذي قضى معظم حياته متصعلكا في الجاهلية، وقد بلغت عددها واحدا وثمانين بيتا رواها له صاحب المفضليات وغيرها، والواقع أن القصيدة تثمل روح الشنفرى الثائرة كما تمثل حياته تمثيلا حقيقيا، وتضح لنا أبعاد شخصيته
1 وقد بدأها الشاعر بالخروج على المجتمع دون أن يمهد لذلك بلون من ألوان المقدمات التقليدية التي جرى الشعراء أن يفتتحوا بها قصائدهم، وربما كان ذلك راجعا إلى الثورة على المجتمع ورفض الخضوع لتقاليده، وإلى الحرية التي كان ينعم بها هؤلاء في ظل الظروف التي يحيونها، هذه الثورة وهذا الخروج قد امتدا إلى الخروج على التقاليد الفنية التي جرى عليها الشعراء وترسبت في أعماقهم حتى صارت تمثل ظاهرة أساسية ومعلما من معالم بناء قصائدهم الفنية، فكان الشنفرى في هذه القصيدة ثائرا على الأوضاع الفنية متحررا من المقدمات التي نجدها في الشعر الجاهلي، وإن كنا نجده في القصائد الباقية التي رويت في مجموعة الطرائف الأدبية يبدأ بالحديث إلى صاحبته طالبا منها أن تدعه وشأنه ليذهب مع رفاقه حتى يحقق ذاته ثم لتقل بعد ذلك ما تشاء، فإنه لن يموت إلا مرة واحدة:
دعيني وقولي بعد ما شئت أنني
…
سيغدي بنعشي مرة فأغيب
والأبيات التي استهل بها الشاعر قصيدته تعكس بوضوح حالته النفسية التي ألمت به، وتوقفنا على البعد النفسي لأعماق الشاعر، فقد بدأها بفعل الأمر أقيموا الذي يتضمن من الحث والتحضيض الشيء الكثير للدلالة على أنه أصبح لا يحتمل المقام بينهم فقد أعيته الحيل
ونفد صبره ولا راحه له في مفارقتهم؛ لأنهم خذلوه عندما تركوه أسيرا في بني شبابة ثم عبدا في بني سلامان، وفوق ذلك لم يثأروا لأبيه على عادة العرب في الأخذ بثأر من قتل منهم، ويدل على شدة نفوره منهم ورغبته الملحة في اللحاق بغيرهم تقديم الجار والمجرور في قوله: إلى قوم سواكم. فقد ضاق بالمكان وأهله ولعل في تعبيره، عن قومه ببني أمي ما يدل على وشائج الرحم وصلة المودة والقربى التي تربطه بهم مما يوحي بحرصه عليهم حيث تجمعه وإياهم صلة الرحم.
فالشطر الثاني من هذا البيت تعليل للشطر الأولى، كما أن البيت الثاني تعليل للأمر في البيت الأول، على أن قوله والليل مقمر في البيت الثاني يوحي بوضوح الأمر أمامه وأنه قد اتخذ قراراه بالرحيل عنهم بعد أن توفرت لديه الأسباب والدواعي.
وواضح من السياق أن مشكلة الشاعر في قومه؛ حيث يتمنى ارتحالهم وبت الصلة بينه وبينهم، فقد أصبح يطلب قوما سواهم يؤثرهم عليهم حين يقول:
ولي دونكم أهلون سيد عملس
…
وأرقط زهلول وعرفاء جيال
فإذا كان أهله أذلوه وسخروا منه فإن هناك في عالم الحيوان الوحوش من يتصف بصفات لم يجدها في بني الإنسان، ولذلك
كانت جديرة بأن يتخذ منها أهلا ويصطفيها على سائر البشر وقد عبر عن هذه الجدارة وذلك الاستحقاق بأكثر من أسلوب، فتارة يقول ولي دونكم أهلون فالحيوانات التي ألفته وألفها ليست أهلا واحدا بل أكثر من أهل، هي أهلون للإيحاء بأنه يجد في جوارها من الحماية والمنعة وحفظ الأسرار ما يعجز الأهل عن توفيره له وتقديم الخبر على المبتدأ في قوله ولي دونكم أهلون يفيد الاختصاص، وتارة يعبر عن استحقاق الحيوانات لهذه الصفات بأسلوب القصر هم الأهل، لإفادة الاختصاص أيضا، وكأنه يفرح بتلك المعايشة متعزيا عن أهله من الإنس بأنها لا تؤذي مثل الإنسان ولا تغدر ولا تخذل في مواقف الحرج، وقد رأينا كيف ساعدته اللغة واستخدامها على التعبير عما في نفسه.
والشاعر في البيت الثاني والثالث والرابع يلبس رداء الحكمة ويرتدي ثياب الواعظ فيطالب كل حر أن يرحل عن موطن الذل، فأرض الله واسعة ولا عذر لمن يقيم على الضيم ويرضى بالهوان:
ولا يقيم على ضيم يراد به
…
إلا الأذلان عير الحي والوتد
هذا على الخسف مربوط برمته
…
وذا يشج فلا يرثي له أحد