الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل في الجهاد وآدابه
الجهاد ذروة سنام الإسلام، ومقام أهله في الدنيا والعقبى أعلى المنازل لا جرم كان حظ الجناب النبوي من ذلك أوفر الحظوظ، وعادته في سلوك طرقه أكمل العادات وأجملها، وأوقاته وساعاته موقوفة على الجهاد باللسان وبالجنان وبالدعوة والبيان وبالسيف والسنان {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}. قال تعالى:{فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} .
وقالت العلماء مراتب الجهاد أربع مراتب:
جهاد النفس. وجهاد الشيطان. وجهاد الكفار. وجهاد المنافقين.
أما جهاد النفس فعلى أربع مراتب:
إحداهن: الجهاد في تعليم دين الحق.
الثانية: الجهاد في العمل بذلك العلم.
الثالثة: الجهاد في الدعوة لذلك العلم وتعليم آدابه.
الرابعة: الجهاد على الصبر، واحتمال مشقات الدعوة، وأذى الخلق. ومن استعمل هذه المراتب الأربعة دعى في ملكوت السموات عظيمًا.
وأما جهاد الشيطان فعلى مرتبتين:
الأول: الجهاد على دفع ما يلقيه من الشبهات والشكوك.
الثانية: الجهاد على دفع ما يلقيه من الإرادات والشهوات. وسلاح الأول اليقين، وسلاح الثاني نوع صبر.
وأما جهاد الكفار والمنافقين فعلى أربع مراتب:
القلب. واللسان. والمال. والنفس.
وأما جهاد أرباب الظلم والمنكر والبدع فعلى ثلاث مراتب: الأول باليد، وإن عجز فباللسان، وإن عجز فبالقلب. هذه مراتب الجهاد وهي ثلاثة عشر، من لا حظ له منها فهو منافق "من مات ولم يحدث نفسه بالغزو، مات على شعبة من النفاق".
وأكمل الخلق في مجموع هذه المراتب هو سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه من أول يوم البعث إلى يوم الوفاة لم يزل في الجهاد يدعو الجن والإنس، والعرب والعجم، والصغير والكبير، والعبد والحر، والأنثى والذكر إلى الحق ويريهم الطريق المستقيم ويمنعهم من الكفر والضلال صلى الله عليه وسلم، ولما أطلق لسانه بسب الأصنام قامت كفار قريش بعداوته، ولما بلغوا من أذيته الغاية ومن معاداته النهاية، أمر بالهجرة فهاجر جماعة إلى أرض الحبشة عثمان بن عفان ورقية ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعشرة غيرهم.
ثم أسلم حمزة، وفشا الإسلام وتزايد فاضطراب الكفار لذلك اضطرابا شديدًا، ثم تعاقدوا على ألا يناكحوا بني عبد المطلب وبني عبد مناف ولا يبايعوهم، ولا يجالسوهم، ولا يكالموهم حتى يسلموا إليهم النبي وكتبوا بهذه الجملة كتابًا علقوه في سقف الكعبة، فشلت يد الكاتب، وأكلت الصحيفة الأرضة، إلا موضع اسم الله ورسوله هذا وبنو عبد المطلب محصورون في الشعب مدة ثلاث سنين، حتى أخبر جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر أبا طالب بذلك، وهو أخبر كفار قريش، وقال لهم: انظروا فإن كذب أسلمناه لكم، وإن صدق فارجعوا عن هذا الحال فقالوا قد أنصفت، ولا أنزلوا الصحيفة ورأوها ازدادوا كفرًا وطغيانًا، ثم بعد ستة أشهر توفى أبو طالب، وبعد ثلاثة أيام توفيت خديجة، وتضاعفت أذية الكفار، فخرج صلى الله عليه وسلم من مكة إلى الطائف، فلم يجد من الطائف مساعدة ولا موافقة فرجع، ولا وصل في رجوعه إلى نخلة جاءه الجن، وعرضوا إسلامهم عليه، ولا رجع إلى مكة عرج به، فأخبر كفار قريش بما شاهد في تلك الليلة من رؤية الأنبياء وفرض الصلاة فلما سمعوا هذا ازدادوا في تكذيبهم، وزادوا في إيذائهم.
وكان المعراج مرّة واحدة ببدنه في اليقظة، وبعضهم يقول: مرتان، وبعضهم يقول: ثلاث مرات، وبعضهم يقول: أربع مرات. وبعد الإسراء بسنة وشهر أمر بالهجرة فاستصحب أبا بكر بأمر البارى تعالى وسافر، ولما وصل المدينة فرح الأنصار بقدومه، وقدموا محبته على الأباء والأبناء، فقامت العرب لعداوتهم، وشنوا عليهم الغارة من كل جانب، فنزلت آية القتال، وحصل الإذن فيه بعد حرمته، ثم افترض.
والأحاديث الثابتة في فضل الجهاد تزيد على أربعمائة، وكان يبايع الصحابة على أن لا يفروا يوم الزحف، وفي بعض الأحيان كان يبايع على الموت. وكان يشاور أصحابه في أمر الجهاد قال أبو هريرة:"ما رأيت أحدًا أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان يسير في عقب العسكر ويحمل من أعبائه ويرفق في سيره أتم الرفق، ويرسل الجواسيس إلى الأعداء ويقدم الطلائع والمقدمات بين يديه، ويبث الخيل حول العسكر وكان إذا قابل العدو استقام ودعا الله وسأله النصرة واشتغل بذكر الله هو وأصحابه ثم أخذ في ترتيب العسكر بنفسه صلى الله عليه وسلم وكان يعين المقاتل المبارز وفي حضرته تقع المبارزة بأمره، وكان يلبس لأمة الحرب وربما ظاهر بين درعين وكان في عسكره الرايات والأعلام، وكان إذا ظهر على قوم أقام بساحتهم ثلاثة أيام ثم رجع وكان إذا أراد الغارة على قوم انتظر، فإن سمع فيهم أذانا لم يغر عليهم، وكان في بعض الأحيان يأتي العدو بيتًا وقد يشن الغارة بالنهار، ويحب السفر يوم الخميس، وكان إذا نزل العسكر في منزل جمع بينهم حتى لو أن أحدًا غطاهم بثوب لعمهم جميعًا، وكان يعبي الصفوف بنفسه، وفي وقت القتال كان يعين الشجعان بيده ويقول: يا فلان تقدم يا فلان تأخر، وفي بعض الأحيان عند لقاء العدو قرأ هذا الدعاء "اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم سيهزم الجمع ويولون الدبر بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر، اللهم أنزل نصرك، اللهم أنت عضدى وأنت نصيرى وبك أقاتل" وكان إذا التحم الحرب وحمى الوطيس وقصده العدو قال بأعلى صوته:"أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب" وكان
الشجعان من أصحابه إذا اشتد بهم الأمر اتقوا به، وكان أقربهم إلى العدو، وكان يعين لأصحابه شعارًا يعرف به بعضهم بعضًا، وكان شعارهم مرّة (أمت أمت)، ومرة (يا منصور يا منصور)، وحينًا (حم لا ينصرون). وكان في بعض الأحيان يلبس الدرع ويجعل الخوذة على رأسه ويتقلد حمائل السيف ويحمل الرمح ويعتضد القوس، وربما رفع الدرقة وكان يحب التبختر في حال الحرب ويسوى المنجنيق على الأعداء، كما فعل في الطائف، ونهى عن قتل النساء والأطفال وأمر المقاتلة أن ينظروا، فمن ثبت قتلوه ومن لم يثبت استحيوه وأسروه. وكان إذا أرسل طائفة للغزو أمرهم بتقوى الله فقال:"سيروا باسم الله وفي سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله ولا تمثلوا ولا تغدروا ولا تقتلوا وليدًا".
ونهى صلى الله عليه وسلم عن حمل القرآن إلى دار الحرب، وكان إذا بعث سرية أمر أميرها أن يدعو إلى الإسلام والهجرة أو الإسلام فقط بغير هجرة ويكون حكمهم حكم أعراب السلمين لا نصيب لهم في مال الفئ، ويبذلوا الجزية، وإن امتنعوا من جميع ذلك استعان بالله وقاتلهم. وكان صلى الله عليه وسلم إذا ظفر بقوم أمر أن ينادى بجميع الغنائم كلها، ثم ابتدأ بالسلب فأعطى كل قاتل سلب مقتوله - يعني ثيابه وما عليه - ثم يخرج خمس الباقي ويصرفه في مصالح الإسلام كما عينها الله تعالى، وما بقى منه أعطى منه النساء والصبيان والأرقاء، ثم قسم الباقي بين العسكر للفارس ثلاثة أسمهم وللراجل سهم. هذا هو الصحيح. والأنفال من صلب الغنيمة على ما يرى فيه من المصلحة.
وقال بعضهم: كانت الأنفال من جملة الخمس. وبعضهم يقول: من خمس الخمس، وذا أضعف الأقوال. وفي بعض الغزوات أعطى سلمة بن الأكوع خمسة سهام؛ لأنه في تلك الغزوة وافقه توفيق عظيم، وظهر من إقدامه أمور عجيبة. وكان صلى الله عليه وسلم، يسوي بين الضعيف والقوى في القسمة، وكان إذا قصد ديار العدو في بعض الأحيان يرسل سرية، فإذا ظفروا بغنيمة أخرج منها الخمس وأخرج الربع من الباقي وخص به السرية، وقسم الباقي بينهم وبين العسكر بالسوية، ومع هذا كان يكره النفل ويقول: "ينبغي للأقوياء أن
يردوه على الضعفاء وكان له صلى الله عليه وسلم من الغنيمة سهم خاص، يقال له:"الصفى" إِذا أراد عبدًا أو أمة أو فرسًا، أو ما أحب أخذه قبل الخمس، وصفية أم المؤمنين وذو الفقار من تلك الجملة، وإن غاب أحد عن المعركة لمصلحة المسلمين دفع له سهمًا كما فعل مع عثمان في يوم بدر، حيث كان مشغولًا بتمريض ابنة النبي صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم:"إن عثمان انطلق في حاجة الله وحاجة رسوله" فضرب له بسهمه وأجره، وسهم ذوي القربى، وكان يقسمه بين بني هاشم وبني المطلب، ولا يعطى لإخوانهم من بنى عبد شمس وبنى نوفل شيئًا. وقال:"إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد وما وجدوا في المغازى من طعام مثل العسل والعنب والجوز وغير ذلك أكلوه".
أخذ عبد الله بن مغفل جراب شحم، وقال: لا أعطى أحدًا منه شيئًا، فأقره على ذلك. وكان يشدد في أمر الغلول والخيانة تشديدًا عظيمًا ويقول:"هو نار وعار وشنار على أهله إلى يوم القيامة"، وغل شخص فأمر باحراق ما اختانه، وكذلك فعل أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وهذا من باب التعزير بالمال والله أعلم.