المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل صفة حج الرسول صلى الله عليه وسلم - سفر السعادة للفيروزابادي

[الفيروزآبادي]

فهرس الكتاب

- ‌الفيروزآبادي

- ‌تقديم كتاب "سفر السعادة

- ‌مقدمة المؤلف

- ‌فاتحة الكتاب في ذكر حال سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم قبل نزول الوحي وبيان عباداته في تلك الأيام

- ‌باب طهارة حضرة صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم

- ‌باب في صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌فصل كيفية صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌فصل سجود الرسول صلى الله عليه وسلم أثناء صلاته

- ‌فصل قيام وسجود الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌فصل كيف كان الرسول صلى الله عليه وسلم يؤدي صلاته

- ‌فصل سلام الرسول صلى الله عليه وسلم في آخر صلاته

- ‌فصل أدعية النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة

- ‌فصل سعادة الرسول صلى الله عليه وسلم في الصلاة

- ‌فصل في نسيان الرسول صلى الله عليه وسلم في الصلاة

- ‌فصل الرسول وعيونه أثناء صلاته

- ‌فصل أدعية النبي بعد فروغه من الصلاة

- ‌فصل في بيان السنن والرواتب التي كان يواظب عليها في كل يوم صلى الله عليه وسلم

- ‌فصل اضطجاع الرسول صلى الله عليه وسلم بعد صلاة الفجر

- ‌فصل في قيام الليل

- ‌فصل صلاة الليل للنبي صلى الله عليه وسلم

- ‌فصل النافلة من صلاة النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌فصل دعاء القنوت للنبي محمد صلى الله عليه وسلم

- ‌فصل في صلاة الضحى وعادة الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك

- ‌فصل صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في شكر الله

- ‌فصل سجدات القرآن ومحافظة النبي في أدائها

- ‌فصل في فضل يوم الجمعة وعبادات النبي صلى الله عليه وسلم فيه

- ‌فصل تعظيم النبي محمد صلى الله عليه وسلم ليوم الجمعة

- ‌فصل في الخطبة النبوية في يوم الجمعة

- ‌فصل في صلاة العيد

- ‌فصل في عباداته صلى الله عليه وسلم في حال الاستسقاء

- ‌فصل في عبادات السفر

- ‌فصل في عادة الحضرة النبوية صلى الله عليه وسلم حال قراءة القرآن واستماعه وكمال خضوعه وخشوعه وبكائه حال سماعه

- ‌فصل في العادات النبوية في تفقد المريض

- ‌فصل في العادة النبوية في أحوال الميت وأداء حقوقه

- ‌فصل الصلاة أثناء معارك الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌فصل مراعاة النبي صلى الله عليه وسلم لأحوال الفقراء في الزكاة

- ‌فصل في زكاة الفطر

- ‌فصل في أسباب انشراح صدر حضرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أنزلت فيه سورة (ألم نشرح لك صدرك) للإمتنان بتلك النعمة

- ‌باب صيام النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌فصل صيام النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌فصل إفطار الرسول صلى الله عليه وسلم خلال رمضان

- ‌فصل في صيام النافلة

- ‌فصل اعتكاف النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌باب حج النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌فصل حج النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌فصل في سياق حج الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌فصل صفة حج الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌فصل في دخول الكعبة والوقوف بالملتزم في طواف الوداع

- ‌فصل بيان الرسول صلى الله عليه وسلم للذبائح

- ‌فصل في قربان رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌فصل في السنة النبوية في العقيقة

- ‌فصل قول الرسول في تسمية العنب كرما

- ‌باب أذكار النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌فصل في أذكار النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌فصل ارتداء الرسول لثوب جديد

- ‌فصل الأدعية المأثورة لرسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌فصل النبي وأدعيته في مناسبات معينة

- ‌فصل في أذكار الأذان

- ‌فصل تكبيرات الرسول في عيد الأضحى

- ‌فصل ذكر الرسول عند رؤية الهلال

- ‌فصل تسمية الرسول لله عند الطعام

- ‌فصل الأذكار عند الطعام

- ‌فصل في السلام والآداب النبوية في هذا الباب

- ‌فصل في الاستئذان

- ‌فصل آداب النبي في العطاس

- ‌فصل صلاة النبي للاستخارة

- ‌فصل أذكار النبي في سفره

- ‌فصل تعليم الرسول خطبة الحاجة

- ‌فصل في ألفاظ ليس في كراهتها خلاف

- ‌باب في عموم أحواله صلى الله عليه وسلم ومعاشه وهو مشتمل على فصول

- ‌فصل في طعامه صلى الله عليه وسلم

- ‌فصل في لباسه صلى الله عليه وسلم

- ‌فصل أمر الرسول في الملابس

- ‌فصل في العادة النبوية في معاشرة أزواجه الطاهرات ومباشرتهن

- ‌فصل في نوم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقظته

- ‌فصل في الركوب

- ‌فصل في ممتلكات النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌فصل في عادة الرسول في أحواله العمومية

- ‌فصل في أخلاق النبي

- ‌فصل في الطب النبوى الشريف

- ‌فصل في عادة الرسول في معالجة الأمراض

- ‌فصل في علاج الطاعون والوباء

- ‌فصل في الاستسقاء

- ‌فصل في علاج الجراحات

- ‌فصل الرسول وأقواله في الحجامة

- ‌فصل أقوال النبي في الكي

- ‌فصل في علاج عرق النساء

- ‌فصل في معالجة يبس المزاج

- ‌فصل في الحكة

- ‌فصل في ذات الجنب

- ‌فصل في علاج الصداع

- ‌فصل قول النبي في طعام المريض وشرابه

- ‌فصل أمره بعلاج العذرة

- ‌فصل في أقوال النبي عن وجع القلب

- ‌فصل الأخذ بأقوال النبي عن الحمية

- ‌فصل في أمر النبي في دواء وجع العين

- ‌فصل في أقوال النبي في دواء الخدر

- ‌فصل في إصلاح الطعام والشراب الذي سقط فيه الذباب

- ‌فصل في أمر النبي في علاج البثرات

- ‌فصل في أمر النبي بمعالجة المريض بالكلمات المطيبة للنفس

- ‌فصل في علاج السم

- ‌فصل في علاج السحر

- ‌فصل في قول النبي عن العلاج بالقئ

- ‌فصل من يعالج بغير معرفة

- ‌فصل في أمر الرسول باجتناب معاشرة أرباب الأمراض

- ‌فصل في منع الرسول عن التداوى بالمحرمات

- ‌فصل في علاج القمل

- ‌فصل المعالجة بالأدوية الروحانية الربانية والأدوية المركبة منها ومن الطبيعة

- ‌فصل الذي يقوله الرسول في معالجته المرضى

- ‌فصل في علاج الكرب والغم والهم والحزن

- ‌فصل في العادة النبوية في الطعام والشراب

- ‌فصل تدبير النوم واليقفة

- ‌فصل في الجماع والباه

- ‌فصل في استعمال الرسول للطيب

- ‌فصل في مسكن ومنزل الرسول

- ‌فصل في حفظ صحة العين

- ‌فصل في القرض السلف

- ‌فصل في صفة مشية صلى الله عليه وسلم

- ‌فصل في كلام النبي صلى الله عليه وسلم وسكوته وضحكه وبكائه صلى الله عليه وسلم

- ‌فصل في الفطرة وتوابعها

- ‌فصل قول الرسول صلى الله عليه وسلم في قص الشارب

- ‌فصل في الجهاد وآدابه

- ‌خاتمة الكتاب

الفصل: ‌فصل صفة حج الرسول صلى الله عليه وسلم

‌فصل صفة حج الرسول صلى الله عليه وسلم

-

وقع السهو لخمس من الطوائف في صفة حج رسول الله صلى الله عليه وسلم:

الطائفة الأولى: هم القائلون بأنه حج مفردا، ولم يعتمر إذ ذاك (1).

الطائفة الثانية: هم القائلون بأنه تمتع بالعمرة، ثم أحل ثم أحرم بالحج.

الطائفة الثالثة: هم القائلون بأنه تمتع ولم يحل من إحرامه لأنه ساق الهدي.

الطائفة الرابعة: هم القائلون بأنه كان قارنا قرانا جمع فيه بين طوافين وسعيين.

الطائفة الخامسة: هم القائلون بأنه كان مفردا، ثم بعد ذلك أحرم بالعمرة من التنعيم.

وأما إحرام الرسول صلى الله عليه وسلم فوقف في سهو، لخمس طوائف أيضا:

الطائفة الأولى: هم القائلون بأنه لبى بعمرة مجردة واستمر على ذلك.

الطائفة الثانية: هم القائلون بأنه لبى بالحج مفردا واستمر عليه.

الطائفة الثالثة: هم القائلون بأنه لبى بعمرة ثم أدخل عليها الحج.

الطائفة الرابعة: هم القائلون بأنه لبى بالحج مفردا ثم بعد ذلك أدخل عليه العمرة وهذا من خصائصه.

الطائفة الخامسة: هم القائلون بأن إحرامه كان مطلقا، ولم يعين نسكا ثم بعد ذلك جاء الوحي بالتعيين. ولما صلى الظهر أحرم، ولبى، ثم ركب ناقته، ولما انبعثت ناقته (2) لبى أيضا ثم لما صعد على طرق البيداء لبى أيضا، وكان حينا يقول لبيك بحجة وعمرة، وحينا يقول لبيك بحجة.

(1) انظر صحيح البخاري رقم (319 ج 1 ص 419)، ومسلم برقم (1211 ج 2 ص 870، 871).

(2)

انظر صحيح مسلم (ج 4 ص 37) حديث حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ص: 142

وكان يقول: "لبيك اللهم لبيك، لبيك، لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، وكان يرفع صوته ليسمع جميع الصحابة ويقول: ارفعوا أصواتكم"(1).

وكان راكبا على بعير، عليه رجل وليس عليه شقدف، ولا محارة، ولا محمل، ولا هودج، ولا محفة، وداوم يلبي على هذه القاعدة، والصحابة يزيدون، وينقصون في التلبية، ولم ينكر عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وجمع شعر رأسه صلى الله عليه وسلم في مدة الإحرام، ولبده بالخطمى، والغسل - بكسر الغين المعجمة - وهو عبارة عن دواء يجتمع به الشعر (2).

ولا وصل إلى منزل الروحاء رأى حمار وحش مجروحا فقال "دعوة فسيأتي الذي جرحه عن قريب، فأتى على الفور وقال: يا رسول الله إفعلوا بصيدي ما شئتم، فأمر أبا بكر فقسمه على الرفاق، ثم وصل الى منزل اثابة - وهو منزل بين الروية والعرج - رأى ظبيا نائما في ظل شجرة فأمر شخصا أن يكون بالقرب منه، لئلا يتعرض له أحد من المحرمين، ولا بلغ العرج تخلف غلام لأبي بكر معه جمل، هو زاملة الرسول وأبي بكر، فانتظروه زمانا، ولا وصل لم يروا الجمل معه، فقال أبو بكر: أين البعير؟ قال: فقدته، فقام إليه أبو بكر وضربه على سبيل التأديب، وهو يقول: جعلناك على بعير واحد فضيعته، والرسول صلى الله عليه وسلم يبتسم ويقول: انظر إلى هذا المحرم ما يصنع. ولم يزد

(1) رواه مسلم في كتاب الحج باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم حديث رقم (1218 ج 2 ص 886 - 892)، وأبو داود في كتاب المناسك باب صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم حديث رقم (905 - / 182) والنسائي (ج 5 ص 143 - 144) وابن ماجه في كتاب المناسك باب حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم برقم (3074 - 2/ 1022).

(2)

جاء في لسان العرب: الغسل - بكسر الغين - والغسله - بكسر الغين: ما يغسل به الرأس من خطمى، وطين، وأشنان. ونحوه.

والغسلة: أيضا: مما تجعله المرأة من شعرها من الطيب عند الامتشاط.

والغسلة: الطيب. يقال: غسلة مطراة. ابن منظور لسان العرب (ج 2 ص 988).

ص: 143

على هذا، ولما بلغ الأبواء جاء إليه صعب بن جثامة بحمار وحش هدية، فلم يقبله منه (1).

ولما رأى الكراهية في وجهه قال: لم نرد هديتك، لكنا محرمون، ولما بلغ وادي عفان قال: يا أبا بكر أتعلم أي وادي هذا؟ فقال: وادي عفان، قال: لقد مر بهذا الوادي هود، وصالح، عليهما السلام. على جملين أحمرين خطامهما من ليف، وعليهما أزاران من صوف، ورداءان من صوف هما عباءتان، وهما يلبيان بالحج.

ولما بلغ "سرف" حاضت عائشة فحزنت وبكت فقال: لما تبكين؟ لعلك حضت. قالت: نعم. قال: لا تهتمين هذا شيء كتبه الله على بنات آدم، وليس حجك نقص، اعملي كل ما يعمله الحاج لكن لا تطوفي بالبيت، وكانت عائشة قد أحرمت بالعمرة فقط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اغتسلي وأحرمي بالحج ففعلت. ولما رأت الطهر طافت وسعت.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد أحللت من الحج والعمرة؟ فقالت: إني لأجد في نفسي دغدغة، لأني ما طفت العمرة إلا بعد الوقوف، فأمر أخاها عبد الرحمن أن يمضى بها لتحرم من التنعيم وتأتى بعمرة (2)

وللعلماء في هذه العمرة أقوال:

قال بعضهم: هي عمرة زيادة أمر بها لتطييب خاطر عائشة رضي الله عنها، وجبر قلبها، وإلا فطوافها وسعيها كاف عن حمجها وعمرتها، وهي كانت متمتعة، وأدخلت الحج على العمرة. فصارت قارنة، وذا أصح الأقوال، والأحاديث لا تدل على غيره.

(1) متفق عليه رواه البخاري في كتاب جزاء الصيد باب إذا أهدى للمحرم حمارا وحشيا حيا لم يقبل، حديث رقم (1825 - 4/ 31)، رواه في كتابه الحج باب تحريم الصيد للمحرم حديث رقم (1193 ج 2/ 850)، ورواه الترمذي برقم (849 ج 3/ 206)، ومالك في الموطأ برقم (83 ج 1/ 353)، والنسائي (ج 5 ص 183، 184).

(2)

متفق عليه وأورده الشوكاني في نيل الأوطار (ج 4 ص 298).

ص: 144

وقال بعض العلماء: لما حاضت أمرها برفض العمرة الأولى، التي كانت أحرمت بها وهذا قول الإمام أبي حنيفة وأصحابه، ولما وصل الرسول صلى الله عليه وسلم "سرف" (1) قال: من لم يسق الهدي، وأراد أن يجعل نسكه عمرة، فليفعل، ومن ساق الهدي فليمض على نسكه، ولما وصل مكة قال على طريق الجزم والوجوب: "من لم يسق الهدي فليجعل نسكه عمرة وليحل من إحرامه ومن ساق الهدي فليقم على إحرامه، وقال: لولا أني سقت الهدي لأحللت.

ولما وصل إلى ذي طوى قبل دخوله مكة، نزل ثم بات ليلة الأحد الخامس (2) من ذي الحجة، وصلى الصبح هناك، واغتسل، ودخل مكة بعد طلوع الشمس بهنيئة من طريق الحجوان (3)، ولما وصل إلى باب بني شيبة، وشاهد الكعبة أخذ يدعو بهذا الدعاء "اللهم زد بيتك هذا تشريفا، وتكريما، ومهابة".

وفي بعض الروايات: أنه لما نظر إلى الكعبة، ورفع يديه، وقال: اللهم أنت السلام ومنك السلام، حينا ربنا بالسلام، الله زد هذا البيت تشريفا، وتعظيما، وتكريما، ومهابة، وزد من حجه، واعتمره تكريما، وتشريفا، وتعظيما، وبرا.

ولما دخل المسجد قصد نحو الكعبة، ولم يصل تحية المسجد، ولما حازى الحجر الأسود استلمه، ولم يرفع يديه، ولم يكبر كما يفعله الجهال، ثم أخذ في الطواف وجعل الكعبة، على جانبه الأيسر ولم يرد شيء من الأدعية في مكان بعينه، بإسناد صحيح، إلا الدعاء بين الركن اليمانى، والحجر الأسود، فإنه قال هناك:"ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار"(4) ورمل في ثلاثة أشواط.

(1) مكان. يقال له: سرف.

(2)

لعله الرابع فقد صح أنه دخل لأربع خلون من ذي الحجة، وإن الوقوف كان يوم الجمعة انظر صحيح مسلم (ج 1 ص 355).

(3)

هو جبل مشرف بمكة، وقيل موضع بمكة.

(4)

سورة البقرة آية 201.

ص: 145

والرمل أن يسرع في مشيته ويقارب بين خطواته، كما يفعله المصارعون، وأخرج رداءه من تحت إبطه الأيمن وجعله على كتفه الأيسر، وسار في بقية الطواف على هيئة، وكلما حاذى الحجر الأسود أشار إليه بمحجن كان في يده، ثم قبل رأس ذلك المحجن.

والمحجن عصا قصيرة في رأسها اعوجاج، وكان إذا حاذى الركن اليماني، أشار إليه بالاستلام، ولم يثبت أنه إذ ذاك قبل يده أو قبل المحجن.

وأما الحجر الأسود فإنه قبله، ووضع وجهه المبارك عليه، وفي بعض الأحيان كان يضع يده عليه ثم يقبلها، وكان يقول في حال الاستلام:"بسم الله والله أكبر" وكلما حاذى الحجر الأسود قال: "الله أكبر وكان في بعض الأحيان يضع جبهته عليه ساجدا، ثم يقبله، كل هذا ثابت في الصحيح (1) وكان إذا فرغ من الطواف قام خلف المقام وتلا قوله تعالى:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} (2) ثم صلى ركعتى الطواف، والمقام إذ ذاك كان موضوعا قريبا من الكعبة، وقرأ في الركعة الأولى: الفاتحة. وقل يا أيها الكافرون. وفي الثانية الفاتحة، وقل هو الله أحد.

ثم بعد الصلاة توجه إلى الحجر الأسود، وجاء فاستلمه، ثم خرج من أوسط أبواب الصفا، وهي خمسة، ثم قصد الصعود، ولما قرب منه تلا قوله تعالى:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} (3) ثم قال: "ابدأ بما بدأ الله به".

وفي رواية النسائي "ابدئوا" على صيغة الأمر، ثم صعد على الصفا، قدر ما يتمكن معه من مشاهدة الكعبة، ثم استقبلها وكبر الله أكبر، وقال "لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله، وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده".

(1) انظر صحيح البخاري في كتاب الحج حديث رقم (1577 ج 3 ص 437)، ومسلم في كتاب الحج، حديث رقم (1258 ج 2 ص 918)، وأبو داود في كتاب المناسك برقم (1868 ج 2 ص 174)، والترمذي برقم (853 ج 3 ص 209).

(2)

سورة البقرة آية 125.

(3)

سورة البقرة آية 158.

ص: 146

ثم دعا وقال: "اللهم إنا نسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك، والغنيمة من كل برد، والسلامة من كل إثم، لا تدع لي ذنبا إلا غفرته، ولا هما إلا فرجته، ولا كربا إلا كشفته، ولا حاجة إلا قضيتها" ثم هلل ثلاثا ثم دعا بما أحب ثم هبط (1).

وروت صفية بنت شيبة: أنه كان يقول بين الصفا والمروة: "رب اغفر وارحم إنك أنت الأعز الأكرم"(2)، وكان يسعى ماشيا يسير من الصفا إلى المروة، ومن المروة إلى الصفا. فلما اشتد الزحام ركب ناقته وتمم سعيه، راكبا، وأما طواف القدوم، فإنه كان فيه ماشيا - كما ذكرنا - لما روى جابر أنه رمل في الأشواط الثلاثة، الأول، وذا لا يتصور للراكب، وأما طواف الركن فإنه أتى به راكبا لعذر، وكان يختم السعى بالمروة.

وكلما وصل إليها، قرأ الأذكار، والدعوات، التي قرأها على الصفا، ولما تمم السعى، قال للصحابة:"ألا من لم يسق الهدى فليجعلها عمرة" وفرض عليهم التحلل التام من وطء، وطيب، ولبس مخيط، ثم أفاءوا على ذلك إلى يوم التروية وهو الثامن من ذي الحجة وقال صلى الله عليه وسلم:"لولا أنى سقت الهدى لأحللت"(3).

وأما ما ورد في بعض الروايات من أنه صلى الله عليه وسلم أحل، فإنه لم يثبت بل هو غلط، وهنا دعا فقال:"اللهم ارحم المحلقين" ثلاث مرات، "والمقصرين" فالها مرة (4)، وسأل سراقة بن مالك رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفسخ، والإحلال، أخاص هو في هذا العام، أم حكم دائم؟ فقال:"بل حكم دائم إلى الأبد"(5)،

(1) رواه مسلم مطولا في كتاب الحج باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم، حديث رقم (1218 - 2/ 886 - 892)، وأبو داود في كتاب المناسك باب صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم حديث رقم (1905 - 2/ 182)، والنسائي في كتاب الحج (ج 5 ص 143 - 144)، وابن ماجه، حديث رقم (3074 في 2 ص 1022).

(2)

أخرجه أحمد في مسنده وانظر منتقى الأخيار (ج 5 ص 50 - 51).

(3)

انظر صحيح مسلم (ج 2 ص 886 - 892).

(4)

متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب الحج، باب الحلق والتقصير حديث رقم (9113 ج 3 ص 256)، وأخرجه مالك في الموطأ في كتاب الحج باب الحلق حديث رقم (184 ج 1 ص 395).

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الحج، وأبو داود في سننه، كتاب المناسك، ولمسلم معناه. وانظر منتقى الأحبار (ج 4 ص 334).

ص: 147

وأبو بكر، وعمر، وعلي، وطلحة، والزبير، لم يحلوا من إحرامهم لما ساقوه من الهدي، وأمهات المؤمنين أحللن، وكذا فاطمة رضي الله عنها فإنها لم يكن معها هدى، وفي هذه المدة حيث أقام قصر الصلاة، بمنزله ظاهر مكة، ولما مضت أربعة أيام: الأحد، والاثنين، والثلاثاء، والأربعاء. وتضحى النهار من يوم الخميس، توجه بجميع الناس إلى منى، وأحرم إذ ذاك بالحج، من كان قد أحرم كل واحد من منزله.

ولما وصل صلى الله عليه وسلم إلى منى نزل وصلى الظهر، والعصر، وبات بمنى، وكانت ليلة الجمعة.

ولما ارتفعت الشمس، سار من منى على طريق ضب إلى عرفة، وكان بعض الصحابة يكبر، وبعضهم يلبى، ولم ينكر صلى الله عليه وسلم على أحد ولما بلغ إلى ثمرة - وهو موضع في قريب من عرفات - وجد قبته قد ضربت هناك، فنزل، وأقام، حتى زالت الشمس، ثم أمرهم بشد رحل ناقته، وركبها، وخطب خطبة بين فيها قواعد الإسلام بأسرها اقتلع أساس الشرك والجاهلية بالكلية" (1).

وذكر ما كان محرما في جميع الملل، وجعل أوضاع الجاهلية بأسرها، وكل ربا كان فيها تحت قدمه، ووصى أمته، بملاطفة النساء، وأمرهم بالتمسك بكتاب الله، وأخبرهم أنهم لن يضلوا ما داموا به متمسكين.

ثم سألهم ماذا تقولون، وبماذا تشهدون؟ قالوا نشهد أنك بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، ونصحت الأمة، فرفع صلى الله عليه وسلم أصبعه نحو السماء. وقال:"اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد"(2).

ثم قال: "ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب" ثم نزل وأمر بلال بالأذان والإقامة، وصلى الظهر والعصر جمعا وقصرا، وصلى معه أهل مكة كما صلى.

(1) أخرجه مسلم مطولا (ج 2 ص 886 - 892) برقم (1218)، وأبو داود حديث رقم (1905 ج 2 ص 182)، والنسائي (ج 5 ص 143 - 114)، وابن ماجه برقم (3074 ج 2 ص 1022 - 1027).

(2)

الرواية في صحيح مسلم (ج 4 ص 38 - 43) من حديث جابر، وانظر بعض الخطبة في صحيح البخاري وفتح الباري (ج 8 ص 108)، وانظر الفتح الرباني (ص 279 - 281)، والبداية والنهاية لابن كثير (ج 5 ص 209).

ص: 148

ثم بعد ذلك ركب وسار الى عرفات، ولما قرب من الصخرات الكبار استقبل القبلة ووقف على راحلته وأخذ في الدعاء، والتضرع، والابتهال إلى أن غربت الشمس، ثم سار وقال:"عرفات كلها موقف لا يخص مكان دون مكان"، وكان في حالة الدعاء قد رفع يديه، نحو صدره كالسائل المسكين.

ومن جملة ما حفظ عنه من دعوات ذلك الموقف "اللهم لك الحمد الذي نقول، وخير مما نقول، اللهم لك صلاتى، ونسكى، ومحياى، ومماتى، وإليك مآبى، ولك رب تراثى، اللهم إنى أعوذ بك من عذاب القبر، ووسوسة الصدر، وشتات الأمر، اللهم إنى أعوذ بك من شر ما تجئ به الريح، اللهم إنك تسمع كلامى، وتعلم سرى، وعلانيتى ولا يخفى عليك شيء من أمرى، أنا البائس الفقير، المستغيث، المستجير، الوجل، المشفق المقر، المعترف بذنوبى. أسألك مسألة المسكين، وابتهل إليك ابتهال المذنب الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، من خضعت لك رقبته، وفاضت لك عيناه، وذل جسده ورغم أنفه لك، اللهم لا تجعلنى بدعائك رب شقيا، وكن بى رؤوفا، رحيما، يا خير المسئولين، ويا نصير المعطين" هذا الدعاء ثابت في معجم الطبراني (1).

وروى الإمام أحمد في مسنده، أن أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في يوم عرفة:"لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد بيده الخير وهو على كل شيء قدير"(2).

وفي سنن البيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أكثر دعائى، ودعاء الأنبياء في يوم عرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. اللهم اجعل في قلبى نورا، وفي سمعى نورا، وفي بصرى نورا، اللهم اشرح لي صدرى، ويسر لي أمرى، أعوذ بك من وسواس الصدر،

(1) لم نعثر عليه. وذكر صاحب منتقى الأخيار نحوه (ج 3 ص 61).

(2)

رواه أحمد والترمذي وذكره صاحب الأخيار (ج 5 ص 60، 61)

ص: 149

وشتات الأمر، وفتنة القبر، اللهم إنى أعوذ بك من شر ما يلج في الليل، وشر ما يلج في النهار، وشر ما تهب به الرياح. ومن شر بوائق الدهر" (1).

ونزل في الآيات في عرفات {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (2)، وفي ذلك اليوم سقط رجل عن راحلته بعرفات، فأمرَ النبي صلى الله عليه وسلم أن يَغسل بالماء والسدر، وأن يدرج في ثوبى إحرامه، وأن لا يطيب، ولا يغطى رأسه، ولا وجهه وقال:"إنه يبعث ملبيا"(3).

ولما أفاض بعد تمام الغروب، كان أسامة بن زيد رديفه وكان صلى الله عليه وسلم يجذب زمام الراحلة، بحيث أنه كان رأسها يحك الرجل وكان يقول:"أيها الناس اتئدوا مهلا مهلا، ليس الخير في السوق، ولا التقوى في العجلة".

وكان يرجع في طريق المأزمين، يقصد ما قصده في الخروج، إلى مصلى العيد من طريق، والرجوع من أخرى.

وفي أثناء ذلك ربما أرخى زمام راحلته، ليكون السير بين السريع والبطئ. وإذا وصل إلى مكان وسيع حركها بسرعة، وإذا بلغ نشرا من الأرض أرخى لها لتسير الهوينا.

وكان يلبي في طريقه، وما إلى بعض الشعاب، ونقض وضوءه، ثم توضأ، وضوءا خفيفا، فقال أسامة: الصلاة يا رسول الله. فقال صلى الله عليه وسلم أمامك ثم ركب حتى أتى "المزدلفة" فتوضأ وضوءا كاملا، ثم أمر بالأذان، والإقامة، وصلى المغرب قبل أن تحل الرحال، بل قبل أن تناخ الجمال، ولم حلوا رحالهم، أقيمت الصلاة، وصلى العشاء بغير أذان، لم يصل بين هذين الفرضين، صلاة أصلا ثم بات بالمزدلفة إلى أن تنفس الصبح" (4).

(1) أخرجه الطبراني في المناسك، وفي إسناده قيس بن الربيع، والبيهقي وفي إسناده ابن عبيدة الربذي وهو ضعيف. وتفرد به عن أخيه عبد الله عن علي رضي الله عنه، قال البيهقي: ولم يدرك عبد الله عليّ، وانظر منتقى الأخيار (ج 5 ص 61).

(2)

صحيح البخاري بشرح فتح الباري (ج 8 ص 108) والآية رقم 3 من سورة المائدة.

(3)

انظر صحيح مسلم (4/ 38 - 43) وصحيح البخاري (فتح الباري 8/ 107)، وصحيح مسلم (1/ 82).

(4)

رواه مسلم في كتاب الحج باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم حديث برقم (1218 ج 2 ص 886 - 892)، وأبو داود برقم (1905 ج 2/ 182) والنسائي (5/ 143 - 144) وابن ماجه برقم (3074 ج 2/ 1022 - 1027).

ص: 150

ولم يحيي تلك الليلة، ولم يصح شيء من الأحاديث في إحياء ليلة العيد، ورخص لضعفاء قومه، أن يتقدموا إلى منى قبل طلوع الفجر، ولا يرمون إلا بعد الطلوع.

وأما قول عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أرسل أم سلمة في ليلة النحر، فرمت الجمار قبل الفجر، ثم مضت فطافت طواف الركن، ثم رجعت إلى منى. ففي إسناده مقالات وأنكره الأساطين من المحدثين.

وأرسل جمعا من النساء فرموا الجمر في الليل، لخوف الزحام (1)، وللناس في هذه المسألة ثلاثة أقاويل: يجوز عند الشافعى وأحمد، رمى جمرة العقبة بعد نصف الليل لكل.

وأبو حنيفة يقول: لا يجوز إلا بعد طلوع الفجر، وقال جماعة: لا يجوز للقادر إلا بعد طلوع الشمس بخلاف المعذور فإنه يجوز له ذلك.

ولما طلع الفجر صلى الصبح لأول وقتها لا قبل الوقت، كما يظنه البعض، ثم ركب وجاء إلى المشعر الحرام، وهو تل في وسط المزدلفة، عليه عمارة محدثة.

وأما قول بعض مشايخ الحديث والفقهاء: هو جبل صغير على يسار الحاج، وهذا المقام المشهور ليس بالشعر، فسهوا منهم.

والصحيح أن المشعر الحرام هذا المعروف المعمور، ثم وقف صلى الله عليه وسلم في المشعر الحرام، واستقبل القبلة، واشتغل بالدعاء، والتضرع، والابتهال والتكبير، والتهليل، إلى قريب طلوع الشمس، ثم دفع وقد أردف الفضل بن العباس، وأسامة يمشى بين قريش.

(1) أخرج الشيخان نحوه قالت عائشة رضي الله عنها: استأذنت سودة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة: أن تدفع قبله، وكانت ثبطة - تعني ثقيلة - فأذن لها. انظر صحيح البخاري في كتاب الحج، باب من قدم ضعفة أهله بليل حديث رقم (1680 ج 3/ 526) ، ومسلم في كتاب الحج باب استحباب تقديم الضعفة من النساء وغيرهم حديث رقم (1290 ج 2/ 939) ، والنساء (5/ 262).

ص: 151

وفي هذا الطريق أمر الفضل بن العباس، أن يلقط له حصى الجمار، فالتقط سبعا، أخذها صلى الله عليه وسلم، على كفه المبارك، وجلا (1) عنها الغبار. وقال:"أمثال هؤلاء فارموا (2) وإياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين".

وفي هذه الطريق اعترضته امرأة جميلة من هثعم، وقالت: إن أبي شيخ كبير، لا يستمسك على البعير، فأمرها بالحج عنه، فلاحظها رديفه الفضل بن العباس، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يده وقاية، لئلا يتلاحظا.

واعترضته أيضا امرأة وأخبرت أن أمها في غاية العجز، وأنها إن ربطت على البعير فربما هلكت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لو كان على أمك دين كنت تقضيه عنها أم لا؟ " فقالت: نعم كنت أقضيه. قال: "فدين الله أولى بالقضاء" ولما بلغ بطن محسر - وهو واد في أول منى - ساق راحلته سوقا شديدا وأسرع الخروج منه (3). وهكذا جرت العادة النبوية، في جميع المواطن، التي أنزل الله فيها البلاء، على أعدائه، وفي بطن محسر جرى على أصحاب الفيل، ما هو في القرآن.

وسمى محسرا لأن الفيل حسر فيه عن الحركة، وعجز عن السير نحو مكة، وبطن محسر برزخ بين منى والمزدلفة، وليس منهما كما أن عرنة ونمرة، برزخ بين عرفة والمشعر الحرام.

وكذلك لم يزل يحرك رحلته، في الطريق الوسطى، إلى أن هبط في الوادي الذي تجاه جمرة العقبة، فقام - والكعبة على يساره، ومنى على يمينه، ورمى الجمار سبعا - وهو راكب، واحدة بعد واحدة، في مجل الجمرات،

(1) يقال: جلا القوم عن أوطانهم. يجلون، وأجلوا: إذا خرجوا من بلد إلى بلد، وفي حديث الحوض: يرد على رهط من أصحابي فيجلون عن الحوض. هكذا روى في بعض الطرق أي ينفون ويطردون ويقول ابن الأعرابي: جلاه عن وطنه فجلا. أي طرده فهرب. ابن منظور لسان العرب (ج 1 ص 491، 492) ..

(2)

جاء في لسان العرب "يقال أفرمت الحوض، وأفعمته، وأفأمته: إذا ملأته. قال الجوهرى: أفرمت الإناء: ملأته. ابن منظور لسان العرب (ج 2 ص 1089).

(3)

انظر صحيح مسلم (ج 2 ص 886 - 892)، وأبي داود (ج 2 ص 182)، والنسائي (ج 5 ص 143 - 144).

ص: 152

يكبر مع كل واحدة، وبعد رمى الجمار، قطع التلبية، وفي ركابه أسامة بن زيد، وبلال، أحدهما أخذ بزمام الراحلة، والآخر يظله بمظلة، ليقيه حر الشمس.

ثم رجع إلى منزله، بالقرب من مسجد الخيف، وخطب خطبة بليغة، بلغ صوته إلى جميع أهل الخيام في خيامهم، وهذا من جملة المعجزات النبوية، أعلم فيها بحرمة يوم النحر، وفضله عند الله سبحانه وتعالى، وأمرهم بتعلم مناسك الحج، وقال لعليّ:"لا أحج بعد عامي هذا" وأمر بالسمع والطاعة، للأمراء الداعين إلى كتاب الله، وأنزل الأنصار والمهاجرين منازلهم، وقال:"اعبدوا ربكم، وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأطيعوا ذا أمركم، تدخلوا جنة ربكم" وودع الناس وقال: "ليبلغ الشاهد منكم الغائب"(1).

ثم سار إلى المنحر - وهو موضع مشهور في وسط سوق منى - ونحر ثلاثا وستين بدنة بيده، وهن قيام معقولات، وهذا عدد سنى عمره المبارك، وأمر أمير المؤمنين عليا بنحر تمام المائة، فنحر سبعا وثلاثين، وأمره أن يتصدق بجلالها (2) وجلودها وأن لا يعطى أجرة الجزار منها، بل من ماله صلى الله عليه وسلم.

وأما حديث أنس "أنه نحر سبعا" فتوهم بعضهم أنه معارض لهذا الحديث، وجوابه أن إنسانا شاهد سبعا، ثم غاب، وجابر شاهد تمام ثلاث وستين، وقال بعضهم: نحر سبعا بيده المباركة، إلى تمام ثلاث وستين، كان طرف الحربة بيد النبي صلى الله عليه وسلم وطرفها الآخر بيد عليّ، وبعد ثلاث وستين، نحر

(1) أخرجه الشيخان، صحيح البخاري (فتح الباري ج 8 ص 107)، وصحيح مسلم (ج 1 ص 82).

(2)

قيل: جل الدابة وجلها. الذي تلبسه لتصان به. والجمع: جلال. وإجلال. قال كثير:

ونرى البرق عارضا مستطيرا

سرح البلق جلن في الإجلال

وجمع الجلال: أجلة. وجلال كل شيء غطاؤه نحو الحجلة وما أشبهها. وتجليل الفرس: أن تلبسه الجل وتجلله أي علاه. وفي الحديث: "أنه جلل فرسا له سبق بردا عدنيا أي جعل البرد له جلا. وفي حديث ابن عمر: أنه كان يجلل بدنه القباطي. وفي حديث علي: اللهم جلل قتلة عثمان خزيا. أي غطهم به، وألبسهم إياه كما يتجلل الرجال بالثوب. ابن منظور لسان العرب (ج 1 ص 488).

ص: 153

أمير المؤمنين سبعا وثلاثين على انفراده، ولما فرغ من النحر أعلم أن منى كلها منحر (1)، وأن فجاج مكة كلها سبل.

وأن المنحر، والنحر، لا يختص ببعض الأماكن، وأمر بطلب الحلاق فحلق رأسه، ولما وقف الحلاق - وهو معمر بن عبد الله بن نضلة على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ الموسى بيده - قال له:"يا معمر أمكنك رسول الله صلى الله عليه وسلم من شحمة أذنيه، وفي يدك الموسى؟ " فقال معمر: ندم وإن ذلك لمن نعم الله على ومنه. قال: أجل.

ثم أشار إلى الحلاق أن يبدأ بالجانب الأيمن، فلما فرغ منه قسم الشعر على من حضر في ذلك الجانب.

ثم أشار إلى أن يحلق الجانب الأيسر، فأعطى جميع ذلك لأبى طلحة، وكان قد أخذ نصيبا من الجانب الأيمن قبل كل أحد، ولما فرغ من الحلق (2) - وكان قد أصاب كل أحد شعرة أو شعرتين - قلم أظافره، وقسم ذلك أيضا على الناس، وحلق أكثر الصحابة وقصر أقلهم.

ثم بعد ذلك سار إلى مكة قبل الزوال، فطاف. وهذا الطواف يسمى طواف الإفاضة وطواف الزيارة، وطواف الصدر (3).

وما ورد في بعض الأحاديث، من أنه صلى الله عليه وسلم أخر طواف الزيارة إلى الليل، فمشايخ الحديث، يقولون: هو غلط، ولا فرغ من الطواف جاء إلى بئر زمزم فوجدهم ينزعون الماء، فقال:"لولا أنى أخشى أنكم تغلبون لنزعت معكم، وأعنتكم على السقاية" فعرضوا عليه دلوا، فتناولها منهم، وشرب قائما، وشربه قائما إما لبيان جواز ذلك، وإما للضرورة والحاجة.

(1) انظر صحيح مسلم برقم (1218) حديث الباب (149 ج 2 ص 893)، وسنن أبي داود برقم (1936، 937 ج 2 ص 193، 194)، وابن ماجه برقم (3048 ج 2 ص 1013).

(2)

انظر صحيح البخاري في كتاب الحج، باب الحلق والتقصير عند الإحلال برقم (1727 ج 3/ 561) وصحيح مسلم (ج 2 ص 945)، وسنن أبي داود (ج 2 ص 202)، والترمذي (3/ 256)، وموطأ مالك باب الحلق (ج 1 ص 395).

(3)

أخرجه مسلم برقم (1218 ج 2 ص 892)، وأبو داود برقم (1905 ج 2 ص 182). والنسائي (ج 5 ص 143، 144)، وابن ماجه برقم (3074 ج 2 ص 1022).

ص: 154

وقد كان نبي الله في هذا الطواف راكبا راحلته، وسبب الركوب قال بعضهم: كثرة الازدحام، أو ليكون مشرفا على الناس ليراه الحاضرون، فيتعلموا الطواف وآدابه.

وقال بعضهم: كان في رجله المباركة عارض يؤذيه، فركب ضرورة، ورجع من حينه إلى منى، وصلى الظهر بها كذا في الصحيحين.

وفي صحيح مسلم أنه صلى الظهر بمكة، وأكثر العلماء يرجحون أنه صلى الظهر بمكة، لأن هذا الحديث رواه صحابيان جابر وعائشة، وذاك رواه ابن عمر.

الثاني: أن عائشة أخص وأعلم بأحواله، وبعضهم يرجح حديث ابن عمر لأنه متفق عليه، وليس فيه اضطراب، ورجال إسناده أعظم وأجل.

ولما رجع إلى منى بات بها، وأقام في اليوم الثاني إلى أن زالت الشمس، فسار على قدميه، قبل أداء صلاة الظهر نحو الجمرة الأولى، وهي التي تلى مسجد الخيف، ورمى سبعا يكبر مع كل، ولما فرغ من الرمى، تقدم قليلا إلى السهل، واستقبل القبلة، ودعا قدر سورة البقرة.

ولما فرغ من الدعاء أتى الجمرة الوسطى، ورمى كما فعل الأولى، وأخذ على الطريق اليسرى، ومشى خطوات، نحو وسط الوادي، ودعا قدر ما دعا في الأولى، وسار نحو جمرة العقبة واستقبلها، وجعل الكعبة على يساره، ومنى على يمينه، ورمى ورجع من حينه، ولم يشتغل بالدعاء، ولهذا وجهان:

إحداهما: أنه كان زحام عظيم ولم يتيسر الوقوف.

الثاني: أن دعاء هذه العبادة، كان قد أتى به في صلب العبادات، والدعاء في صلب العبادة، أفضل منه في غير العبادة، وكذا دعاء الصلاة غالبا كان في آخر التشهد قبل السلام، ولم يتعجل في النفر بل أقام ثلاثا، وبعد الرابع السبت، والأحد، والاثنين، وبعد الزوال من يوم الثلاثاء رمى، وسار إلى المحصب - وهو موضع خارج مكة يقال له الأبطح أيضا - فنزل به،

ص: 155

حيث كان أبو رافع المقدم على أحماله قد نزل ثمة، وضرب الخيمة بحسب الاتفاق لا عن أمر، فنزل صلى الله عليه وسلم وصلى الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء هناك، ونام قليلا.

فلما استيقظ ركب وسار إلى مكة وطاف للوداع (1). ولم يرمل، وفي هذه الليلة رغبت عائشة في العمرة فأجازها ليلا، وأرسل معها عبد الرحمن إلى التنعيم - وهو خارج عن الحرم - فأحرمت وجاءت إلى مكة، وتممت عمرتها قبل مضي الليل، ورجعت إلى المحصب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فرغتم؟ فقالوا: نعم: فأمر بالرحيل، فرحلوا بأجمعهم.

وطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم طواف الوداع (2)، ثم توجه الى المدينة، واختلف العلماء في التحصيب (3).

قال بعضهم: أمر اتفاقي، ولم يكن من السنن، ولا من الآداب.

قال بعضهم: هو من سنن الحج، وتمام المناسك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إنا نازلون غدا بخيف بنى كنانة، حيث تقاسموا على الكفر" والمراد بخيف بنى كنانة المحصب، لأن قريشا وبنى كنانة، تعاهدوا، وتحالفوا، هناك على أن لا يخالطوا بنى هاشم ولا يناكحوهم ولا يواصلوهم، حتى يسلموا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقصد صلى الله عليه وسلم أن يظهر شعائر الإسلام حيث أظهروا شعائر الكفر، والله أعلم.

(1) انظر صحيح البخاري في كتاب الحج (ج 3 ص 473)، ومسلم برقم (1269 ج 2 ص 925)، والترمذي في كتاب الحج برقم (858 ج 3 ص 213)، وأحمد في المسند (ج 1 ص 232 و 372).

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

انظر صحيح البخاري في كتاب الحج حديث رقم (1764 ج 2 ص 590).

ص: 156