الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل في العادة النبوية في أحوال الميت وأداء حقوقه
كانت عادته صلى الله عليه وسلم مشتملة على الإحسان العظمى إلى الميت، ومعاملته بأمور تنفعه في القبر، وفي القيامة، وعلى الإحسان لأقاربه وأهل بيته، وعلى تعليم الأحياء، ما يؤدون به حق العبودية، في معاملة الميت.
وأول الإحسان إلى الميت أنه كان يأمر بتجهيزه نحو آخرته، على أحسن الأحوال، وأفضل الصفات. ثم يقف صلى الله عليه وسلم وجميع أصحابه صفا، يستغفرون للميت، ويطلبون له الرحمة، من حضرة ذي العزة، ثم يسيرون معه إلى مدفنه، ويقوم هو وأصحابه على قبره يدعون له، ويسألون له التثبيت والرحمة، عند أشد ما يكون محتاجا إليها، ثم لا يزال يتعهد قبره، ويخصه بالدعاء، الذي يستوجب الروح، والراحة، والمغفرة، والرحمة.
وكان يعوده قبل موته، ويذكره بالآخرة، ويأمره بالتوبة، والوصية، ويأمر من حضر مريضا مشرفا أن يلقنه الشهادة، ليكون آخر كلامه كلمة التوحيد.
وكان يمنع من عادات أمم الذين لا يؤمنون بالبعث والنشر بحال، وينهى عن لطم الحدود، وشق الجيوب، وحلق الرأس، وأمثال ذلك، ويردع عليه ردعا بليغا، ويأمر بالحمد، والاسترجاع والرضا، ولا ينهى عن جرى الدمع، وحزن القلب.
ومع أنه كان أرضى الخلق لقضاء الحق، وأشكرهم، وأصبرهم، أجرى الدمع، وبكى لما توفى ولده ابراهيم، وعمره سنتان وقال:"تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضى الرب، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون"(1).
(1) متفق عليه رواه البخاري (ج 3 ص 139، 140)، ومسلم برقم (2315)، وأخرجه أبو داود برقم (3126).
وكان من كمال عاداته النبوية أن يأمر بتجهيز اليث، وتطهيره، وتنظيفه، ودفنه بسرعة، وأن يكفن في ثياب بيض.
وكانت الصحابة مدة إذا احتضر شخص، وأشرف على الموت، دعوا حضرة الرسول فحضر صلى الله عليه وسلم هناك إلى أن يتوفى، ويجهزه ويصلى عليه، ويشيعه إلى القبر، فلما رأت الصحابة ما في ذلك من المشقة، اقتصروا على أن يعلموه بعد وفاة الشخص، ليحضر التجهيز والصلاة والدفن، ثم رأوا أن هذا لا يخلو من مشقة، فكانوا يجهزون الميت، ويحملونه إليه صلى الله عليه وسلم ليصلى عليه حينا بالمسجد، وحينا خارجه، وكلاهما يجوز.
وفي الحديث المروي عن أبي هريرة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء له (1) " غلط، وصوابه مارواه الخطيب البغدادي.
وقال: هو في الأصل في شيء عليه (2).
وقال بعض أئمة الحديث: هذا الحديث ضعيف لأنه من إفراد صالح مولى التوءمة، وقد صلى على أبي بكر، وعمر في المسجد، بحضرة جميع المهاجرين والأنصار، ولم يصدر من أحد إنكار.
وكان يأمر أن يغسل الميت ثلاثا، أو خمسا، أو أكثر، على حسب ما يقتضيه رأى الغاسل، وأن يجعل في الغسلة الآخرة شيئا من الكافور، وكانوا لا يغسلون الشهيد، وينزعوا عنه السلاح، والملبوس، ويستعملون شيئا من الطيب، وإدا قصر الكفن غطوا رأسه، وجعلوا على رجليه شيئا من الأب (3).
(1) أخرجه أبو داود في سننه عن أبي هريرة، وابن ماجة في سننه، وذكره الشوكاني في نيل الأوطار (4/ 68).
(2)
وتصويب المصنف للحديث صحيح، لما في الصحيحين من تأييد لما ذهب إليه فقد روى مسلم عن عائشة أنها قالت: لما توفى سعد بن أبى وقاص ادخلوا به المسجد حتى أصلى عليه فأنكروا ذلك عليها فقالت والله ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سهيل بن البيضاء إلا في جوف المسجد. رواه الجماعة إلا البخاري، وانظر: نيل الأوطار (ج 4 ص 68)، وانظر صحيح مسلم برقم (973 - ج 2 ص 668)، وسنن أبي داود برقم (3189، 3190 - ج 3 ص 207)، والترمذي (3/ 351).
(3)
الأب: هو المرعى المهيأ للرعي. وقيل: هو من المرعى للدواب كالفاكهة للإنسان.
وكان من العادات إذا أحضروا ميتا، سأل صلى الله عليه وسلم هل عليه دين (1)؟ فإن لم يكن عليه دين صلى عليه، وإلا أمر أصحابه فصلوا عليه، ولما كثرت الفتوحات وظهرت الغنائم صلى صلى الله عليه وسلم على المديون، وقضى دينه، وكان إذا شرع في الصلاة، قرأ الفاتحة بعد التكبيرة الأولى.
والمحفوظ من الدعاء، الذي كان يقرأ في الصلاة على الميت. هذا:"اللهم اغفر له، وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا، كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله دارا خيرا من داره، وأهلا خيرا من أهله، وزوجا خيرا من زوجه، وأدخله الجنة، وأعذه من عذاب القبر، ومن عذاب النار"(2).
وحينا كان يقول: "اللهم اغفر لحينا، وميتنا، وصغيرنا، وكبيرنا، وذكرنا، وأنثانا، وشاهدنا، وغائبنا، اللهم من أحييت منها، فأحيه على الإسلام والسنة، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان، اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده"(3).
وفي بعض الأوقات. كان يقول: "اللهم إن فلان ابن فلان في ذمتك، وحبله جوارك، فقه من فتنة القبر، وعذاب النار، وأنت أهل الوفاء، والحق، فاغفر له، وارحمه إنك أنت الغفور الرحيم"(4).
وحينا كان يقول: "اللهم أنت ربها، وأنت خلقتها، وأنت رزقتها، وأنت هديتها للإسلام، وأنت قبضت روحها، تعلم سرها، وعلانيتها، جئنا شفعاء فاغفر لها"(5).
(1) وقال صلى الله عليه وسلم: "نفس المؤمن بدينه حتى يقضى عنه" رواه الترمذي برقم (1078 و 1079). وأخرجه أحمد (2/ 440 و 475 و 508)، والدارمى (2/ 262) وسنده حسن.
(2)
رواه مسلم في صحيحه برقم (963) وأخرجه أحمد في مسنده (ج 6 ص 23 و 28)، وذكره النووى في رياض الصالحين (ص 399).
(3)
أخرجه الترمذي في سننه برقم (1024)، وأبو داود برقم (3201)، وابن ماجه برقم (1498) وصححه ابن حبان (757)، والحاكم في المستدرك (ج 1 ص 358)، ووافقه الذهبى، وهو كما قالوا.
(4)
أخرجه أبو داود في سننه برقم (3202)، وابن ماجه (1499)، وأحمد (ج 3 ص 491)، صححه ابن حبان برقم (758).
(5)
أخرجه أبو داود برقم (3200) وفي سنده علي بن شماخ لم يوثقه غير ابن حبان عادته في توثيق
ممم كلمة ممسوحة من المصور ممم وأورده النووى في رياض الصالحين بمثله (ص ممم رقم ممسوح من المصور ممم).
وكان يكبر في بعض الأحيان أربعا، وفي بعضها خمسا، وفي بعضها ستا، والذين يمنعون من الزيادة على أربع. يقولون: ثبت أن آخر صلاة صلاها الرسول صلى الله عليه وسلم كان أربعا.
وروى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن الملائكة لما صلوا على آدم كبروا أربعا. وقالوا: هذه سنتكم يابنى آدم؟ وكان يخرج من الصلاة بتسليمتين، وقد يقتصر على واحدة.
وكان يرفع يديه في كل تكبيرة، وحيثما فاتته صلاة الجنازة على شخص صلى على قبره فصلى مرة على قبر، بعد يوم وليلة، وأخرى بعد ثلاثة أيام، وأخرى بعد شهر، وحديث الصلاة على القبر صح من طرق ستة.
وكان يصلى على الطفل الميت، ويقول:"صلوا على أطفالكم فإنهم من أفراطكم"(1)، وكان لا يصلى على من أهلك نفسه، ولا على من كان يخون في الغنائم، ويصلى على من قتل بحد شرعى. وثبت أنه صلى على الجهنية التي رجمها فقال عمر: تملى على من زنى؟ فقال: "لقد تابت توبة لو قسمت على سبعين من أهل الدينة لكفتهم"(2).
وأي توبة أفضل، من توبة من وضع نفسه في طريق الحق؟ وكان إذا صلى على الميت، سار معه إلى المدفن ماشيا وقال "عجلوا في الذهاب"(3).
وكان لا يجلس حتى توضع الجنازة عن رقاب الرجال، وقال:"إذا اتبعتم الجنازة فلا تجلسوا حتى توضع". وكان لا يصلى على كل غائب، لكن صح أنه
(1) روى أحمد نحوه والنسائي والترمذي وصححه وأورده الشوكاني في نيل الأوطار (ج 4 ص 45).
(2)
الحديث أخرجه مسلم في صحيحه برقم (1696)، وأبو داود برقم (4440)، والترمذي برقم (1435).
والنسائي (ج 4 ص 51)، وأحمد في مسنده (ج 4 ص 43 و 435 و 437 و 440).
(3)
روى الجماعة نحوه كما في المنتقى (ج 4 ص 70).
صلى على النجاشى وقد توفى بالحبشة، وأمر الصحابة بذلك. وقال:"توفى أخ لكم فصلوا عليه"(1) وصلى على معاوية الليثى، صلاة الغائب.
واختلف الفقهاء في هذا. فقال الشافعى وأحمد: الصلاة على الغائب سنة مطلقا، وأبو حنيفة ومالك يمنعان مطلقا، وبعض المحققين يقول: إن كان قد مات في بلد لم يصل عليه صلينا، وإن صلى عليه فقد سقط الفرض فلا حاجة، وكانت العادة أن لا يدفن الميت وقت طلوع الشمس، ولا وقت غروبها، ولا وقت استوائها، وكانوا لا يرفعون القبر، ولا يبنون عليه بآجر، ولا نورة، ولا حجر، ولا لبن، ولا غير ذلك.
وكانوا لا يجعلون على هذا القبر، عمارة ولا قبة، وهذا كله بدعة، ومكروه، ومخالف للطريقة النبوية، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، علي بن أبى طالب أن لا يدع تمثالا إلا طمسه، ولا قبرا مشرفا إلا سواه، ونهى أن يتخذ على القبر مسجد أو يشعل عليه سراج، ولعن فاعل ذلك، ونهى عن الصلاة عند المقابر، وعن الصلاة على القبر (2)، ونهى عن إهانة القبور، وعن أن تداس أو يتكأ عليها، أو يجلس عليها (3).
ومن العادات النبوية زيارة القبور، والدعاء، والاستغفار، ومثل هذه الزيارة تستحب، وقال: "إذا رأيتم المقابر فقولوا: السلام عليكم أهل الديار
(1) متفق عليه رواه البخاري في كتاب الجنائز باب (4) الرجل ينعى إلى أهل الميت، بنفسه حديث رقم (1245 - ج 3 ص 116) وباب الصفوف على الجنازة حديث رقم (951 - ج 2 ص 656، 657)، وأبو داود في كتاب الجنائز باب في الصلاة على المسلم يموت في بلاد الشرك حديث رقم (3304 ج 3/ 212).
والترمذي برقم 10221 ج 3/ 342)، والنسائي (4/ 72)، ومالك في الموطأ حديث رقم (14 - ج 1 ص 226، 227).
(2)
انظر صحيح مسلم في كتاب الجنائز حديث رقم (97 - ج 2 ص 667)، وأبي داود برقم (325، 326 ج 3/ 216)، والترمذي برقم (1025 - ج 3 ص 368)، والنسائي (ج 4 ص 86).
(3)
راوه مسلم في صحيحه في كتاب الجنائز، باب ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها حديث رقم (975 ج 2 ص 671)، والنسائي (4/ 94) في الجنائز، باب الأمر بالاستغفار للمؤمنين.
من المؤمنين، والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية" (1).
وكان يقرأ وقت الزيارة من نوع الدعاء، الذي كان يقرؤه في صلاة الميت، وقد ذكرناه فيما تقدم، وكانت العادة أن يعزى أهل الميت ويأمرهم بالصبر، ولم تكن العادة أن يجتمعوا للميت، ويقرأ له القرآن ويختموه عند قبره، ولا في مكان آخر، وهذا المجموع بدعة ومكروه، ولم يكن من عادة أهل الميت، أن يرسلوا للناس طعاما، بل كان يأمر الناس أن يرسلوا لأهل الميت طعاما لأنهم من المصيبة، في شغل كاف.
(1) راوه مسلم في صحيحه في كتاب الجنائز، باب ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها حديث رقم (975 ج 2 ص 671)، والنسائي (4/ 94) في الجنائز، باب الأمر بالاستغفار للمؤمنين.