الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فاتحة الكتاب في ذكر حال سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم قبل نزول الوحي وبيان عباداته في تلك الأيام
لما بلغ صلى الله عليه وسلم سبع سنين، وتوفي جده عبد المطلب، وافتخر عمه أبو طالب بشرف كفالته وتربيته، أمر الله تعالى - شأنه - إسرافيل عليه الصلاة والسلام أن يقوم بملازمته، فكان قرينه دائما إلى أن أتم إحدى عشر سنة، ثم أمر جبريل عليه الصلاة والسلام بملازمته تسعا وعشرين سنة، بطريق المرافقة والمقاربة، لكن لم يظهر له.
وفي بعض الروايات الصحيحة: أن إسرافيل ظهر له في ملازمته مرارًا وكلمه بكلمة وكلمتين، وقبل نزول الوحي بمدة خمس عشر سنة، كان يسمع صوتًا أحيانًا، ولا يرى شخصًا. وسبع سنين كان يرى نورًا، وكان به مسرورًا ولم ير شيئًا غير ذلك.
ولما قربت أيام الوحي أحب الخلوة، والانفراد فكان يتخلى في جبل حراء وهو على ثلاثة أميال (1) من الكعبة، وبه غار صغير، طوله أربعة أذرع وعرضه ذراع وثلث في بعض الواضع، وفى بعضها أقل. واختار محل الخلوة هناك.
وللعلماء في عبادته في خلوته قولان: قال بعضهم: كانت عبادته بالفكر، وقال بعضهم بالذكر، وهذا القول الصحيح، ولا تعريج على الأول ولا التفات إليه، لأن خلوة طلاب طريق الحق على أنواع:
الأول: أن تكون خلوتهم لطلب مزيد علم الحق من الحق، لا بطريق النظر والفكر، وهذا غاية مقاصد أهل الحق، لأن من خاطب في خلوته كونًا من
(1) اختلاؤه في غار حراء أورده كثير من أهل العلم والمحققين انظر: صحيح البخاري بشرح فتح الباري (ج 1 ص 21) وانظر الجزء العاشر من فتاوى الشيخ ابن تيمية رحمه الله، وعيون الآثار لابن سيد الناس (ج 1 ص 53)، وانظر تاريخ الطبري (ج 5 ص 498).
الأكوان، أو فكر فيه فليمس هو في خلوة. قال شخص من طلاب الطريق لبعض الأكابر: اذكرني عند ربك في خلوتك. قال: إذا ذكرتك فلست معه في خلوة، ومن ثم يعلم سر "أنا جليس من ذكرني"(1)، وشرط هذه الخلوة، أن يذكر بنفسه وروحه لا بنفسه ولسانه.
الثاني: أن تكون خلوتهم لصفاء الفكر، لكي يصح نظرهم في طلب المعلومات، وهذه الخلوة لقوم يطلبون العلم، من ميزان العقل، وذلك الميزان في غاية اللطافة وهو بأدنى هوى يخرج عن الاستقامة.
وطلاب طريق الحق لا يدخلون في مثل هذه الخلوة، بل تكون خلوتهم بالذكر، وليس للفكر عليهم قدرة ولا سلطان. ومهما وجد الفكر طريقًا إلى صاحب الخلوة، فينبغى أن يعلم أنه ليس من أهل الخلوة، ويخرج من الخلوة، ويعلم أنه ليس من أهل العلم الصحيح الإلهى، إذ لو كان من أهل ذلك لحالت العناية الإلهية بينه وبين دوران رأسه بالفكر.
الثالث: خلوة يفعلها جماعة لدفع الوحشة، من مخالطة غير الجنس، والاشتغال بما لا يعني، فإنهم إذا رأوا الخلق انقبضوا. فلذلك اختاروا الخلوة.
الرابع: خلوة لطلب زيادة لذة، توجد في الخلوة، وخلوة حضرة صاحب الرسالة من القسم الأول، وكان بعيدًا جدًّا من جميع المخالطات، حتى من الأهل، والمال، وذات اليد، واستغرق في بحر الأذكار القلبية، وانقطع عن الأضداد بالكلية، وظهر له الأنس والجلوة، بتذكر من لأجله الخلوة، ولم يزل في ذلك الأنس، ومرآة الوحي، تزداد من الصفاء والصقال، حتى بلغ أقصى درجات الكمال، فظهرت تباشير صبح الوحي، وأشرقت وانتشرت بروق السعادة وتألقت، فكان لا يمر بشجر، ولا حجر، إلا قال بلسان فصيح: السلام عليكم يا رسول الله.
(1) أخرج الشيخان حديثًا بنحوه ولفظه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملاء ذكرته في ملاء خير منهم" متفق عليه أخرجه البخاري (ج 13 ص 325، 326)، ومسلم برقم (2675)، وأخرجه الترمذي برقم (3598).
فكان ينظر يمينا وشمالًا، ولا يرى شخصا ولا خيالا، فبينما هو في بعض الأيام قائم على جبل حراء، إذ ظهر له شخص فقال: أبشر أنا جبريل وأنت رسول الله لهذه الأمة، ثم أخرج له قطعة نمط من حرير مرصع بالجواهر ووضعها في يده صلى الله عليه وسلم وقال: اقرأ. قال: "والله ما أنا بقارئ ولا أرى في هذه الرسالة كتابة"(1) قال: فضمنى إليه وغطنى حتى بلغ منى الجهد ثم أطلقنى وقال: اقرأ: فقلت: "لست بقارئ" فغطنى حتى بلغ منى الجهد. فعل بى ذلك ثلاثا وهو يأمرنى بالقراءة.
ثم قال: [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الًاكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَالَمْ يَعْلَمْ (5)](2) ثم قال: انزل عن الجبل، فنزلت معه إلى قرار الأرض، فأجلسنى على درنوك وعليه ثوبان أخضران، ثم ضرب برجله الأرض فنبعت عين ماء فتوضأ جبريل منها: تمضمض واستنشق وغسل كل عضو ثلاثا، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يفعل كفعله. فلما تم وضوؤه أخذ جبريل كفا من ماء يفرش به وجه الرسول، ثم قام وصلى ركعتين والرسول مقتد به ثم قال: الصلاة هذا.
ولما فرغ من الوضوء والصلاة والتعليم غاب جبريل، وجاء الرسول إلى مكة وقص على خديجة القصة، وعلمها الوضوء والصلاة (3). فناسب بعد تمهيد هذه الفاتحة أن نبتدئ أبواب العبادات النبوية بذكر كيفية الوضوء والصلاة، ونلحق بها الصيام، والأدعية وغيرها من العبادات إن شاء الله الكريم.
(1) هذا جزء من حديث طويل أخرجه الشيخان وغيرهما بتمامه، انظر صحيح البخاري كتاب الحيل، باب التعبير (ج 8 ص 67)، ومواضع أخرى انظر فتح الباري لابن حجر (ج 12 ص 351 - 352) و (ج 1 ص 22)، (ج 8 ص 715، 722) وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بدء الوحي (ج 1 ص 139).
(2)
سورة العلق: 1 - 5.
(3)
ما ورد في الصحيحين فيه اختلاف في بعض ألفاظ الحديث الذي أورده المصنف في كتابه، وبعد البحث لم أجد الفاظ المصنف بعينها في كتب الحديث إلا أن أصل الحديث بنحو الفاظ المصنف قد ورد في دواوين السنة انظر: صحيح البخاري (ج 8 ص 67) وصحيح مسلم (1/ 139).