الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ابن علي وجماعة أهلها، فقتلوه وأدخلوه البلد، فاستوطنها من ذلك الوقت. وفي هذه السنة، وصل رسول حماد بن يوسف العزيز بالله يذكر أنه زحف إلى عمه ماكسن بن زيري ومن معه، فقتل ماكسن وولداه محسن وباديس بعد حروب شديدة ن وذلك بعد ثلاث خلون لرمضان المعظم. وفيها توفي زيري بن عطية الزناتي، صاحب فاس والغرب كله وذلك في الثاني عشر من رمضان المذكور من السنة المؤرخة، بعد قتل ماكسن بتسعة أيام.
بعض أخبار زناتة ودولتهم بالغرب إلى حين ظهور المرابطين
وذلك أن زناتة كانت تقوم بدعوة الأمويين، لما تقدم لهم من هجرة جدهم خزر بن صولات وإسلامه على يد عثمان بن عفان، وكان صنهاجة تقوم بدعوة العبيديين. ووقع بينهم حروب كثيرة وقام ببلاد الغرب زيري بن عطية الخزري المغراوي، وملك فاسا وغيرها، وصار أمير زناتة كلها في ذلك الوقت. وكان يدعوا لبني أمية في دولة هشام المؤيد، إذ كان المقيم لها ابن أبي عامر حاجبه، وهو يحارب أعدائه وأضداده صنهاجة أمراء أفريقية. قال بن حمادة: وكان قد وصل إلى قرطبة، واجتمع مع ابن أبي عامر سنة 379، وكان بأرض الغرب في خدمته من تلك السنة وموالاته مع سعة ملكه وبعد صيته إلى أن فسد ما بينهما سنة 387، ووقع بينه وبين المظفر حروب يطول ذكرها.
قال ابن حيان: ثم أن زيري بن عطية الراوي نكث على علي ابن أبي عامر بعد الحب الشديد والوفاء الأكيد، وطعن علي بن أبي عامر سلبه الملك هشام وامتعض لهشام المؤيد، وغلية ابن أبي عامر عليه، فانفذ له ابن أبي عامر واضحا فتاه بجيش كثيف، فقاومه بالمغرب. ودارت بينهم حروب عظيمة، ثم أردفه ابن أبي عامر بولده عبد الملك، وهبط هو إلى الجزيرة الخضراء يمدهم بالقواد
والأجناد. وبرز عبد الملك من طنجة إلى زيري، ودارت بينهم حروب لم يسمع بمثلها في الحروب الغابرة. أجلت عن هزيمة زيري واستئصال رجاله وحاله. ونجا هو مثخنا بالجراح. وانبسط ملك عبد الملك بن أبي عامر على الغرب وما والاه إلى سلجماسة، وعلى تلمسان وتيهرت. وقفل إلى الأندلس سنة 389، واستخلف على بلاد الغرب واضحا الغازي، فأقام بفاس مدة وانصرف إلى الأندلس، وخلف على فاس عبد الله بن أبي عامر، ابن أخي المنصور، ثم تلاه إسماعيل بن البوري، ثم تلاه أبو الأحوص معن بن عبد العزيز، وبقي فيها إلى أن توفى محمد بن أبي عامر، فصرفها ابنه عبد الملك المظفر إلى المعز بن زيري بن عطية، وقد استحكمت ثقته به وحسن رأيه فيه فولاه على فاس سنة 397، على أن يعطيه المعز عدة من الخيل والسلاح يحملها كل سنة إلى قرطبة، وقبض على ابنه المسمى معتصر رهينة. فاستقامت طاعة المعز، وأقام ابنه بقرطبة إلى أن نشأت الفتنة وانقرضت الدولة العامرية، فانصرف معتصر إلى أبيه ومضى مع أبوه على رأيه في موالاة من ظهر بالأندلس من المروانية، إلى أن هلك بعد صدر من الفتنة، وأورث ولده حمامة ملك فاس وما والها.
وقد ذكر الوراق ذلك، وشرحه شرحا كافيا وقال: توفي زيري بن عطية في سنة 391، أقام بنو عمه ابنه المعز مكانه. وذكر استجداء المعز للمظفر ابن أبي عامر، وأرسله إليه، وتقليد المظفر له ولاية المغرب على ما تضمنه من خيل وسلاح وغير ذلك، ورهنه المعز ولديه حمامة ومعنصر، وذكر موت المظفر، وتقديم أخيه عبد الرحمن لحجابة هشام المؤيد وبلغ المعز بن زيري ذلك، فاحتفل في هدية عظيمة يهديها له، وذلك سبعمائة من الخيل وأحمال كثيرة من درق اللمط وجملة كبيرة من المال والسلاح، وسائر ما بالمغرب من الطرف، ووصل قرطبة مع هذه الهدية فتيان من بني عمه وجملة من شيوخ
القبائل ووجوه فاس، فسر عبد الرحمن بذلك وشكر المعز وسرح ابنيه إليه بعد أن كساهما وأرضاهما وكتب للمعز عهدة بتحديد ولاية الغرب كله إلا مدينة سجلماسة فأنه كان قد عقد ولايتها لواضح الفتى قبل ذلك وولاها واضح وانودين بن خزرون اليفرني وأبن عمه زيري فلفل على ما ضمناه إليه وعده من الخيل والدرق معلومة وجملة من المال في كل سنة. ورهنه كل واحد منها أبه. فامتثل النعز بين زيري وما أمره بن عبد الرحمن بن أبي عامر. وبقي المعز أمير الغرب إلى أن انقرضت الدولة العامرية ثم انقرضت الدولة المروانية وانشقت عصى الأمة ومرج أمر الناس بالأندلس وصار المسلمون شيعا متفرقون يقتل بعضهم بعضا وينهب. وفعل أهل المغرب مثل ذلك فكثر فيه الشتات وشن الغارات بعضهم على بعض. وأقام المعز بن زيري يدارى أمره إلى أن حانت وفاته سنة 416. وولى مكانه أبنه أبو العطاف حمامة بن المعز بن زيري بن عطية وكان له حظ من المعرفة والأدب وحسن السياسة، فكانت مدينة فاس في أيامه هادئة راخية، وكان الشعراء يقصدونه من الأندلس. وجرت له حروب كثيرة إلى أن حانت وفاته في سنة 433. وولى ابنه دوناس بن حمامة فقام عليه بنو عمه، ولم يزل أمره يضعف، ودولتهم تدبر إلى أن قام بمدينة فاس أميران بالعدوتين وكانت الحرب تدور بينهما. وجرت بين ذلك أمور وخطوب، ولا يحسن ذكرها لشناعتها، إذ للدول، إذا أدبرت كل ما يجري فيها يقبح ذكره، إلى أن شاع خبر خروج لمتونة من الصحراء، واستيلاءهم على بلاد المصامد وخلعهم لملوكهم وناموس عدلهم، ودخل عبد الله بن ياسين مدينة أغمات وما يليها، فخافت زناة وأجفلت عن جهة الشرق حيث مستقرها، ولما قتل عبد الله بن ياسين، رجعت زناة إلى المغرب، وقتلوا كل من اتهموه بالميل إلى أصحاب اللثام، فحاربهم الصحراويون. ووجه أبو بكر بن عمر يوسف بن تاشفين، فحارب رؤساء القبائل، واستفتح بلاد كثيرة.
وفي خلال ذلك كان الجوع الشديد الذي يعرف بسنة أو قبة بدرهم من الدراهم الخندوسية، وذلك في سنة 444. ورجع الفتوح بن معنصر الزناتي من المشرق وكسر عسكر مدينة فاس في سنة 454. وفيها كسرة مكناسة ولواة: كسرها قائد أبي بكر بن همر اللمتوني.
وفي سنة 454، وطئ بليجين بن محمد بن حماد الصنهاجي جميع الغرب ودوخه بجيوش عظيمة.
وفي سنة 459، دخل إبراهيم بن مليح الجزنائي مدينة فاس، وأخرج منها معنصر بن حماد إلى بيت الشرق. ثم رجع إلى فاس، وقتل كل من اتهمه بالميل في الملثمين. ثم رجع يوسف إلى المغرب وهرب معنصر. وقتل يوسف سدراة ودخل مدينة فاس، واستولى عليها وعلى أكثر الغرب. هكذا ذكر أبو مروان عبد الملك بن موسى الوراق في كتابه (المقباس في أخبار فاس) . وأما يوسف الجزنائي، صاحب مكناسة فتولى سنة 412. وأما توالي، فتوفي بالقلعة، وولي ابنه مهدي في هذه السنة. وأما ابن أبي العافية إبراهيم، فتوفي في سنة 450، وولي ابنه عبد الله وكان بنو أبي العافية أصحاب تسول وملوية ونكور، وهي لمزمة، وتوفي عبد الله 460، وولي ابنه محمد بن عبد الله بن إبراهيم بن موسى بن أبي العافية وأما تلمسان والزاب، فكان فيها يعلى الزناتي، وما في هذا التاريخ أو قريبا منه وقام فيها بنوه. وما وراء الزاب من بلاد الغرب، لم يملكه العباسيون قط، أما تلمسان وأنظارها، فوليها محمد بن سلمان ابن عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي رضي الله عنهم ومن ولده أبو العيش عيسى بن إدريس بن محمد المذكور. وأما فاس وأنظارها فكان فيها شيعة ثم آل أمرها إلى إدريس بن عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي رضي الله عنهم وأما تلمسان، فكان فيها أولاد صالح بن طريف على ضلالتهم. وأما سجلماسة، فنزلها عيسى بن سمغون، رئيس الصفرية. فهذه هي البلاد المتفق عليها، وأما المختلف
فيها، بأفريقية: قيل أنه كان فيها عبد الرحمن بن حبيب ثائرا، وبالأندلس يوسف الفهري أميرا.
رجع الخبر إلى نسق التاريخ. وفي سنة 392، توفي أبو طالب شيخ المعتزلة ولسانهم، وله تسع وستون سنة. وفي هذه السنة كان خروج يحبى بن علي بن الأندلسي من مصر بالعسكر، فمان وصوبه إلى طرابلس يوم الجمعة لتسع خلون من ربيع الأول وكان متولي التدبير في الوقت زيدان الصقلي، فاختلفت عليه أمور العسكر مع سوء عقله وضعف تدبيره ووصل إلى فلفل، فاستخلف به، واحتقره. وفيها ن في رمضان المعظم، توفي المنصور بن أبي العامر على ما يأتي في موضعه.
وفي سنة 393، وصل يحيى بن علي بن الأندلسي، ومعه فلفل بن سعيد وفتوح بن علي إلى مدينة قابس، فحصروا عطية بن جعفر وخرج في تلك الأيام إلى قابس عشرون رجلا من الناشبة، فعرف بهم فلفل فبعث في طلبهم فلما أتى بهم ن ضرب أعناقهم، وكان وصولهم إليها يوم الاثنين لأربع عشرة خلون من شعبان من هذه السنة.. ثم انصرفوا راجعين إلى طرابلس ولما رأى يحيى بن علي اختلال الحال عليه، ولم يجد ما يعطي لرجاله عاد ببقيتهم إلى مصر، بعد ما أخذ فلفل وأصحابه ما أحبوه من خيولهم بين شراء وغصب فلما وصل إلى صاحب مصر الحاكم بأمر الله، أراد الإيقاع به، وبعد ذلك عفا عنه وقبل عذره.
وفي سنة 394، قتل الحاكم بأمر الله منجمه البكري بمصر، وكان ضعيف العقل أحمق وكان له بصر بالقضايا. وفيها قتل الحاكم جماعة كبيرة من وجوه رجاله وأحرقهم بالنار. وفيها، قتل المعروف بابن خريطة. وفيها، قتل ابن الغازي المنجم.
وفي سنة 395، كانت بأفريقية شدة عظيمة أنكشف فيها الستور، وهلك فيها الفقير، وذهب مال الغنى، وغلت الأسعار، وعدم القوات. وجلى أهلها
البادية عن أوطانهم وخلت أكثر المنازل فلم يبقى لها وارث وع هذه الشدة وباء طاعون هلك فيه أكثر الناس من غني ومحتاج فلا ترى متصرفا إلا في علاج أو عيادة مريض أو آخذا في جهاز ميت أو تشيع جنازة أو انصرف من دفن. وكان الضعفاء يجمعون إلى باب سالم فتحفر لهم أخاديد ويدفن المائة والأكثر في الأخدود الواحد فمات من طبقات الناس وأهل العلم والتجار والنساء والصبيان ما لا يحصى عددهم إلا خالقهم تعالى وخلت المساجد بمدينة القيروان وتعطلت الأفران والحمامات. وكان الناس يوقدون أبواب بيوتهم وخشب سقوفهم. وجاء خلق من أهل الحاضرة والبادية إلى جزيرة صقلية. وكانت الرمانة بدرهمين للمريض في ذلك الوقت والفروج بثلاثين درهما وقيل أن أهل البادية أكل بعضهم بعضا. كذا ذكر أبو إسحاق الرقيق.
وفي سنة 396، كثر الخصب بأفريقية ورخصت الأسعار وأرتفع الوباء عن الناس وفيها ثار ببرقة الوليد بن هشام وأدعى أنه من بني أمية من ولد المغيرة وكان ظهوره في العام الفارط عن هذه كان معلما ببرقة فرأى في أهل برقة فرصة فانتسب لهم وعرفهم أم عنده روايات وعلما وأنه هو الذي يملك مصر ويقتل الجبابرة وأعانه على ذلك قوم من لواتة وزناتة فنصبوه إماماً واجتمعوا عليه. ثم أقبل البربر من كل ناحية إليه فزحف إلى برقة وحاصرها حتى فتحها وذلك في رجب من العام الفارط ثم قوى أمره في هذه السنة، فأخرج الحاكم إليه جيشا فكان بينهم قتال شديد إلى أن هزم عسكر مصر وقتل قائده. وفيها توفي عامل أفريقية محمد بن أبي العرب. وفيها قتل الحاكم قاضيه وأحرقه بالنار على أكله أموال الأيتام. وفي سنة 397 استحلف أمر الثائر ببرقة الوليد بن هشام وكثرت جموعه
وأتباعه فأخذ الحاكم بالحيلة فدعا وجوه رجاله وقواده وأمرهم أم يكاتموه ويعرفوه أنه على مذهبه وهو أن قرب منهم صاروا في جملته. فلما تواتر ذلك عليه وثق به وزحف بكل من معه من قبائل البربر إلى مصر فخرجت إليه عساكر مصر فهزموه ولحق بأراضي السودان. ثم أخذ أسيرا ودخل إلى مصر على جمل فطيف به بثياب مشهورة ثم قتل شر قتلة في النصف من شوال. وفيها ولي العمالة بأفريقية إلى القاسم بن محمد بن أبي العرب بعد موت أبيه فأفر رجاله على مراتبهم واستعان بهم.
وفي سنة 398 توفى صاحب المظالم بأفريقية محمد بن عبد الله وكانت وطأته اشتدت على أهل الريب والفساد بالضرب والقتل وقطع الأيد والأرجل لا تأخذ فيها لومة لائم.
وفي سنة 399، هرب أولاد محمد بن أبي العرب من المنصورية يريدون فلفل بن سعد بن خزرون الزناتي بإطرابلس، فأرسل نصير الدولة إلى صاحب قابس يأمره أن يقطع بهم فلحق بهم المذكور، وأخذ منهم عليا ويوسف فقطع رؤوسهما وتوجه بها المنصورية منسلخة المحرم ووصل القاسم بعد ذلك فعفا عنه.
وفي سنة 400، توفي فلفل بأطرابلس بلة أصابته. وولي أخاه ورو وأطاعته زناتة وفيها رحل أبو مناد صاحب الدولة بعساكر إلى إطرابلس ليوم الاثنين خلون من شعبان فتلقاه أهلها مسرورين داعين مستبشرين فضربت له فساطيط الديباج والقباب الجليلة ونزل فأخذ الناس ريح عظيمة خرق جميع المضارب ومزقها وذهب بها. ودخل نصير الدولة إلى قصر فلفل. وجاءت رسل ورو بن سعيد أخي فلفل راعية في الأمان والعفو فعفى عنهم وشهد بذلك على نفسه، ثم صدر إلى المنصورية ظافرا. ووصل النعيم بن كنون وطائفة
معه إلى المنصورية، فأعطاهم نصير الدولة، وأفضل عليهم أتم الأفضال وأمر للنعيم والبنود والطبول والبراذين والسروج وصرف إلى البلاد التي أعطاه وقاعدتها قصطيلية فأقام بها ملك بالطبول والبنود والجيش. وفي سنة 401، كان موت عزم بن زيري بن مناد بالقيروان. وفيها، توفي القائد جعفر بن حبيب. وفيها أمر الحاكم بأمر الله بن الحسين بن جوهر قائد القواد وصره القاضي على مصر عبد العزيز بن محمد بن النعمان فقتلا جميعا في وقت واحد. وفي شوال من هذه السنة خالف ابن الجراح على الحاكم بأمر الله، وبعث رسالة إلى أمير مكة يستدعيه للخلاف عليه معه فخالفه وتسمى بأمير المؤمنين. وتابعه على ذلك أهل مكة وبنو عمه وغيرهم وتمادى أمرهم على ذلك بقية هذه السنة. وفيها، وجعل أهل مصر ومن كان معهم من المغاربة وغيرهم برسم التوجه إلى مكة - زادها الله تكريما وتشريفا! - وذلك عند وصولهم للقزم بلغهم ما فيعل ابن الجراح وأبو الفتوح أبو الحسن بن جعفر بن محمد فمل يحج منهم أحد، ولم يحج أحد هذه السنة من الشام ولا العراق ولا خراسان ولا سائر الآفاق ألا أهل اليمن ونفر يسير ممن كان بمكة مجاورا.
وفي سنة 302 تقدم المنصورية خزرون بن سعيد بن خزرون الزناتي أخو فلفل المتقدم ذكره. وكان سبب وصوله اختلاف بينه وبين أخيه ورو فقصد إلى نصير الدولة فقبله أحسن قبول وكان معه نحو سبعين فارسا من زناتة فأنزلهم وأحسن إليهم ثم بعد ذلك بأيام أعطاه مديمة، فخرج إليها بالبنود والطبول.
وفي سنة 403 وصل إلى المهدية مركب فيه هدية جليلة من الحاكم إلى نصير الدولة باديس صاحب أفريقية، وإلى ولده منصور عزيز الدولة فتلقاها المنصور مع أهل القيروان على قصر الماء بالبنود والطبول، ووصلت سجلات منه إلى نصير الدولة بإضافته وأعمال برقة إليه. وفيها توفى أبو الحسن القابسي
الفقيه العالم. وفيها، عزل أمير نصير الدولبو يوسف ابن حبوس السنهاجي عن أمر الجيوش وغيرها. وفيها توفى مفرج بن الجراح ببلاد الشام وبقي أولاده مكانه. وفيها، عاد صاحب مكة إلى طاعة الحاكم وهو جعفر بن الحسن المتقدم الذكر الذي قام بها ودعا لنفسه وتسمى بأمير المؤمنين الراشد بالله ثم تاب مما فعل في هذه السنة وصعد المنبر وتبرأ مما كان ادعاه وكتب بذلك إلى الحاكم بأمر الله فقبل منه وأنفذ إليه أموالا عظيمة وأمر الناس أن يسافروا إلى مكة بالطعام وسائر المرافق.
وفي هذه السنة ظهر بأفريقية ثائر أسمه عبد الله بن الوليد بن المغيرة وكان خاملا مشتغلا بالتعليم ثم دعا إلى نفسه فأخذ وسيق إلى القيروان مع صاحب له وحملا على جملين وطيف بهما ثم ضربت أعناقهم ورفعا فصلبا. ووجت عنه خريطة فيها كتاب بخط يده لبعض الأشياخ القبائل يقول فيها: (من عبد الله أبي محمد الناصر لدين الله أمير المؤمنين إلى فلان) ثم يذكر أن تام أمره وظهوره يكون بكتامة ويأمره لأن يتلاقاه في أول صفر من سنة 404 فإنها آخر دولة صنهاجية وبها تنقطع دولتهم. فتمكن منه صنهاجة كما ذكرنا.
وفي سنة 404 وصل سجل من الحاكم إلى نصير الدولة يذكر فيه أنه جعل ولاية العهد في حياته لأبن عمه أبي القاسم عبد الرحمن بن ألياس فقرأ بجامع القيروان والمنصورية وأثبت اسمه مع اسم الحاكم في البنود والسكة. فعظم ذلك عند نصير الدولة وقال: (لولا أن الإمام لا يتعرض على تدبير، لكتبته ألا يصرف هذا الأمر من ولده إلى ابن عمه!) وفي سنة 405 أخرج نصير الدولة هدية جليلة إلى الحاكم وشيعها بالبنود والطبول عن المنصورية فوصلت إلى المهدية وركب بها البحر يعلى بن فرج. وكان فيها مائة فرس ولها سروج محلاة شدت في ثمانية عشر حملا أقفاصا
وكان فيها ثمانية وعشرون حملا من الخزف السمور والمتاع السوسي المذهب النفيس وعشرون وصيفة بارعة الجمال وعشرة من الصقالبة وغير ذلك. ووجهت السيدة أم ملال أخت نصير الدولة إلى أخت السيدة أخت الحاكم هدية أيضا. ولما وصلت تلك الهدايا إلى جهة برقة أخذ العرب وهرب يعلى ابن فرج وأسلمها بجميع ما فيها.
وفيها نادى مناد القيروان بانتقال من كان يسكن فيها من الصنهاجيين إلى المنصورية. ثم نادى مناد آخر بعد ذلك بإغلاق الحوانيت بالقيروان وفنادقها فأغلقت ولم يبق بها إلا بعض حوانيت الأحباس ويبلغ كراء حانوت بالمنصورية مائتي درهم لبيع الكتان وما سمع ذلك بكراء حانوت بالقيروان فكان ذلك أول أسباب خرابها.
وكان الحاكم لقب المنصور بن نصير الدولة بعزيز الدولة وقرى سجله بذلك فأراد نصير الدولة أن يرشح ويضيف فيه أعمالا يستخدم فيها أتباعه وصنائعه. وكان نصير الدولة اتصل به عن إبراهيم بن سيف العزيز بالله هانت إنكاره عليه فأراد اختبارها فكتب كتاب إلى حماد يأمره فيه بتسليم عمل أبي زعبل قصر الإفريقي ومدينة القسطنطينة إلى مستخلف عزيز الدولة وقد كان قد خلع على هاشم بن جعفر وأعطاه البنود والطبول وأمره بالخروج إلى هذا لعمل فخرج بخزائن وعدد جليلة وبعث نصير الدولة إلى إبراهيم بن سيف العزيز بالله يشاوره على من يمضي بكتابه إلى حماد فتسرع إبراهيم إلى المسير بالكتاب نفسه وقال يجد مولانا عبدا من عبيده أنهض بخدمته مني!) وتضمن ذلك وأخذ على نفسه المواثيق أنه لا يقيم في مضيه ألا أقل من عشرين يوما فأسار على نصير الدولة من يقرب منه بأن يعتقل إبراهيم، ولا يدعه لما يرد من السفر حتى يرى ما يكون من طاعة أخيه حماد ومسارعته إلى ما يأمره به نصير الدولة من ذلك وقال لإبراهيم: (امض إلى
أخيك حماد. فأن صدقت فيما قلت، ووفيت بما وعت، وإلا فأفعل ما أردتما) وخرج إبراهيم بن يوسف العزيز بالله بماله ورجاله وجميع ذخائره، ولم يعقه في ذلك من نصير الدولة وإلا فقد بأثقال وجملة رجاله دليلا على ما خالف ما أظهر، وكان خروجه من شوال، وصبحه هاشم بن جعفر، ثم أحس هاشم أنه سيغدره إذا قرب من أخيه، فاعتذر له أن حاجة بقيت له بباجة، وعدل إلى طريقها، ووعده أن يلحقه سريعا. فنجاه الله من غدره. ومضى إبراهيم حتى وصل تامديت، وكتب إلى أخيه، فنهض إليه حماد في عساكر عظيمة، واجتمعت كلماتها، وخلعا أيديهما من الطاعة.
وانتهى ذلك إلى نصي الدولة، فرحل في أواخر من ذي الحجة، ونزل برقادة، ووضع العطاء لعساكره، وأخرج عياله وأثقاله وأخته السيدة أم ملال، وأولاده، وعبيد إلى المهدية، ورحل في السابع منه. وأمر بالقبض على يوسف بن أبي حبوس وأخته، فقبض عليه. وكان نصير الدولة لم يمض له يوم من الأيام إلا جدد عليه كرامة وإحسانا، ولا كان يهدى إليه فرس أو ثوب من ثياب الخلافة إلا أثره بذلك على نفسه، ومع ما حمل له من الضياع والرباع بكل كورة من كور أفريقية. وما زال يرفع من قدره، ويزيد في التنويه بذكره، حتى نال من أعلى المراتب، ما لم ينله بعيد ولا قريب، وسما من رفيع الدرجات ما لم يسم له حميم ولا نسيب. وكان - والله أعلم - تسول له نفس الفتك بالأمير نصير الدولة. وأنه هم بذلك مدة من الزمان، فلم يعنه الله عليه، بل خيب سعيه، ورد في نحره بغيه. فتقرر ذلك عند نصير الدولة، فقبض عليه. وكان في قبضه عليه ما أوهن الله به كيد الأعداء، وخيب آمالهم، وأضل أعمالهم. ورحل نصير الدولة ثاني عيد الأضحى بعسكره لحماد المذكور.
وفي سنة 406، في صدر محرم، وصل عزم وفلفل حنون بن سنون،
وماكسن بن بلقين، وعدنان بن معصم في عدة من الفرسان من عسكر حماد. فخلع عليهم، وأحسن إليهم. ومازال نصير الدولة يرحل مرحلة بعد مرحلة إلى أن وصل إلى تامديت. ثم ورد عليه الأخبار بوفاة ولده المنصور عزيز الدولة، وذلك أنه كان في حين حركته إلى المهدية عرضت له حمى، وظهر به جدري، فأقام سبعة عشر يوما. وتوفى. فكتم من نصير الدولة أمره خوفا أن يبدو من جزع. يكون فيه وهنا على الدولة فيما هو بسبيله من مقابلة عدوه. فبلغ خبره إبراهيم وحمادا، فبعثا إليه، وقالا له:(إن ولدك، الذي طلبت له ما طلبت، قد توفي) فما ضعضعه ذلك، ولا أوهنه، وكتب إلى السيدة يسألها عن ذلك. فورد كتابها بوفاته والتعزية عنه، ونصف سلامة المعتز حسن حاله، فكان من صبر نصير الدولة وحسن عزائه ما كثر التعجب به. وجلس مجلسا عاما للعزاء، فكان لا يرى من أحد جزعا وبكاء إلا سلاه وهون عليه، فزاد ذلك سرورا لأوليائه وكمدا لحسدته وأعدائه.
ثم رحل من تامديت لست خلون من صفر، وتمادى رحيله إلى أن وصل المحمدية، وهي مدينة المسيلة، فتلقاه أهلها داعين شاكرين على ما منحهم من العدل والأمان، وكثف عنهم من الجور والعدوان. فأقام بها ستة أيام. ثم رحل، فعبر وادي شلف، ثم تمادى مشيه حتى قرب من عساكر حماد وحشوده من زناتة وغيرها في العدوة الأخرى في الوادي. فبات على تحفظ واحتراس. ولما كان في غد نزوله، برز في عساكره، ومشى عليها، ورتبها، وأقام كل قائد من قواده في مركزه. وقد تقارب الفريقان، وتراءى الجمعان، فهزم حماد، وانتهب عسكره. فقيل أن الذي انتهب من الدرق عشرة آلاف درقة. وكان اشتغال العساكر النصيرية برفع الغنائم والأموال والأثقال سببا لنجاة حماد المذكور، لتركهم أتباعه. وأخذ الناس من الأموال والغنائم ما لا يحصى عددا وكثرة، ووجد رقعتان فيهما: (أن الذي عند القائد فلان صندوق فيه
خمسون ألف دينار وسبعمائة، ومن الورق ألف ألف وخمسمائة ألف درهم، ومن الأمتعة خمسون صندوقا) غير ما كان في بيت حماد وخزائنه. قال أبو إسحاق: وجد رجل بين يديه بغل يسوقه، ففتشه بعض الوصفان بين أيدينا، فوجد في حشو برذعته وصوفها ثماني آلاف دينار، ومثل هذا ما لا يحصى كثرة وعرضت لي أبيات بعد أن صعدنا من الوادي، وقد لقينا به مشقة شديدة، غير أن حلاوة الظفر والفوز بالسلامة أنسى ذلك، وهي (بسيط) :
لم أبس يوما بشلف راع منظره
…
وقد تضايق فيه ملتقى الحدق
والخيل تعبر بالهامات خائضة
…
من سافح الدم مجرى قاني الفلق
والبيض في ظلمات النقع بارقة
…
مثل النجوم تهاوت في دجي الغسق
وقد بدأ معلما باديس مشتهرا
…
كالشمس في الجو لا يخفى عن الحدق
وإن راحته لو فاض نائلها
…
وبأسها في الورى أشفوا على الغرق
تجلوا عمامته الحمراء غرته
…
كأنه قمر في حمر الشفق
لو صور الموت شخصا ثم قيل له
…
(أبو مناد تبدى) مات من فرق
وأصبح نصير الدولة يوم الاثنين لليلتين خلتا من جمادى الأولى، فبعث في طلب حماد بن يوسف العزيز بالله، وقد تحصن في القلعة من أخيه، فأقاما بها ثلاثة أيام حتى استراحا وأراحا دوابهما ومن كان معهما. فعرفه إبراهيم بحاجته إلى الازدياد من الطعام والملح، فخرج حماد في جميع من كان معه ومع أخيه، فسار بهم حتى دخل مدينة دكمة، وقد كان نقد على أهلها، وكان نصير الدولة في أثره، فتصايح أهل الموضع بساقته، فاعترضهم بالسيف، وقتل منهم نحو ثلاثمائة رجل. فخرج إليهم أحمد بن أبي توبة فقيه هذه المدينة وصالحها، فخوفه بالله، ووعظه، وقال له (يا حماد إذا لاقيت الجموع هربت منها أوأن قاربتك الجيوش فررت عنها! لا وإنما قدرتك وسلطانك على
أسير يكون في يديك، ولا ناصر له عليك) فلما سمع كلامه، أمر بضرب عنقه. ووفق إليه شيخ صالح منها، فقال له:(يا حماد أتق الله! فأني حججت حجتين!) فقال له (أنا أزيدك عليهما الشهادة!) وأمر به، فضربت عنقه. ووقف إليه جماعة من التجار المسافرين، فقالوا له:(نحن قوم غرباء، ولا ندري ما جنى أهل هذه المدينة عليك) فقال لهم: (اجتمعوا وأنا أعرفكم) ودخل معهم غيرهم ممن طمع في الخلاص معهم. فلما وصلوا إليه، أمر بهم فضربت رقابهم أجمعين. وأخذ الجميع ما كان بتلك المدينة من طعام وملح، وعاد به إلى قلعته.
وأما نصير الدولة، فيوم هزيمة حماد، أخرج بكار بن جولالة الوتلكاتي، وكان قد أخذه أسيرا، وكان بكار كثير ما ينطلق به لسانه. وكان يوسف بن أبي حبوس معتقلا أيضا عند نصير الدولة، فأخرج بكار بمحضر يوسف، وحلقت لحيته، ويوسف ينظر إليه، ثم أمر: فحلقت لحية يوسف، فصارا مثلة في العالم. وقال الرقيق: لما عاينا يوسف، وقد حلقت لحيته، تحدثنا سرا بيننا، وقلنا:(وقد كنا نرجو ليوسف الحياة، لأن الملوك تعفو بعد العقوبة! وأما المثلة، فما نرى أن بعدها إبقاء) فلحنا نصير الدولة وقال: (ما خضتما فيه؟) فصدقناه سرا، فقال:(ما ابتعتما) وبعد ثلاث، أمر بإحضاره، فعدد عليه تساوي أفعاله وقبائح أعماله، ثم أمر به، فجذع أنفه، وقطعت أذنه، ورفع من بين يديه. ثم أعيد إليه، فقطعت يداه جميعا. ثم أمر به إلى موضع اعتقاله، فبات مشحطا في دمائه. فحكى بعض الحرس انه سمعه يرغب أخاه أن يذبحه ويرحه خيفة أن يخرج من الغد ويزاد في عذابه أمام أعدائه، فقال له أخوه:(أصبر على قضا الله وقدره) فقال لبعض الحرس (خذ بيدي وأخرج لقضاء الحاجة) فأخذ بيده ووقف، فضربه ضربة عظيمة بجبهته في عمود، فذرت منها عيناه، وجرى دماغه، وخر إلى الأرض ميتا
ورحل نصير الدولة من وادي شلف. قال الرقيق: ومن عجيب ما سمعناه عن مناخ وادي شلف أن شيخا كبيرا من البربر حدثنا أنه يعرف بزادي المحن، وأخذ يذكر لنا من هزم فيه ومن قتل فيه من ملوك زناتة. وكنا على ظهر الطريق، فبم نكتب ذلك، إلى أن قال: آخر من مات فيه زيري بن عطية، وآخر من هزم فيه حماد، وبه قتل يوسف بن أبي حبوس، وحمل منه معادلا لأخيه باديتان، ثم أمر به فدفن هناك.
وفي هذه السنة، مات ورد بن سعيد في شوال، فاختلفت كلمة الزناتيين ومالت فرقة مع خليفة بن ورو وفرقة مع خزرون، ابن عمه، وأرفع الله فيهم الشتات ذكر وفاة نصير الدولة باديس بن المنصور أنه لما كان يوم الثلاثاء لليلة بقيت من ذي القعدة، أمر بالتمييز فبرز كل قائد في عسكره. وجلس نصير الدولة في القبة وأمر أيوب بن يطوفت بالطواف على العسكر وحسابه، وانتظره حتى فرغ من حابها وعدها، فجاءه فعرفه بما سره وأبهجه، وانصرف إلى قصره. ثم ركب عشية هذا اليوم، وهو قد تناهى إقبالا، واستولى حسنا وجمالا. فلعبوا بين يديه. فكلما هز رمحا كسره وأخذ غيره. ثم عاد إلى قصره أفسح ما كان أملا، واشتد سرورا وجذلا، فطعم وشرب مع خاصته وقرابته، فعاينوا من طربه ما لم يعهدوه منه. فلما مضي نحو النصف من ليلة الأربعاء انقضاء ذي القعدة، قضى نحبه رحمه الله! وبعث في الوقت إلى حبيب بن أبي سعيد، وباديس بن حمامة، وأيوب بن يطوفت. فأعلموا بوفاته خاصة من بين جميع صنهاجة وغيرهم، فانصرفوا على أن يكتموا أمره حتى يجتمع رأيهم، وأصبح وجوه العساكر للسلام على عادتهم وليس عندهم خبر وقد عزموا أن يعرفوا أنه أخذ دواء، وتقدموا إلى