الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سائر قواد العساكر أن يحضروا بعدتهم، فقد بلغهم أن حمادا يضرب في المحلة فما شعروا أن خرج الخبر من مدينة المحمدية بوفاة السلطان، وأنهم أغلقوا أبوابهم، وصعدوا على أسوارهم. فظهر ما لم يستطيعوا إخفاءه، فكأنما نودي في الناس بإشاعته، فاضطربت العساكر، وماج بعض في بعض، وخشوا من اختلاف الكلمة، فاجتمع رأيهم على تقديم كرامة، فأخذ عليهم العهود، وأمر بالكتب إلى بعض البلاد. فلما رأى ذلك عبيد نصير الدولة، ومن انضاف إليهم من سائر الحشم، أنكروا ذلك، وقالوا: إنما قدمناه ليحوط الرجال ويحفظ الأموال، حتى يدفع ذلك إلى مستحقه المعز ابن مولانا نصير الدولة! ومشى بعضهم إلى بعض ليلا، وتحالفوا على بيعة المعز فلما تم لهم ما عقدوه أعلنوا به يوم السبت لثلاث خلون من ذي الحجة. وتحالفت العساكر على ذلك طائفة بعد طائفة، واتفقت آراؤهم على خروج كرامة إلى أشير ليحشد قبائل صنهاجة وتلكانة، ويعود بهم إلى المحمدية. ثم رحلت العساكر بتابوت نصير الدولة.
ولاية المعز بن باديس أفريقية
كانت ولايته بالمهدية في يوم السبت المذكور من سنة 406، وسنة ثماني سنين وأربعة أشهر، وولايته بالمهدية بها لتسع بقين من ذي الحجة. ذلك لما وصل الخبر بوفاة أبيه، والسيدة أم ملال بالمهدية، خرج إليها المنصور بن رشيق، وقاضي القيروان والمنصورية، وشيوخها، ومن كان بها من الصنهاجيين. فعزوها في أخيها. وخرج المعز بالبنود والطبول، فنزل إليه الناس يهنئونه جميعا، وبايعوه وهنئوه وعزوه وابتهلوا بالدعاء له. وعاد إلى قصره. ودخل الناس يهنئون السيدة بولايته، فصرف أهل القيروان والمنصورية. وبقي المعز بالمهدية يركب في كل يوم، ويعود إلى قبة السلام، ويتطعم الناس بين يديه، وينصرف إلى قصره.
وفي يوم السبت بموافقة عيد الأضحى رحلت العساكر من المحمدية بعد أن أضرموا النار في الأبنية والبيوت والزروب، وتقدموا أمام البيود والطبول. فأشرف حماد على العساكر، وهي تمر كالسيل بين يدي التابوت، فقال لأخيه وخاصته: مثل هؤلاء يخدم الملوك! وصلت أنا إلى أفريقية في ثلاثين ألف فارس، ما منهم إلا من أحسنت إليه، وأنعمت عليه. فعدت إلى القلعة وما بقي معي منهم إلا أقل من ستمائة، وأنا بين أظهرهم أرجى! وهذا ميت أطاعه هؤلاء كما كان حيا! وكان وصول العساكر إلى المهدية لثمان بقين من ذي الحجة، وبرزت العساكر على باب المهدية. وركب المعز، فوقف ونزل الناس إليه فوجاً فوجا حتى كمل سلامهم.
وفي سنة 407، رحل المعز بن باديس من المهدية فكان دخوله المنصورية يوم الجمعة للنصف من محرم فدخل أجمل دخول، وبين يديه البنود والطبول. واحتل بقصره أفضل حلول، وقد سر به الخاص والعام.
وكان بمدينة القيروان قوم بحومة تعرف بدرب المعلى، يتسترون بمذهب الشيعة، من شرار الأمة، فانصرف العامة إليهم من نورهم، فقتلوا منهم خلقا رجالا ونساء، وانبسطت أيدي العامة على الشيعة، ونهبت دورهم وأموالهم وتفاقم الأمر، وانتهى إلى البلدان، فقتل منهم خلق كثير. وقتل من لم يعرف مذهبه بالشهية لهم. ولجأ من بقى بالمهدية منه إلى المسجد الجامع، فقتلوا به عن آخرهم رجالا ونساء. واجتمعت العامة على أبي البهار بن خلوف لشدته عليهم وقهره لسفهائهم، فلجأ إلى المنصورية، فانتهبوا داره. وبلغ ذلك عساكر ابن أخيه، فركب لينصر عمه أبا البهار، فقتلته العامة ومثلوا به، وقتلوا كل من كان معه، وزحفوا إلى المنصورية فهدموها. واجتمع بدار محمد بن عبد الرحمن نحو ألف وخمسمائة رجل من الشيعة، فإذا خرج أحد منهم لشراء قوته قتل حتى قتل أكثرهم. ثم أخرجوا إلى قصر السلطان بعيالهم وأطفالهم. فسر المسلمون بما رأوه فيهم، وذلك لما ظهرت الكتب التي وجدت في ديار المسالمة، كان
فيها من الكفر والتعطيل للشريعة وإباحة المحارم شيء كثير، فتحصنوا في هذا لقصر أواخر جمادى الأولى وجمادى الثانية. وفي أواخر هذه السنة وصل المعز ابن باديس سجل من الحاكم، خاطبه فيه بشرف الدولة، وركب المعز بالينود والطبول وفي سنة 408، كانت حروب عظيمة بين عساكر شرف الدولة والمعز بن باديس وبين عساكر حماد، وذلك شيء يطول ذكره.
وفي سنة 409، خرجت طائفة من الشيعة نحو مائتي فارس بعيالهم وأطفالهم يريدون المهدية للركوب منها إلى صقلية، وبعث معهم خيل تشيعهم فلما وصلوا إلى قرية كامل، وباتوا بها، تنافر أهل المنازل عليهم، فقتلوهم وفحوا بعض شواب النساء ومن كان منه جمال، ثم قتلوهن. وفيها كان بأفريقية غلاء كثير وحروب كثيرة.
وفي سنة 410، وصل زاويبن زيري الصنهاجي من الأندلس إلى أفريقية في أهله وولده وحشمه بعد أن اغترب بها اثنين وعشرين سنة، وقاسى حروبها وفتنها واحتوى على نعم ملوكها وذخائرهم. فخرج إليه في يوم وصوله شرف الدولة المعز بن باديس بزي عظيم، فترجل له الشيخ زاوي، ونزل شرف الدولة وسلم عليه، وسار معه حتى أنزله بالمنصورية.
وفي سنة 411، ورد على المعز بن باديس أبو القاسم بن اليزيد، رسولا من الحاكم إليه، بسيف مكلل بنفيس الجوهر، وخلعه من لباسه لم ير الناس مثلها، فلقيه المعز في أجمل زي وأكمل هيئة. فقرئ عليه سجل فيه من التشريف ما لم يصل لأحد قبله، فسر بذلك. وفيها ورد أيضا محمد ابن عبد العزيز بن أبي كدية بسجل آخر من الحاكم، جوابا للمعز عما كان فيه من أخبار الأندلس، وانقراض الدولة الأموية منها، وقيام القاسم بن محمد فيها فشكره على ذلك، وبعث إليه خمسة عشر علما منسوجة بالذهب. وركب
المعز بن باديس الأعلام المذكورة بين يديه يوم الأحد لليلتين بقيتا من ربيع الآخر وجاءت سحابة شديدة الرعد، فأمطرت حجرا لم ير أهل أفريقية مثله كبرا وكثرة، ووقعت معه صاعقتان. وفيها وصل الخبر بوفاة الحاكم أمير مصر وولي الظاهر بعده.
وفي سنة 412، توفي باديس بن سيف العزيز بالله، وصلى عليه شرف الدولة، وكان له مشهد عظيم. وفيها توفيت السيدة زوجة نصير الدولة، وكفنت فيما لم يذكر أن ملكا من الملوك كفن في مثله، فحكى من حضره من التجار أن قيمته مائة ألف دينار، وجعلت في تابوت من عود هندي قد رصع بالجوهر. وكانت لها جنازة لم ير مثلها، ودفنت بالمهدية. وكانت مسامير التابوت بألفي دينار.
وفي سنة 413، تعرض المعز شرف الدواة. فكان له عرس ما تهيأ قط لأحد من ملوك الإسلام. وقد شرح الرقيق في كتابه. وتركناه اختصارا.
وفي سنة 414، وردت الأخبار وتتابعت بأفريقية بأن خليفة بن ورو ومن معه رموا في البحر مراكب كثيرة، وأنهم رحلوا من طرابلس في طلب الفتوح بن القائد، وقد كان كاتب شرف الدولة المعز بن باديس في الانحياش إليه والدخول في طاعته، فأعطاه مدينة نفطة من عمل قصطيلية. فخرج شرف الدولة، فاجتاز بسوسة، ثم إلى المهدية، وذلك يوم الخميس لأربع خلون من المحرم. وأمر بالنداء في حشد البحرين وكتب أن يلحق به كل من يتخلف عنه من عساكره ليكون رحيله من المهدية إلى سفاقس، ثم إلى قابس، قاصدا إلى طرابلس. وأمر بالاحتفاز في إصلاح القطائع وعمارة دار الصناعة، وأخذ في إنشاء العدد الحربية، فأنشئ منها في المدة القريبة ما لم يتم مثله في الزمن البعيد. ثم رأى الوصول إلى المنصورية ليأخذ الناس عددهم وما يحتاجون إليه فكان وصوله يوم الاثنين لست بقين من المحرم من العام.
ووردت من الأخبار من المشرق، بأن أمير المؤمنين الظاهر لإعزاز دين الله أمر بإحضار سيف الدولة ذي المجدين حسين بن على بن دواس الكتامي. فلما دخل القصر، ولم يكن يدخل قبل ذلك حذرا على نفسه، أخرج من ساعته مقتولا، فأقام ثلاثة أيام، ومناد ينادي عليه: هذا جزاء من غدر مواليه! ثم دفع إلى عبيده، فدفنوه.
ثم جاء الخبر في الوقت بوفاة السيدة الشريفة بنت العزيز بالله. وصلى عليها الظاهر لإعزار دين الله بمصر. وكانت قد ضبطت الملكة وقومت الأمور بحسن رأي وتدبير. وكان الوزير عمار فوض إليه الأمر في النظر في الدواوين والأموال والكتابة وغير ذلك من خدمة الخلافة، فأمرت بقتله فقتل. وباشرت تدبير المملكة، فلا ينفذ أمر جل أو قل إلا بتوقيع يخرج عنها بخط أبي البيان الصقلي عبدها.
وفي هذه السنة، وصل محمد بن عبد العزيز من قبل الظاهر أمير مصر بتشريف عظيم لشرف الدولة. فقرئت به سجلات ما وصل قبلها مثلها أجل حالا ولا مقالا. وزاده لقبا إلى لقيه، فسماه شرف الدولة وعضدها، وبشره بمولودين ولدا له: أبو الطاهر، وعبد الله أبو محمد، وبعث إليه مع ذلك ثلاثة أفراس من خيل ركوبه بسروج جليلة وخلعة نفيسة من نفيس ثيابه، ومنجوقين منسوجين بالذهب على قصب فضة، ما دخل أفريقية مثلها قط، وعشرين بندا مذهبة ومفضضة. فلقيها شرف الدولة وعضدها أجمل لفاء وأعطاها حقها من الإكرام والاعتناء وقرئت السجلات بين يديه ثم قرئت بجامع القيروان، وأمر بنسخها، وأنفذت إلى الآفاق، فكان لها من السرور ما لم يوصف. وبعد ذلك، في هذه السنة، وصله سجل آخر بزيادة لقب آخر
تشريفا لشرف الدولة، وأمر أن يكاتب: من الأمير شرف الدولة وعضدها! ويخاطب بمثل ذلك فلقيه أحسن لقاء، وخلع عليه وحله. وجرت المكاتبة من ذلك الوقت بهذا التشريف الجليل.
وفي هذه السنة، اعتلت السيدة أم ملال بنت عدة العزيز بالله أياما وأمير شرف الدولة يصل إليها في كل يوم عائدا ومتفقدا، فجلس عندها ويأذن لرجاله وعبيده يدخلون إليها، ثم ينصرفون. فلما كان ليلة الخميس منسلخ رجب، قبضها الله. وصلى على جنازتها بالبنود والطبول والعماريات والسيدتان الجليلتان الوالدة والأخت بحال من التشريف لهذه الجنازة، لم ير لملك ولا لسوقة مثلها.
وفوض الأمير شرف الدولة جباية الأموال، وولاية العمال، والنظر في العساكر وسائر الأشغال لأبي البهار بن خلوف يوم الثلاثاء لخمس بقين من جمادى الأولى، فحسنت الأمور وضبطت الأطراف والثغور. واستقام التدبير ورأى الأمير شرف الدولة من حزمه وعزمه وشهامته، ما لا لم يقم به غيره ولا وجد عند سواه بوجه.
وفي سنة 415، في صفر منه، ولد للأمير شرف الدولة ولد سماه كبابا وفي شهر رجب، تزوجت السيدة أم العلو، بنت نصير الدولة، أخت شرف الدولة. فلما كان يوم الأربعاء غرة شعبان المكرم، زين الإيوان المعظم للسيدة الجليلة أم العلو ن ودخل الناس خاصة وعامة، فنظروا من صنوف الجوهر والأسلاك والأمتعة النفيسة وأواني الذهب والفضة ما لم يعمل مثله، ولا سمع لأحد من الملوك قبله. قال أبو أساق الرقيق، فبهر عيون الخلق حال ما عاينوه، وأبهتهم عظيم ما شاهدوه، وحمل جميع ذلك إلى الموضع الذي ضربت