الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
انهزموا، وقتل جماعة منهم، ثم فعل ذلك أهل تونس، فهزمهم ميمون أيضا، وهزم أهل الجزيرة وصطفورة، وقتل منهم كثيرا، حتى سيق القتلى في العجل إلى القيروان. ثم دخلت تونس بالسيف، لعشر بقين من ذي الحجة، فنهبت الأموال وسبيت الذرية، واستحلت الفروج. ومما كان بأفريقية في هذا العام، دخول أبي عبد الله، داعية الشيعة أفريقية، ونزوله بكتامه منها. فلنذكر الآن مبتدأ أمرا مختصرا، إلى أن استقل بالملك. ثم نرجع ما كنا بصدده.
ابتداء الدولة العبيدية الشيعية
قال الوراق: لم تزل الشيعة منذ مات على ابن أبي طالب رضي الله عنه تدعو إلى إمام معصوم، يقوم بالحق، على زعمهم؛ فترسل دعاة إلى سائر النواحي، فلا ينجح لهم سعي. ثم تفاوضوا وتراسلوا على أن يرسلوا داعيا إلى المغرب، يدعو الناس إلى التدين بحب الله البيت، وتكاتبوا من سائر الأفاق. فاختاروا منهم رجلا ذا فهم، وفصاحة وجدال، ومعرفة، يسمى أبا عبد الله الصنعاني، وجمعوا له مالا يتقوى به على سفره. فسار أبو عبد الله هذا إلى موسم الحج ليجتمع به مع من يحج تلك السنة من أهل المغرب، ويذوق أخلاقهم، ويطلع على مذاهبهم، ويتحيل على بيل الملك بضعيف الحيل. فسبحان مقدرة المقدورة، ومحكم الأمور كيف يشاء لا إله إلا هو فلما وصل للموسم، لا للحج لأن الحج ليس من مذهبهم الفاسد، بل تكلف حضوره ليتسبب في مراده، فرأى في الموسم قوما من أهل المغرب، فلصق بهم وخالطهم. وكانوا نحو عشرة رجال من قبيلة كتامة، ملتفين على شيخ منهم. فسألهم عن بلادهم، فأخبروه بصفتها، وسألهم عن مذهبهم، فصدقوه عنه. فتكلم أبو عبد الله الداعي في المذاهب؛ فوجد الشيخ يميل في مذهبه إلى مذهب الأباضية النكارة، فدخل
عليه من هذه الثملة ولم يزل يستدرجهم ويخلبهم بما أوتي من فضل اللسان والعلم بالجدل إلى أن سلبهم عقولهم بسحر بيانه. فلما حان رجوعهم إلى بلادهم سألوه عن أمره وشأنه فقال لهم (أنا رجل من أهل العراق وكنت أخدم السلطان ثم رأيت أن خدمته ليست من أفعال البر فتركتها وصرت أطلب المعيشة من المال الحلال فلما أر لذلك وجها ألا تعليم القرآن للصبيان، فسألت أين يأتي ذلك تأتيا حسنا، فذكر لي بلاد مصر.)(ونحن سائرون إلى مصر وهي طريقنا. فكن في صحبتنا إليها!) ورغبوا منه في ذلك فصحبهم في الطريق. فكان يحدثهم ويميل بهم إلى مذهبه ويلقي إليهم الشيء بعد الشيء إلى أن أشربت قلوبهم محبته فرغبوا منه أن يسر إلى بلادهم ليعلم صبيانهم. فاعتذر لهم بعد الشقة وقال: (أن وجت بمصر حاجتي أقمت بها وألا فربما أصحبكم إلى القيروان.) فلما وصلوا مصر غاب عنهم كأنه يطلب بغيته. ثم أجتمع بهم وسألوه فقال لهم: (لم أجد في هذه البلاد ما أريد.) فرغبوه أن يصحبهم فأنعم لهم بذلك. فكانوا في صحبته حتى وصلوا إلى القيروان فرادوه على أن يصل معهم إلى البلاد وضمنوا لهم ما أراد من تعليم الصبيان فقال لهم (لابد لي المقام بالقيروان حتى أطلب فيها حاجتي. فلما اتفق لي فيها غرضي وإلا نهضت إليكم.) وكان شيخهم أحرصهم عليه وأكرمهم له، فوصف له منزله وموضعه من قبيلة كتامة، فأقام بالقيروان يتعرف أخبار القبائل حتى صح عنده أن ليس في قبائل أفريقية أكثر عددا ولا أشد شوكة ولا أصعب مراما على السلطان، من كتامة.
فلما تقرر ذلك عده، نهض نحو صاحبه الشيخ الكتامي، فاشترى بغلة شهباء ودخل الطريق مع الفقة حتى قرب من موضع الشيخ صاحبه، فعدل إليه، ومر في الطريق بأندر، والبقر فيه تدرس الزرع ورجل كهل من أهل كتامة جالس فيه مع ابنه، فقرب منهما، وسلم عليهما. فقاما إليه ورحبا به، ورغبا منه في النزول
عندهما، فأجابهما إلى ذلك، فأنزلوه وأكرموه. فقال الداعي للرجل:(ما اسم ولدك هذا؟) قال: ما اسمك أنت؟ قال: مُعارِك. فقال في نفسه: تم أمرنا أن شاء الله، لكن بعد مَعارك. ثم أراد الداعي الانصراف، فصرفوه مع امرأة نتدله على الطريق، لأن الحرب كانت بينهم وبين بني عمهم. فسار حتى نزل في منزل من منازل كتامة. فأتى المسجد، وفيه معلم يعلم الصبيان. فقام إليه المعلم وسلم عليه، وهو راكب على بغلته الشهباء فجعل المعلم يطيل النظر إليه، فاستراب لذلك أبو عبد الله، ونزل عن الدابة ودخل المسجد. ثم دعا المعلم فقال له: لقد رأيتك تنظر إلي كثيرا وإلى البغلة. فقال له: ذلك لسبب أنا أقوله لك. وذلك إنه كان فيهما تقدم رجل من كتامة كاهن، يقال له فيلق، وكان إذ رأى تفاتنهم يقول لهم: إنما ترون الحرب إذا جاءكم الرجل الشرقي صاحب البغلة الشهباء. فلما رأيتك، تذكرت قوله. فلما وقر ذلك في سمعه استبشر. وكان ذلك والذي قبله من الفال تقوية له على أمره، وزيادة إقدام، لولا هو لم يقدر أن يتجاسر على شيء منه. فسبحان مسبب الأسباب.
فسار عبد الله الداعي حتى وافى منزل الشيخ صاحبه الكتامي، فقصد إلى المسجد ونزل به، وفيه معلم يعلم الصبيان وعنده أبناء الشيخ صاحبه فلما حان وقت الظهر أذن المعلم فسمع الشيخ الأذان فخرج إلى المسجد، فرأى عبد الله فسلم عليه، وعانقه فلما أراد المعلم الدخول للمحراب، أخره عنه الشيخ وقدّم عبد اله لداعي، فلما انقضت الصلاة قم معه إلى منزله وبالغ في إكرامه، وتحدث معه إلى أن حانت صلاة العصر، فخرج معه لصلاة. فاستراب معلم الصبيان بذلك فترك ذلك المسجد والتعليم فيه وانصرف. وصار عبد الله في ذلك المسجد يصلي ويعلم الصبيان. واجتهد
في تعليم الأولاد فجمعوا له أربعين دينارا، وزاد عليها الشيخ وأتى بها إلى أبي عبد الله، فدفعها له، واعتذر له من ذلك. فتركها أبو عبد الله أمامه ورد يده إلى كيس كان معه، وصب منه خمسمائة دينار أمام الشيخ وقال له: لست بمعلم الصبيان إنما الأمر ما أخبرك به فاسمع إنما نحن أنصار أهل البيت وقد جاءت الرواية فيكم يا أهل كتامة! إنكم أنصارنا، والمقيمون لدولتنا، وإن الله يظهر بكم دينه، ويعز بكم أهل البيت! وإنه سيكون غمام منهم أنتم أنصاره والباذلون مهجتهم دونه، وإن اله يستفتح بكم الدنيا كلها ويكون لكم أجركم مضاعفا. فيجتمع لكم خير الدنيا والآخرة!. فقال له: الشيخ: أنا أرغب فيما رغبتني فيه وأبذل فيه مهجتي ومالي ومن اتبعني وأنا أطوع إليك من يدك: فمر بما شئت أمتثله!. فقال له: ادع لخاصة من بني عمك الأقرب فالأقرب. فقال: نعم. فنظر الشيخ فيما قاله، وبث دعوته في أقاربه ومن يختص به.
وجاء شهر رمضان. فقال أبو عبد اله للشيخ: إن رمضان قد جاء ومذهبنا أن لا تصلى التراويح لأنها ليست من سنة النبي صلى الله عليه وسلم وإنما سنها عمر ونحن نطوّل القراءة في صلاة العشاء الأخيرة، ونقرأ بالسور الطوال، فيكون ذلك عوضا عن التراويح. فقال له الشيخ: أنا طائع لك فافعل ما تريده. وبلغ خبر هذه الصلاة ولمع من أخبار هذا لداعي إلى بعض من اتصل بمنزل الشيخ وبأخيه. فسار أخو الشيخ إليه وقال له: ما لك ولهذا المشرقي الذي أفسد دينك. وغيّر مذهبك؟. فلما فرغ من كلامه قال له الشيخ: أنا أدعوك للأمر الذي دخلت فيه، فأما أن تتقلد ما تقلدته وأما أن لا تلقاني بذم من قد بلوت خيره وفضله ودينه!. فانصرف عنه أخوه مغضبا. وانفرد الشيخ مع سائر الجماعة، فوصف لهم أبا عبد اله بكل فضيلة حتى تمكنت محبته في قربهم، ثم أخرجه إليهم وقال له: كلمهم يا أبا عبد
الله فكلمهم بلسانه وقال لهم: أنتم أنصار أهل البيت وشيعته! حتى خلب عقولهم بحلاوة لفظه. فلم يبرحوا حتى دخلوا في دعوته.
ثم أن أخا الشيخ توجه إليه، يفخر عليه بمعلم أولاده، ويدعي إنه أعلم من أبي عبد الله ويطلب مناظرتهما. فتواعدوا لذلك. ولنا حان الموعد جاء أخو الشيخ وأبنائه، وبلغ أخاه مجيئه، فأتى بجماعة منت بني عمه ممن دخل في مذهبه وقال لهم: إذا نحن اجتمعنا، اضربوا أنتم على قيطون أخي كأنكم أعدائه! وأمر جماعة أخرى، فكمنت له في طريقه. فبينما أخو الشيخ مع معلمه وأولاده، إذ صرخت صارخة من نحو قيطونة، فأسرع يركض إلى ناحيته، فخرج عليه الكمين، فخبطوه بأسيافهم، وتركوه عقيرا. وبلغ الشيخ خبر قتل أخيه، فبادر كأنه لا علم عنده من ذلك، وجاء بنو عمه يعزونه في أخيه، فذبحت البقر، وصنع طعاما لبني عمه ونعى لهم أخاه، واحتال على قوم من بني عمه وأخذ عليهم العهود والمواثيق بطاعة الداعي فاجتمع له منهم خلق كثير.
وأقام هذا الشيخ في حرب مع قومه وبني عمه مدة من سبعة أعوام، إلى أن وافاه أجله. فلما حضرته الوفاة، جمع بني عمه وقرابته، وقال لهم: أوصيكم بهذا الرجل ألا تختلفوا عليه! وأوصى عبد اله على أولاده، وقضى نحبه. فالتزمت كتامة الطاعة لأبي عبد الله ودخلت قبائل كثيرة في دعوته. فصير لهم ديوانا، وألزمهم العسكرية، وقال لهم: أن لا أدعوكم لنفسي، وإنما أدعوكم لطاعة الإمام المعصوم من أهل البيت، الذي صفته كذا وكذا. ووصف لهم من كراماته ما تنكره العقول. فكانت تصح عندهم، ويقول لهم: هو صاحب هذا الأمر، وأنا منصرف من بين يديه إذا ظهر! يعني عبيد الله. ولم يكن رآه قط، وإنما يسمع من شيوخ الشيعة، وكان يعتقد ذلك اعتقادا
صحيحا لا مرية فيه، إلى أن صفا له أمر البربر، فنازل الحواضر وهزم ملك أفريقية وانتزعها من يديه.
وفى سنة 281، أمر إبراهيم ابن الأغلب صاحب أفريقية ميمونا الحبشي أن يسير إلى تونس، فيقتل بها جماعة من بني تميم وغيرهم، فقتلوا وصلبوا على بابها. فوفد أكابر أهل تونس مع ميمون الحبشي، فكسا السلطان ميمونا الخزّ والوشي والديباج، وطوقه بالذهب، وحماه على فرس، وصرفه إلى تونس من غده. وفيها خرج السلطان إبراهيم بن الأغلب إلى تونس، لثمان خلون من رجب، فاستوطنها.
وفي سنة 282، انعقد الصلح بين أهل صقلية والروم لأربعين شهرا على إخراج ألف أسير من المسلمين، وعلى أن تكون عندهم رهائن الإسلام في كل ثلاثة اشهر من العرب وثلاثة من البربر وفيها قدم إبراهيم بن الأغلب بنيه على بلاد أفريقية.
وفي سنة 283، رجع إبراهيم بن أحمد من تونس إلى رقادة. وخرج أبو منصور أحمد بن إبراهيم إلى طرابلس. وخرج أبو بحر بن أدهم إلى مصر. وفيها كانت وقعة نفوسة، وذلك إن إبراهيم بن أحمد اعترضته نفوسة بين قابس وطرابلس ومنعته الجواز، وكانوا في زهاء عشرين ألف رجل لا فارس معهم فناصبهم الحرب وقاتلوهم قتالا شديدا حتى هزموهم وقتلوا أكثرهم. ثم تمادى إلى مدينة طرابلس، فقتلوا بها أبو العباس محمد بن زيادة الله بن الأغلب وكان أديبا ظريفا، له تواليف، وسبب قتله أن المعتضد بالله العباسي كتب إلى إبراهيم بن أحمد يعنفه على جوره وسوء فعله بأهل تونس ويقول له:: إن انتهيت عن أخلاقك هذه، وإلا فسلم العمل الذي بيدك لابن عمك محمد بن زيادة الله! ثم نهض من طرابلس إلى تاورغا: فقتل بها خمسة عشر رجلا، وأمر بطبخ رؤوسهم مظهرا إنه يريد أكلها، هو ومن معه من