الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خاتمة:
ينبغي للمتكلم أن يتأنق في ثلاثة مواضع: الابتداء، التخلص، الانتهاء.
1-
فالابتداء: هو أن يجعل المتكلم مبدأ كلامه حسن الوصف عذب اللفظ، صحيح المعنى، فإذا اشتمل على إشارة إلى المقصود سمي براعة استهلال.
قال ابن رشيق في "العمدة": إن حسن الافتتاح، داعية الانشراح، ومطية النجاح، كما جاء في الخبر الشعر قفل أوله مفتاحه، فعلى الشاعر أن يجود ابتداء شعره، فإنه أول ما يقرع السمع وبه يستدل على ما عنده، وليتجنب "ألا وخليلي وقد" فلا يستكثر منها في ابتدائه فإنها من علامات الضعف والتكلان إلا للقدماء وليجعله حلوا سهلا وفخما جزلا، ا. هـ.
ومن جيد الابتداءات قول امرئ القيس:
قفا نبك من ذكري حبيب ومنزل
…
بسقط اللوى بين الدخول فحومل1
فقد وقف واستوقف وبكى واستبكى، وذكر الحبيب والمنزل في مصراع واحد، وقول النابغة الجعدي:
كليني لهم يا أميمة ناصب
…
وليل أقاسيه بطيء الكواكب
وقد فضلوا بيت النابغة على البيت الأول؛ لأن الشطر الثاني منه كثير الألفاظ قليل المعنى غريب اللفظ.
وقد كان أبو تمام في الموضع الذي لا يجارى في فخم ابتداءاته لما لها من الروعة والجلال، كقول يهنئ المعتصم بفتح عمورية، مع أن المنجمين كانوا قد زعموا أنها لا تفتح في ذلك الوقت:
1 السقط: منقطع الرمل حيث يدق، واللوى رمل معوج ملتو، والدخول وحومل: موضعان.
السيف أصدق أنباء من الكتب
…
في حده الحد بين الجد واللعب
بيض الصفائح لا سود الصحائف
…
في متونهن جلاء الشك والريب
ومن جيد الابتداءات المشتملة على براعة الاستهلال قول حافظ إبراهيم في تحية عام هجري:
أطل على الأكوان والخلق تنظر
…
هلال رآه المسلمون فكبروا
وقول أحمد شوقي في رثاء إسماعيل صبري:
أجل وإن طال الزمان موافي
…
أخلى يديك من الخليل الوافي
وقوله أيضا في فوز الأتراك على اليونان:
الله أكبر كم في الفتح من عجب
…
يا خالد الترك جدد خالد العرب
وربما خان الحظ بعض الشعراء المفلقين وأوقعهم نحس الطالع في مهواة سحيقة لا قرار لها إما من غفلة أو غلطة في الطبع أو استغراق في الصنعة وشغل هاجس بالعمل يذهب مع حسن القول أين ذهب، واعتبر ذلك بما أنشده ذو الرمة حين دخل على هشام بن عبد الملك بن مروان من قوله:
ما بال عينك منها الماء منسكب
…
كأنه من كلى مقرية سرب1
وكان به رمش فهي تدمع أبدأن فظن أنه عرض به، فقال: بل عينك، وأمر بإخراجه.
وقيل إنه لما بنى المعتصم قصره بميدان بغداد وجمع عظماء دولته وجلس فيه في يوم حفل أنشده إسحاق الموصلي:
يا دار غيرك البلى ومحاك
…
يا ليت شعري ما الذي أبلاك
فتطير المعتصم بهذا الابتداء وأمر بهدم القصر.
فعلى الحاذق الفطن أن ينظر في أحوال المخاطبين، ويختار للأوقات ما يشاكلها فيقصد ما يحبون ويتجنب ما يكرهون سماعه.
2-
التخلص: الخروج، هو أن ينتقل الشاعر من فن إلى آخر بأحسن أسلوب مع لطف تخيل وحسن تخلص، بحيث لا يشعر السامع بالانتقال لشدة
1 الكلى جمع كلية "بضم الكاف" والمقرية المحزوزة، والسرب الجاري.
الالتئام، كأنهما أفرغا في قالب واحد، وذلك يحرك من نشاط السامعين ويعين على إصغائهم، وأحسنه ما تهيأ للناظم في بيت واحد كقول مسلم بن الوليد يمدح يحيى البرمكي:
أجدك ما تدرين أن رب ليلة
…
كأن دجاها من قرونك ينشر
سريت بها حتى تجلت بغرة
…
كغرة يحيى حين يذكر جعفر1
ويليه ما جاء في بيتين كقول المتنبي يمدح المغيث بن علي العجلي:
مرت بنا بين تربيها فقلت لها
…
من أين جانس هذا الشادن العربا
فاستضحكت ثم قالت كالمغيث يرى
…
ليث الشرى وهو من عجل إذا انتسبا2
وأكثر الناس ولوعا بهذا النوع أبو الطيب، ولأجله يسقط سقوطا قبيحا، كقوله:
ها فانظري أو فظني بي ترى حرقا
…
من لم يذق طرفا منها فقد وألا
على الأمير يرى ذلي فيشفع لي
…
إلى التي ترتكتني في الهوى مثلا3
فقد تمنى أن يكون الأمير قوادا له.
والمتأخرون كلهم على الجملة فلما يفوتهم سلوك هذه الطريق، أم العرب فما كانوا يذهبون هذا المذهب في الخروج من المديح، بل يقولون عند فراغهم من نعت الإبل وذكر القفار، وما هم بسبيله: دع ذا، وعد عن ذا، ثم يأخذون فيما يريدون، ويسمى هذا اقتضابا، كقوله:
فدع ذا، وسل لهم عنك بجسرة
…
ذمول إذا صام النهار وهجرا4
أو يأتون بأن المشددة ابتداء للكلام الذي يقصدونه، وكثيرا ما كان البحتري يسلك هذه الطريقة كقوله:
1 أجدك "بكسر الجيم وفتحها" لا يتكلم به إلا مضافا، والمعنى: أيجد منك هذا، فتصبه على طرح الباء، فإذا سبق بالواو فقيل: وجدك، فهو مفتوح الجيم ليس غير.
2 الترب واللدة المساوي في السن، والشادن: الظبي إذا شدت قرنه وقوي، واستضحكت: ضحكت، والثري مأسدة مشهورة.
3 الحرق جمع حرقة ما يجده الإنسان من لذعة حب أو حزن، ووأل نجا.
4 الجسرة الطوية الضخمة من النوق، والذمول التي تسير ذميلا أي: حثيثا، وصام النهار قام قائم الظهيرة واعتدل.
لولا الرجاء لمت من ألم النوى
…
لكن قلبي بالرجاء موكل
إن الرعية لم تزل في سيرة
…
عمرية منذ ساسها المتوكل
ومن الاقتضاب ما هو شبيه بالتخلص كما يقول القائلي بعد حمد الله، أما بعد فكذا، وكقوله تعالى:{هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ} 1، أي: هذا كما ذكر، وقول المؤلف: هذا باب، هذا فصل.
3-
الانتهاء: الاختتام، هو أن يختم المتكلم كلامه بأحسن الخواتم، إذ هي آخر ما يبقى منه في الأسماع، وربما حفظت من بين سائر الكلام لقرب العهد بها فوجب أن تكون غاية في الجودة وألا يكون سبيل للزيادة عليها، ولا لأن يؤتي بعدها بأحسن منها في رشاقتها وحلاوتها وقوتها وجزالتها، مع تضمنها معنى تاما يؤذن السامع بأنه الغاية والمقصد والنهاية، فإن دل على ما يشعر بالانتهاء سمي براعة مقطع.
ولقد ختم الله تعالى كل سورة من سور القرآن الكريم بأحسن ختام، وأتمها بما يطابق مقصدها من أدعية أو وعد أو وعيد أو موعظة أو تحميد إلى غير ذلك من الخواتم الرائعة.
وقد أجاد سلوك هذا الطريق المتأخرون، كأبي نواس وأبي تمام والبحتري، ولا سيما المتنبي، فإنه أتى فيه بالعجب العجاب، فمن ذلك قول أبي نواس في المأمون:
فبقيت للعلم الذي تهدي له
…
وتقاعست عن يومك الأيام
فانظر كيف تضمنت هذه الخاتمة الدعاء بالبقاء مع المدح والإعظام، وقول أبي تمام:
فما من ندي إلا إليك محله
…
ولا رفعة إلا إليك تسير
وقول ثالث:
فلا حطت لك الهيجاء سرجا
…
ولا ذاقت لك الدنيا فراقا
وقول الأرجاني:
بقيت ولا أبقى لك الدهر كاشحا
…
فإنك في هذا الزمان فريد
وقول ابن حجة في بديعيته:
عليك سلام نشره كلما بدا
…
به يتغالى الطيب والمسك يختم
1 سورة ص الآية: 5.