الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس: في الجملة الاسمية والفعلية
مما تمس الحاجة إلى معرفته، الفرق بين الجملة الاسمية والفعلية في الاستعمال، لوعورة المسلك ودقة الصنع، إذ قلما يفطن له الفصحاء ذوو الدراية في المنطق، وبيان ذلك أن الجملة قسمان:
1-
اسمية وتفيد بأصل وضعها ثبوت الحكم فحسب، بلا نظر إلى تجدد ولا استمرار، فلا يستفاد من قولنا: علي مسافر، سوى ثبوت السفر فعلا لعلي دون نظر إلى تجدد ولا حدوث، فالمعنى فيه شبيه بالمعنى في قولنا: محمد طويل ومحمود قصير، فكما لا يقصدها هنا إلى أن يجعل الطول والقصر يتجدد ويحدث، بل يقصد إيجابهما وثبوتهما فقط، كذلك لا يتعرض في قولنا: علي مسافر لأكثر من إثبات السفر فعلا لعلي.
ولكن قد تحف بها قرائن أخرى تستفاد من سياق الكلام، كأن يكون في معرض مدح أو ذم أو حكمة، أو نحو ذلك، فتفيد لدوام والاستمرار حينئذ، وعليه قول النضر بن جويرية يتمدح بالغنى والكرم:
لا يألف الدرهم المضروب صرتنا
…
لكن يمر عليها وهو منطلق1
فهو يريد أن دراهمهم دائمة الانطلاق تمرق من الكيس مروق السهام من قسيها لتوزع على المعوزين وأرباب الحاجات، كما يرشد إلى ذلك ما قبله:
إنا إذا اجتمعت يوما دراهمنا
…
ظلت إلى طرق المعروف تستبق
ونظيره قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} 2، فسياق الحديث في معرض المدح دال على إفادة الاستمرار والدوام.
2-
فعلية، وتدل بأصل وضعها على التجدد في زمن معين مع الاختصار، فلا يستفاد من نحو: طلعت الشمس، إلا إثبات الطلوع فعلا للشمس في زمن مضى.
تفسير هذا أن الفعل يدل على أحد الأزمنة الثلاثة بذاته لا بقرينة3 خارجة عنه، وهذا الزمن الذي هو أحد مدلوليه "مدلوله الثاني الحدث" لا تجتمع أجزاؤه في الخارج، بل تتصرم وتنقضي شيئا فشيئا، ومن ثم كان الفعل مع إفادته الزمن يفيد أيضا تجدد الحدث وحصوله بعد أن لم يكن، بخلاف الاسم، فإنه إنما يدل على الزمن المعين بقرينة أخرى، كأن يقال: أمس أو الآن أو غدا.
1 الصرة كيس الدراهم.
2 سورة القلم.
3 أما احتياج الفعل المضارع إلى قرينة في تعيين الحال أو الاستقبال فهو تعيين للمراد لا تعيين للزمن؛ لأنه دال عليه بالوضع.
وقد تفيد الاستمرار التجددي شيئا فشيئا بمعونة القرائن إذا كان الفعل مضارعا، ومن البين في ذلك قوله تعالى:{إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ} 1، فالقصد الدلالة على حدوث التسبيح من الجبال آنا إثر آن، وحالا بعد حال. ونحوه قول طريف بن تميم العنبري يتمدح بجرأته وشجاعته:
أوكلما وردت عكاظ قبيلة
…
بعثوا إلى عريفهم يتوسم2
إذ يريد أن كل قبيلة ترد سوق عكاظ تبعث عريفها ليتفرس في وجوه القوم مرة بعد أخرى، ويتوسمها وقتا بعد وقت، لعله يهتدي إلى معرفتي. وقول المتنبي:
تدبر شرق الأرض والغرب كفه
…
وليس لها يوما عن الجود شاغل
فقرينة المدح تدل على أن تدبير الملك ديدنه وحاله المستمرة التي لا يحيد عنها.
تنبيهات:
1-
الجملة الاسمية إنما تفيد الدوام والثبات بقرينة المقام إذا كان خبرها مفردا أو جملة اسمية، نحو: محمد كريم، علي أبوه جواد. أما إذا كان خبرها فعلية فإنها تفيد التجدد.
2-
المسند تارة يكون مفردا فعلا كان أو اسما، وطورا يكون ظرفا للاختصار، نحو: البركة في البكور. وحينا يكون جملة للأسباب الآتية:
أ- إذا قصد تقوية الحكم بتكرير الإسناد، نحو قول المتنبي:
والله يسعد كل يوم جده
…
ويزيد من أعدائه في آله
ب- إذا قصد قصر الحكم وتخصصه بالمسند، نحو: أنا سعيت في حاجتك، أي: لا غيري.
جـ- إذا كان سببيا أي: جملة معلقة على مبتدأ بعائد لا يكون مسندا إليه في تلك الجملة، نحو: محمد أخوه نبيه، إبراهيم نجح ابنه.
1 سورة ص الآية: 18.
2 عكاظ أكبر الأسواق العربية التي كانت من أسباب تهذيب اللغة، وفيها كانوا يجتمعون للتفاخر وللتنافر ليلا ولتصريف المتاجر نهارا.