الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هُوَ الَّذِي تَقَدَّمَتَ الْإِشَارَةُ مِنَ التِّرْمِذِيِّ إِلَى ضَعْفِ إِسْنَادِهِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعًا، فهذه الألفاظ كلها منكرة بعيدة من كَلَامِ مَنْ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَذَكَرَهُ الْخَطِيبُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ. وَذَكَرَ نَحْوَهُ الْخَطِيبُ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ بِأَخْصَرَ مِنْهُ. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي سُورَةِ يس: «لَوَدِدْتُ أَنَّهَا فِي قَلْبِ كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْ أُمَّتِي» وَإِسْنَادُهُ هَكَذَا: قال حدثنا سلمة ابن شَبِيبٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَهُ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ قَالَ السُّيُوطِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
«من دوام عَلَى قِرَاءَةِ يس كُلَّ لَيْلَةٍ ثُمَّ مَاتَ مَاتَ شَهِيدًا» . وَأَخْرَجَ الدَّارِمِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَنْ قَرَأَ يس حِينَ يُصْبِحُ أُعْطِيَ يُسْرَ يَوْمِهِ حَتَّى يُمْسِيَ، وَمَنْ قَرَأَهَا فِي صَدْرِ لَيْلَتِهِ أُعْطِيَ يُسْرَ لَيْلَتِهِ حَتَّى يُصْبِحَ.
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة يس (36) : الآيات 1 الى 12]
بسم الله الرحمن الرحيم
يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (4)
تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9)
وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (12)
قَوْلُهُ: يس قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِسُكُونِ النُّونِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَحَفْصٌ وَقَالُونُ وَوَرْشٌ بِإِدْغَامِ النُّونِ فِي الْوَاوِ الَّذِي بَعْدَهَا، وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ بِفَتْحِ النُّونِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ بِكَسْرِهَا، فَالْفَتْحُ عَلَى الْبِنَاءِ أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ فِعْلٍ مُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ: اتْلُ يس، وَالْكَسْرُ عَلَى الْبِنَاءِ أَيْضًا كَجَيْرِ، وَقِيلَ الْفَتْحُ وَالْكَسْرُ لِلْفِرَارِ مِنِ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَأَمَّا وَجْهُ قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِالسُّكُونِ لِلنُّونِ، فَلِكَوْنِهَا مَسْرُودَةً عَلَى نَمَطِ التَّعْدِيدِ فَلَا حَظَّ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ. وَقَرَأَ هَارُونُ الْأَعْوَرُ ومحمّد بن السميقع وَالْكَلْبِيُّ بِضَمِّ النُّونِ عَلَى الْبِنَاءِ كَمُنْذُ وَحَيْثُ وَقَطُّ، وَقِيلَ: عَلَى أَنَّهَا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هَذِهِ يس، وَمُنِعَتْ مِنَ الصَّرْفِ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالتَّأْنِيثِ.
وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى هَذِهِ اللَّفْظَةِ، فَقِيلَ: مَعْنَاهَا يَا رَجُلُ، أَوْ يَا إِنْسَانُ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْوَقْفُ عَلَى يس حَسَنٌ لِمَنْ قَالَ هُوَ افْتِتَاحٌ لِلسُّورَةِ، وَمَنْ قَالَ مَعْنَاهُ يَا رَجُلُ لَمْ يَقِفْ عَلَيْهِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَغَيْرُهُ:
هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ محمّد صلى الله عليه وسلم دَلِيلُهُ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ وَمِنْهُ قَوْلُ السَّعْدِ الْحِمْيَرِيِّ:
يَا نَفْسُ لَا تَمْحَضِي بِالنُّصْحِ جَاهِدَةً
…
عَلَى الْمَوَدَّةِ إِلَّا آلَ يَاسِينَ
ومنه قوله: سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ «1» أَيْ عَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، وَسَيَأْتِي فِي الصَّافَّاتِ ما المراد بآل يَاسِينَ.
قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْمُفَسِّرُونَ: يُرِيدُ يَا إِنْسَانُ: يَعْنِي مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ: مَعْنَاهُ يَا سَيِّدَ الْبَشَرِ. وَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ اسْمٌ مِنْ أسماء الله تعالى، روى ذَلِكَ عَنْهُ أَشْهَبُ. وَحَكَى أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ عَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ أَنَّ مَعْنَاهُ يَا سَيِّدُ. وَقَالَ كَعْبٌ: هُوَ قَسَمٌ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ، وَرَجَّحَ الزَّجَّاجُ أَنَّ مَعْنَاهُ يَا مُحَمَّدُ.
وَاخْتَلَفُوا هَلْ هُوَ عَرَبِيٌّ أَوْ غَيْرُ عَرَبِيٍّ؟ فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةُ: حَبَشِيٌّ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: سُرْيَانِيٌّ تَكَلَّمَتْ بِهِ الْعَرَبُ فَصَارَ مِنْ لُغَتِهِمْ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: هُوَ بِلُغَةِ طَيِّئٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ بِلُغَةِ كَلْبٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي طه وَفِي مُفْتَتَحِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مَا يُغْنِي عَنِ التَّطْوِيلِ هَاهُنَا وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ بِالْجَرِّ عَلَى أَنَّهُ مُقْسَمٌ بِهِ ابْتِدَاءً.
وَقِيلَ هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى يس عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ مَجْرُورًا بِإِضْمَارِ الْقَسَمِ. قَالَ النَّقَّاشُ: لَمْ يُقْسِمِ اللَّهُ لِأَحَدٍ مِنْ أَنْبِيَائِهِ بِالرِّسَالَةِ فِي كِتَابِهِ إِلَّا لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم تَعْظِيمًا لَهُ وَتَمْجِيدًا، وَالْحَكِيمُ الْمُحْكَمُ الَّذِي لَا يَتَنَاقَضُ وَلَا يَتَخَالَفُ، أَوِ الْحَكِيمُ قَائِلُهُ، وَجَوَابُ الْقَسَمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ وَهَذَا رَدٌّ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ رِسَالَتَهُ مِنَ الْكُفَّارِ بِقَوْلِهِمْ: لَسْتَ مُرْسَلًا «2» وقوله: عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ خَبَرٌ آخَرُ لَإِنَّ، أَيْ: إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ: الطَّرِيقُ الْقَيِّمُ الْمُوصِلُ إِلَى الْمَطْلُوبِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: عَلَى طَرِيقَةِ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ تَقَدَّمُوكَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ قَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَأَبُو بَكْرٍ بِرَفْعِ «تَنْزِيلُ» عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُوَ تَنْزِيلُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا لِقَوْلِهِ يس إِنْ جُعِلَ اسْمًا لِلسُّورَةِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، أَيْ: نَزَّلَ الله ذلك تنزيل العزيز الرحيم. والمعنى: أن القرآن تنزيل العزيز الرحيم، وقيل المعنى: إِنَّكَ يَا مُحَمَّدُ تَنْزِيلُ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَقِيلَ: هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَدْحِ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِالنَّصْبِ، وَعَبَّرَ سُبْحَانَهُ عَنِ الْمُنَزَّلِ بِالْمَصْدَرِ مُبَالَغَةً حَتَّى كَأَنَّهُ نَفْسُ التَّنْزِيلِ، وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو جَعْفَرٍ يَزِيدُ بْنُ الْقَعْقَاعِ وَشَيْبَةُ «تَنْزِيلِ» بِالْجَرِّ عَلَى النَّعْتِ لِلْقُرْآنِ أَوِ الْبَدَلِ مِنْهُ، وَاللَّامُ فِي لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آباؤُهُمْ يَجُوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ بتنزيل، أَوْ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، أَيْ: أَرْسَلْنَاكَ لِتُنْذِرَ، وَ «مَا» فِي مَا أُنْذِرَ آباؤُهُمْ هِيَ النَّافِيَةُ، أَيْ: لَمْ يُنْذَرْ آبَاؤُهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً أَوْ مَوْصُوفَةً، أَيْ: لِتُنْذِرَ قَوْمًا الَّذِي أُنْذِرَهُ آبَاؤُهُمْ، أَوْ لِتُنْذِرَهُمْ عَذَابًا أُنْذِرَهُ آبَاؤُهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، أَيْ: إِنْذَارَ آبَائِهِمْ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا نَافِيَةٌ يَكُونُ الْمَعْنَى: مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ بِرَسُولٍ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمُ الْأَقْرَبُونَ لِتَطَاوُلِ مُدَّةِ الْفَتْرَةِ، وَقَوْلِهِ: فَهُمْ غافِلُونَ مُتَعَلِّقٌ بِنَفْيِ الْإِنْذَارِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ:
أَيْ لَمْ يُنْذَرْ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ غَافِلُونَ، وَعَلَى الْوُجُوهِ الْآخِرَةِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ لِتُنْذِرَ، أَيْ: فَهُمْ غَافِلُونَ عَمَّا أَنْذَرْنَا بِهِ آبَاءَهُمْ، وَقَدْ ذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى عَلَى النَّفْيِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنَ النَّظْمِ لِتَرْتِيبِ فَهُمْ غَافِلُونَ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ هِيَ الْمُوَطِّئَةُ لِلْقَسَمِ، أَيْ: وَاللَّهِ لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ وَمَعْنَى حَقَّ: ثَبَتَ وَوَجَبَ الْقَوْلُ، أَيِ: الْعَذَابُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ، أَيْ: أَكْثَرِ أهل
(1) . الصافات: 130.
(2)
. الرعد: 43.
مَكَّةَ، أَوْ أَكْثَرِ الْكُفَّارِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، أَوْ أَكْثَرِ كُفَّارِ الْعَرَبِ، وَهُمْ مَنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ وَأَصَرَّ عَلَيْهِ طُولَ حَيَاتِهِ فَيَتَفَرَّعُ قَوْلُهُ: فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ عَلَى مَا قَبْلَهُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، أَيْ: لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ عَلِمَ مِنْهُمُ الْإِصْرَارَ عَلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَوْتِ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْقَوْلِ الْمَذْكُورِ هُنَا هُوَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ «1» وَجُمْلَةُ إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا تَقْرِيرٌ لِمَا قَبْلَهَا مَثَّلَتْ حَالَهُمْ بِحَالِ الَّذِينَ غُلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ فَهِيَ أَيِ: الْأَغْلَالُ مُنْتَهِيَةٌ إِلَى الْأَذْقانِ فَلَا يَقْدِرُونَ عِنْدَ ذَلِكَ عَلَى الِالْتِفَاتِ وَلَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ عَطْفِهَا، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: فَهُمْ مُقْمَحُونَ أي: رافعون رؤوسهم غَاضُّونَ أَبْصَارَهُمْ. قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: الْمُقْمَحُ: الْغَاضُّ بَصَرَهُ بَعْدَ رَفْعِ رَأْسِهِ وَمَعْنَى الْإِقْمَاحِ رَفْعُ الرَّأْسِ وَغَضُّ الْبَصَرِ، يُقَالُ أَقْمَحَ الْبَعِيرُ رَأْسَهُ وَقَمَحَ: إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ وَلَمْ يَشْرَبِ الْمَاءَ، قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: أَرَادَ اللَّهُ أَنَّ أَيْدِيَهُمْ لَمَّا غُلَّتْ عِنْدَ أَعْنَاقِهِمْ رَفَعَتِ الْأَغْلَالَ إِلَى أَذْقَانِهِمْ ورؤوسهم صعداء، فهم مرفوعو الرؤوس رفع الْأَغْلَالِ إِيَّاهَا.
وَقَالَ قَتَادَةُ: مَعْنَى مُقْمَحُونَ: مَغْلُولُونَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَنَحْنُ عَلَى جَوَانِبِهَا قُعُودٌ
…
نَغُضُّ الطَّرْفَ كَالْإِبِلِ الْقِمَاحِ
قَالَ الزَّجَّاجُ: قِيلَ لِلْكَانُونَيْنِ شَهْرَا قِمَاحٍ، لِأَنَّ الْإِبِلَ إذا وردت الماء رفعت رؤوسها لِشِدَّةِ الْبَرْدِ، وَأَنْشَدَ قَوْلَ أَبِي زَيْدٍ الْهُذَلِيِّ:
فَتًى مَا ابْنُ الْأَغَرِّ إِذَا شَتَوْنَا
…
وَحُبَّ الزَّادُ فِي شَهْرَيْ قُمَاحِ
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: قَمَحَ الْبَعِيرُ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ عَنِ الْحَوْضِ وَلَمْ يَشْرَبْ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَيْضًا: هُوَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لَهُمْ فِي امْتِنَاعِهِمْ عَنِ الْهُدَى كَامْتِنَاعِ الْمَغْلُولِ، كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ حِمَارٌ، أَيْ: لَا يُبْصِرُ الْهُدَى، وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
لَهُمْ عَنِ الرُّشْدِ أَغْلَالٌ وَأَقْيَادُ وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هذا ضرب مثل، أي: حسبناهم عَنِ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ «2» وَبِهِ قَالَ الضَّحَّاكُ. وَقِيلَ: الْآيَةُ إِشَارَةٌ إِلَى مَا يُفْعَلُ بِقَوْمٍ فِي النَّارِ مِنْ وَضْعِ الْأَغْلَالِ فِي أَعْنَاقِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ «3» وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ «إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَيْمَانِهِمْ أَغْلَالًا» قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ فِي أَيْدِيهِمْ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ تَفْسِيرٌ وَلَا يُقْرَأُ بِمَا خَالَفَ الْمُصْحَفَ. قَالَ: وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ عَلَى قِرَاءَةِ الْجَمَاعَةِ، التَّقْدِيرُ: إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ وفي أيديهم أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَلَفْظُ هِيَ كِنَايَةٌ عَنِ الْأَيْدِي لَا عَنِ الْأَعْنَاقِ، وَالْعَرَبُ تَحْذِفُ مثل هذا، ونظيره سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ «4» وَتَقْدِيرُهُ: وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْبَرْدَ، لِأَنَّ مَا وَقَى مِنَ الْحَرِّ وَقَى مِنَ الْبَرْدِ، لِأَنَّ الْغُلَّ إذا كان في العنق فلا بدّ أَنْ يَكُونَ فِي الْيَدِ، وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ قَالَ اللَّهُ فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الْأَيْدِي فَهُمْ مُقْمَحُونَ، أَيْ: رافعو رؤوسهم لَا يَسْتَطِيعُونَ الْإِطْرَاقَ، لِأَنَّ مَنْ غُلَّتْ يَدَاهُ إِلَى ذَقْنِهِ ارْتَفَعَ رَأْسُهُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ «إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَيْدِيهِمْ أَغْلَالًا» وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَرَأَ «إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَيْمَانِهِمْ أَغْلَالًا» كَمَا رُوِيَ سَابِقًا من قراءة ابن عباس
(1) . ص: 84 و 85.
(2)
. الإسراء: 29.
(3)
. غافر: 73.
(4)
. النحل: 81.
وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا أَيْ: مَنَعْنَاهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ بِمَوَانِعَ فَهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ مِنَ الْكُفْرِ إِلَى الْإِيمَانِ، كَالْمَضْرُوبِ أَمَامَهُ وَخَلْفَهُ بِالْأَسْدَادِ، وَالسَّدُّ بِضَمِّ السِّينِ وَفَتْحِهَا لُغَتَانِ، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْآيَةِ قول الشاعر:
ومن الحوادث لا أبالك أَنَّنِي
…
ضُرِبَتْ عَلَيَّ الْأَرْضُ بِالْأَسْدَادِ
لَا أَهْتَدِي فيها لموضع تلعة
…
بين العذيب وَبَيْنَ أَرْضِ مُرَادِ
فَأَغْشَيْناهُمْ أَيْ: غَطَّيْنَا أَبْصَارَهُمْ فَهُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ لَا يُبْصِرُونَ أَيْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى إِبْصَارِ شَيْءٍ. قَالَ الْفَرَّاءُ: فَأَلْبَسْنَا أَبْصَارَهُمْ غِشَاوَةً: أَيْ عَمًى، فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ سَبِيلَ الْهُدَى، وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ: إِنَّ الْمَعْنَى لَا يُبْصِرُونَ الْهُدَى. وَقَالَ السُّدِّيُّ: لَا يُبْصِرُونَ مُحَمَّدًا حِينَ ائْتَمَرُوا عَلَى قَتْلِهِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ:
وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا: أَيِ الدُّنْيَا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا: أَيِ الْآخِرَةَ فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ: أَيْ عَمُوا عَنِ الْبَعْثِ، وَعَمُوا عَنْ قَبُولِ الشَّرَائِعِ فِي الدُّنْيَا. وَقِيلَ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمُ الْآخِرَةُ وَمَا خَلْفَهُمُ الدُّنْيَا، قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ: أَيْ غَطَّيْنَا أَبْصَارَهُمْ، فَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعُمَرُ بن عبد العزيز، والحسن، ويحيى ابن يعمر، وأبو رجاء، وعكرمة بالعين الْمُهْمَلَةِ مِنَ الْعَشَا، وَهُوَ ضَعْفُ الْبَصَرِ. وَمِنْهُ وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ «1» وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ أَيْ: إِنْذَارُكَ إِيَّاهُمْ وَعَدَمُهُ سَوَاءٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ مَنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ هَذَا الْإِضْلَالَ لَمْ يَنْفَعْهُ الْإِنْذَارُ إِنَّمَا يَنْفَعُ الْإِنْذَارُ مَنْ ذُكِرَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ أَيِ: اتَّبَعَ الْقُرْآنَ، وَخَشِيَ اللَّهَ فِي الدُّنْيَا، وَجُمْلَةُ «لَا يُؤْمِنُونَ» مُسْتَأْنَفَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الِاسْتِوَاءِ، أَوْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَوْ بَدَلٌ، وبالغيب فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْفَاعِلِ أَوِ الْمَفْعُولِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ أَيْ: بِشِّرْ هَذَا الَّذِي اتَّبَعَ الذِّكْرَ، وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ بِمَغْفِرَةٍ عَظِيمَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ، أَيْ: حَسَنٍ، وَهُوَ الْجَنَّةُ. ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ بِإِحْيَائِهِ الْمَوْتَى فقال: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى أَيْ: نَبْعَثُهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ: أَيْ نُحْيِيهِمْ بِالْإِيمَانِ بَعْدَ الْجَهْلِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. ثُمَّ تَوَعَّدَهُمْ بِكَتْبِ آثَارِهِمْ فَقَالَ: وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا أَيْ أَسْلَفُوا مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ والطالحة وَآثارَهُمْ أي ما أبقوه من الحسنة الَّتِي لَا يَنْقَطِعُ نَفْعُهَا بَعْدَ الْمَوْتِ: كَمَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، أَوِ السَّيِّئَاتِ الَّتِي تَبْقَى بَعْدَ مَوْتِ فَاعِلِهَا، كَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً. قَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ: وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ «2» وقوله: يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ
«3» وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ آثَارُ الْمَشَّائِينَ إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهُوَ أَوْلَى مَا قِيلَ فِي الْآيَةِ لِأَنَّهَا نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ. وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِعُمُومِ الْآيَةِ لَا بِخُصُوصِ سَبَبِهَا، وَعُمُومُهَا يَقْتَضِي كَتْبَ جَمِيعِ آثَارِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَمِنَ الخير تعليم العلم وَتَصْنِيفَهُ، وَالْوَقْفُ عَلَى الْقِرَبِ، وَعِمَارَةُ الْمَسَاجِدِ، وَالْقَنَاطِرِ. وَمِنَ الشَّرِّ ابْتِدَاعُ الْمَظَالِمِ وَإِحْدَاثُ مَا يَضُرُّ بِالنَّاسِ، وَيَقْتَدِي بِهِ أَهْلُ الْجَوْرِ، وَيَعْمَلُونَ عَلَيْهِ مِنْ مَكْسٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ أَيْ: وَكُلَّ شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِ الْعِبَادِ وَغَيْرِهَا كَائِنًا مَا كَانَ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ، أَيْ: كِتَابٍ
(1) . الزخرف: 36.
(2)
. الانفطار: 5.
(3)
. القيامة: 13.