الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سورة القصص (28) : الآيات 33 الى 43]
قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (35) فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا مَا هَذَا إِلَاّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37)
وَقالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)
لَمَّا سَمِعَ موسى قول الله سبحانه: فذانك برهانان إلى فرعون طَلَبَ مِنْهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُقَوِّيَ قَلْبَهُ، فَ قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً يَعْنِي: الْقِبْطِيَّ الَّذِي وَكَزَهُ فَقَضَى عَلَيْهِ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ بِهَا وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً لِأَنَّهُ كَانَ فِي لِسَانِ مُوسَى حَبْسَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَالْفَصَاحَةُ لُغَةً الْخُلُوصُ، يُقَالُ: فَصُحَ اللَّبَنُ وَأَفْصَحَ فَهُوَ فَصِيحٌ، أَيْ: خَلَصَ مِنَ الرَّغْوَةِ، وَمِنْهُ فَصُحَ الرَّجُلُ: جَادَتْ لُغَتُهُ، وَأَفْصَحَ:
تَكَلَّمَ بِالْعَرَبِيَّةِ. وَقِيلَ: الْفَصِيحُ الَّذِي يَنْطِقُ، وَالْأَعْجَمُ الَّذِي لَا يَنْطِقُ. وَأَمَّا فِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْبَيَانِ فَالْفَصَاحَةُ:
خُلُوصُ الْكَلِمَةِ عَنْ تَنَافُرِ الْحُرُوفِ وَالْغَرَابَةِ وَمُخَالَفَةِ الْقِيَاسِ، وَفَصَاحَةُ الْكَلَامِ: خُلُوصُهُ مِنْ ضَعْفِ التَّأْلِيفِ وَالتَّعْقِيدِ، وَانْتِصَابُ رِدْءاً عَلَى الْحَالِ، وَالرِّدْءُ: الْمُعِينُ، مِنْ أَرْدَأْتُهُ: أَيْ أَعَنْتُهُ، يُقَالُ فُلَانٌ رِدْءُ فُلَانٍ:
إِذَا كَانَ يَنْصُرُهُ وَيَشُدُّ ظَهْرَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ أَصْرَمَ كَانَ رِدْئِي
…
وَخَيْرُ النَّاسِ فِي قَلٍّ وَمَالِ
وَحُذِفَتِ الْهَمْزَةُ تَخْفِيفًا فِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ وَأَبِي جَعْفَرٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَرْكُ الْهَمْزِ مِنْ قَوْلِهِمْ أَرْدَى عَلَى الْمِائَةِ:
إِذَا زَادَ عَلَيْهَا، فَكَانَ الْمَعْنَى أَرْسِلْهُ مَعِيَ زِيَادَةً فِي تَصْدِيقِي، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَأَسْمَرَ خَطِّيًّا كَأَنَّ كُعُوبَهُ
…
نَوَى الْقَسْبِ قَدْ أَرْدَى ذِرَاعًا عَلَى الْعَشْرِ
وَرُوِيَ الْبَيْتُ فِي الصِّحَاحِ بِلَفْظِ قَدْ أَرْبَى، وَالْقَسْبُ الصَّلْبُ، وَهُوَ الثَّمَرُ الْيَابِسُ الَّذِي يَتَفَتَّتُ فِي الْفَمِ، وَهُوَ صَلْبُ النَّوَاةِ يُصَدِّقُنِي قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ يُصَدِّقُنِي بِالرَّفْعِ عَلَى الاستئناف، أو الصفة لردءا، أو لحال مِنْ مَفْعُولِ أَرْسِلْهُ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْجَزْمِ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ، وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ يُصَدِّقُونَ أَيْ: فِرْعَوْنُ
وَمَلَؤُهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعِي هَارُونُ لِعَدَمِ انْطِلَاقِ لِسَانِي بِالْمُحَاجَّةِ قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ أَيْ: نُقَوِّيكَ بِهِ، فَشَدُّ الْعَضُدِ كِنَايَةٌ عَنِ التَّقْوِيَةِ، وَيُقَالُ فِي دُعَاءِ الْخَيْرِ: شَدَّ اللَّهُ عَضُدَكَ، وَفِي ضِدِّهِ: فَتَّ اللَّهُ فِي عَضُدِكَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ عَضُدَكَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ. وَقَرَأَ الْحُسَيْنُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بضمها.
وروي عن الحسن أيضا أنه بِضَمَّةٍ وَسُكُونٍ. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ بِفَتْحِهِمَا وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً أَيْ:
حُجَّةً وَبُرْهَانًا. أَوْ تَسَلُّطًا عَلَيْهِ، وَعَلَى قَوْمِهِ فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بالأذى ولا يقدرون على غلبتكما بالحجة، وبِآياتِنا مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ: أَيْ تَمْتَنِعَانِ مِنْهُمْ بِآيَاتِنَا، أَوِ اذْهَبَا بِآيَاتِنَا. وَقِيلَ: الْبَاءُ لِلْقَسَمِ، وَجَوَابُهُ يَصِلُونَ، وَمَا أَضْعَفَ هَذَا الْقَوْلَ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ وَابْنُ جَرِيرٍ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالتَّقْدِيرُ أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ بِآيَاتِنَا، وَأَوَّلُ هَذِهِ الْوُجُوهِ: أَوْلَاهَا، وَفِي «أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ» :
تَبْشِيرٌ لَهُمَا وَتَقْوِيَةٌ لِقُلُوبِهِمَا فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ الْبَيِّنَاتُ: الْوَاضِحَاتُ الدَّلَالَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ وَجْهُ إِطْلَاقِ الْآيَاتِ، وَهِيَ جَمْعٌ عَلَى الْعَصَا وَالْيَدِ فِي سُورَةِ طه قالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً أَيْ: مُخْتَلَقٌ مَكْذُوبٌ، اخْتَلَقْتَهُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِكَ وَما سَمِعْنا بِهذا الَّذِي جِئْتَ بِهِ مِنْ دَعْوَى النُّبُوَّةِ، أَوْ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا السِّحْرِ فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ أَيْ: كَائِنًا، أَوْ وَاقِعًا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ يُرِيدُ نَفْسَهُ، وَإِنَّمَا جَاءَ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ لِئَلَّا يُصَرِّحَ لَهُمْ بِمَا يُرِيدُهُ قَبْلَ أَنْ يُوَضِّحَ لَهُمُ الْحُجَّةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَرَأَ الْجُمْهُورُ وَقالَ مُوسى بِالْوَاوِ، وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ «قَالَ مُوسَى» بِلَا وَاوٍ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مَصَاحِفِ أَهْلِ مَكَّةَ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ إِلَّا عاصما «ومن يكون لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ» بِالتَّحْتِيَّةِ عَلَى أَنَّ اسْمَ يَكُونُ عَاقِبَةُ الدَّارِ. وَالتَّذْكِيرُ لِوُقُوعِ الْفَصْلِ، وَلِأَنَّهُ تَأْنِيثٌ مَجَازِيٌّ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ (تَكُونُ) بِالْفَوْقِيَّةِ، وَهِيَ أَوْضَحُ مِنَ الْقِرَاءَةِ الْأُولَى، وَالْمُرَادُ بِالدَّارِ هُنَا الدُّنْيَا وَعَاقِبَتُهَا هِيَ الدَّارُ الْآخِرَةُ، وَالْمَعْنَى: لِمَنْ تَكُونُ لَهُ الْعَاقِبَةُ الْمَحْمُودَةُ؟ وَالضَّمِيرُ فِي إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ لِلشَّأْنِ، أَيْ: إِنَّ الشَّأْنَ أَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ، أَيْ:
لَا يَفُوزُونَ بِمَطْلَبِ خَيْرٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِعَاقِبَةِ الدار: خاتمة الخير، وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي تَمَسَّكَ اللَّعِينُ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى الْبَاطِلَةِ مُغَالَطَةً لِقَوْمِهِ مِنْهُ، وَقَدْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ رَبُّهُ اللَّهُ عز وجل، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى تَكَبُّرِهِ وَتَجَبُّرِهِ، وَإِيهَامِ قَوْمِهِ بِكَمَالِ اقتداره، فقال: فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ أَيِ: اطْبُخْ لِيَ الطِّينَ حَتَّى يَصِيرَ آجُرًّا فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً أَيِ: اجْعَلْ لِي مِنْ هَذَا الطِّينِ الَّذِي تُوقِدُ عَلَيْهِ حَتَّى يَصِيرَ آجُرًّا صَرْحًا: أَيْ قَصْرًا عَالِيًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى أَيْ: أَصْعَدُ إِلَيْهِ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ وَالطُّلُوعُ، وَالِاطِّلَاعُ: وَاحِدٌ، يُقَالُ طَلَعَ الْجَبَلَ وَاطَّلَعَ وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ الْمُرَادُ بِالْأَرْضِ: أَرْضُ مِصْرَ، وَالِاسْتِكْبَارُ: التَّعْظِيمُ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ، بَلْ بِالْعُدْوَانِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ حُجَّةٌ يَدْفَعُ بِهَا مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى، وَلَا شُبْهَةَ يَنْصِبُهَا فِي مُقَابَلَةِ مَا أَظْهَرَهُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لَا يُرْجَعُونَ أَيْ: فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ، وَالْمُرَادُ بِالرُّجُوعِ: الْبَعْثُ وَالْمَعَادُ، قَرَأَ نَافِعٌ وَشَيْبَةُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَحُمَيْدٌ وَيَعْقُوبُ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ «لَا يَرْجِعُونَ» بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْجِيمِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْجِيمِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَاخْتَارَ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى: أَبُو حَاتِمٍ، وَاخْتَارَ الْقِرَاءَةَ الثَّانِيَةِ: أَبُو عُبَيْدٍ
فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ بَعْدَ أَنْ عَتَوْا فِي الْكُفْرِ وَجَاوَزُوا الْحَدَّ فِيهِ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ أَيْ: طَرَحْنَاهُمْ فِي الْبَحْرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الْكَلَامِ فِي هَذَا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ الخطاب لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم أَيِ: انْظُرْ يَا مُحَمَّدُ كَيْفَ كَانَ آخِرُ أَمْرِ الْكَافِرِينَ، حِينَ صَارُوا إِلَى الْهَلَاكِ وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ أَيْ: صَيَّرْنَاهُمْ رُؤَسَاءَ مَتْبُوعِينَ مُطَاعِينَ فِي الْكَافِرِينَ، فَكَأَنَّهُمْ بِإِصْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ وَالتَّمَادِي فِيهِ، يَدْعُونَ أَتْبَاعَهُمْ إِلَى النَّارِ لِأَنَّهُمُ اقْتَدَوْا، وَسَلَكُوا طَرِيقَتَهُمْ تَقْلِيدًا لَهُمْ. وقيل المعنى: إنه يَأْتَمَّ بِهِمْ، أَيْ: يَعْتَبِرْ بِهِمْ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ، وَيَتَّعِظْ بِمَا أُصِيبُوا بِهِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لَا يُنْصَرُونَ أَيْ: لَا يَنْصُرُهُمْ أَحَدٌ وَلَا يَمْنَعُهُمْ مَانِعٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً أَيْ: طَرْدًا وَإِبْعَادًا، أَوْ أَمَرْنَا الْعِبَادَ بِلَعْنِهِمْ، فَكُلُّ مَنْ ذَكَرَهُمْ لَعَنَهُمْ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ الْمَقْبُوحُ: الْمَطْرُودُ الْمُبْعَدُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَابْنُ كَيْسَانَ: مَعْنَاهُ مِنَ الْمُهْلَكِينَ الْمَمْقُوتِينَ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: قَبَحَ اللَّهُ فُلَانًا قَبْحًا وَقُبُوحًا: أَبْعَدَهُ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ.
قَالَ أَبُو عَمْرٍو: قَبَحْتُ وَجْهَهُ بِالتَّخْفِيفِ: بِمَعْنَى قَبَّحْتُ بِالتَّشْدِيدِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَلَا قَبَّحَ اللَّهُ الْبَرَاجِمَ كُلَّهَا
…
وَقَبَّحَ يَرْبُوعًا وَقَبَّحَ دَارِمَا
وَقِيلَ: الْمَقْبُوحُ الْمُشَوَّهُ الْخِلْقَةِ، وَالْعَامِلُ فِي (يَوْمَ) مَحْذُوفٌ يُفَسِّرُهُ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ، وَالتَّقْدِيرُ: وَقُبِّحُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَوْ هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَوْضِعٍ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا، أَيْ: وَأَتْبَعْنَاهُمْ لَعْنَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَوْ مَعْطُوفٌ عَلَى لَعْنَةً عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: وَلَعْنَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ يَعْنِي التوراة ومِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى أَيْ: قَوْمَ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَغَيْرِهِمْ، وَقِيلَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ وَخَسَفْنَا بِقَارُونَ، وَانْتِصَابُ بَصائِرَ لِلنَّاسِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ أَوْ حَالٌ، أَيْ: آتَيْنَاهُ الْكِتَابَ لِأَجْلِ يَتَبَصَّرُ بِهِ النَّاسُ، أَوْ حَالَ كَوْنِهِ بَصَائِرَ النَّاسِ يُبْصِرُونَ بِهِ الْحَقَّ، وَيَهْتَدُونَ إِلَيْهِ وَيُنْقِذُونَ أَنْفُسَهُمْ بِهِ مِنَ الضَّلَالَةِ بِالِاهْتِدَاءِ بِهِ وَرَحْمَةً لَهُمْ مِنَ اللَّهِ رَحِمَهُمْ بِهَا لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ هَذِهِ النِّعَمَ فيشكرون الله ويؤمنون به وَيُجِيبُونَ دَاعِيَهُ إِلَى مَا فِيهِ خَيْرٌ لَهُمْ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ من طريق عليّ بن أبي أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي كَيْ يُصَدِّقَنِي. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا قال فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي قَالَ جِبْرِيلُ: يَا رَبِّ طغى عبدك فأذن لِي فِي هَلْكِهِ، فَقَالَ: يَا جِبْرِيلُ هُوَ عَبْدِي وَلَنْ يَسْبِقَنِي، لَهُ أَجْلٌ يَجِيءُ ذَلِكَ الْأَجَلُ، فَلَمَّا قَالَ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى «1» قَالَ اللَّهُ: يَا جِبْرِيلُ سَبَقَتْ دَعْوَتُكَ فِي عَبْدِي وَقَدْ جَاءَ أَوَانُ هَلَاكِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «كَلِمَتَانِ قَالَهُمَا فِرْعَوْنُ: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي وَقَوْلِهِ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى قَالَ: كَانَ بَيْنَهُمَا أَرْبَعُونَ عَامًا فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى» «2» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ فِرْعَوْنَ أَوَّلُ مَنْ طَبَخَ الْآجُرَّ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ
(1) . النازعات: 24.
(2)
. النازعات: 25.