الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ قَالَ: مِنَ الذُّنُوبِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا يَصَّدَّعُونَ قَالَ: يتفرقون.
[سورة الروم (30) : الآيات 47 الى 60]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51)
فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَاّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56)
فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَاّ مُبْطِلُونَ (58) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)
قوله: لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ
كَمَا أرسلناك إلى قومك جاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ
أي: المعجزات، والحجج النيرات، فانتقمنا منهم، أي: فكفرواانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا
أَيْ: فَعَلُوا الْإِجْرَامَ، وَهِيَ الآثام كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
هَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِأَنَّ نَصْرَهُ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ حَقٌّ عَلَيْهِ، وَهُوَ صَادِقُ الْوَعْدِ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، وَفِيهِ تَشْرِيفٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَمَزِيدُ تَكْرِمَةٍ لِعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ، وَوَقَفَ بَعْضُ الْقُرَّاءِ عَلَى حَقًّا، وَجَعَلَ اسْمَ كَانَ ضَمِيرًا فِيهَا وَخَبَرَهَا: حَقًّا، أَيْ: وَكَانَ الِانْتِقَامُ حَقًّا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَهَذَا ضَعِيفٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ نَصْرَ الْمُؤْمِنِينَ: اسْمُهَا، وَحَقًّا: خَبَرُهَا، وَعَلَيْنَا: مُتَعَلِّقٌ بِحَقًّا، أَوْ بِمَحْذُوفٍ هُوَ صِفَةٌ لَهُ اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ قَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ يُرْسِلُ «الرِّيحَ» بِالْإِفْرَادِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ «الرِّيَاحَ» قَالَ أَبُو عَمْرٍو: كُلُّ مَا كَانَ بِمَعْنَى الرَّحْمَةِ: فَهُوَ جَمْعٌ، وَمَا كَانَ بِمَعْنَى الْعَذَابِ:
فَهُوَ مُوَحَّدٌ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ، مَسُوقَةٌ لِبَيَانِ مَا سَبَقَ مِنْ أَحْوَالِ الرِّيَاحِ، فَتَكُونُ عَلَى هَذَا جُمْلَةُ «وَلَقَدْ أرسلنا» إلى قوله: كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
معترضة فَتُثِيرُ سَحاباً أَيْ: تُزْعِجُهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ تَارَةً سَائِرًا، وَتَارَةً وَاقِفًا، وَتَارَةً مُطْبِقًا، وَتَارَةً غَيْرُ مُطْبِقٍ، وَتَارَةً إِلَى مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ، وَتَارَةً إِلَى مَسَافَةِ قَرِيبَةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَفِي سُورَةِ النُّورِ
وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً تَارَةً أُخْرَى، أَوْ يَجْعَلُهُ بَعْدَ بَسْطِهِ قِطَعًا مُتَفَرِّقَةً، وَالْكِسَفُ: جَمْعُ كِسْفَةٍ، وَالْكِسْفَةُ:
القطعة من السحاب. وقد تقدم تفسيره وَاخْتِلَافُ الْقِرَاءَةِ فِيهِ فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ الْوَدْقُ:
الْمَطَرُ، وَمِنْ خِلَالِهِ: مِنْ وَسَطِهِ. وقرأ أبو العالية، والضحاك «يخرج من خلل» فَإِذا أَصابَ بِهِ أَيْ:
بِالْمَطَرِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَيْ: بِلَادَهُمْ، وَأَرْضَهُمْ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ إذا: هي الفجائية، أي:
فاجؤوا الِاسْتِبْشَارَ بِمَجِيءِ الْمَطَرِ، وَالِاسْتِبْشَارُ: الْفَرَحُ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ أَيْ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمُ الْمَطَرُ، وَإِنْ: هِيَ الْمُخَفَّفَةُ، وَفِيهَا ضَمِيرُ شَأْنٍ مُقَدَّرٍ هُوَ اسْمُهَا، أَيْ: وَإِنَّ الشَّأْنَ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ، وَقَوْلُهُ: مِنْ قَبْلِهِ تَكْرِيرٌ لِلتَّأْكِيدِ، قَالَهُ الْأَخْفَشُ، وَأَكْثَرُ النَّحْوِيِّينَ كَمَا حَكَاهُ عَنْهُمُ النَّحَّاسُ. وَقَالَ قُطْرُبٌ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي قَبْلِهِ رَاجِعٌ إِلَى الْمَطَرِ، أَيْ: وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ التَّنْزِيلِ مِنْ قَبْلِ الْمَطَرِ.
وَقِيلَ الْمَعْنَى: مِنْ قَبْلِ تَنْزِيلِ الْغَيْثِ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِ الزَّرْعِ، وَالْمَطَرِ، وَقِيلَ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِ السَّحَابِ، أَيْ: مِنْ قَبْلِ رُؤْيَتِهِ، وَاخْتَارَ هَذَا النَّحَّاسُ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْكِسَفِ، وَقِيلَ: إِلَى الْإِرْسَالِ، وَقِيلَ: إِلَى الِاسْتِبْشَارِ. وَالرَّاجِحُ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ، وَمَا بَعْدَهُ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ كُلِّهَا فَفِي غَايَةِ التَّكَلُّفِ، وَالتَّعَسُّفِ، وَخَبَرُ كَانَ: لَمُبْلِسِينَ أَيْ: آيِسِينَ أَوْ بَائِسِينَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِي هَذَا فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ النَّاشِئَةِ عَنِ إِنْزَالِ الْمَطَرِ مِنَ النَّبَاتِ، وَالثِّمَارِ، وَالزَّرَائِعِ الَّتِي بِهَا يَكُونُ الْخِصْبُ، وَرَخَاءُ الْعَيْشِ، أَيِ: انْظُرْ نَظَرَ اعْتِبَارٍ، وَاسْتِبْصَارٍ لِتَسْتَدِلَّ بِذَلِكَ عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ، وَتَفَرُّدِهِ بِهَذَا الصُّنْعِ الْعَجِيبِ.
قَرَأَ الْجُمْهُورُ «أَثَرِ» بِالتَّوْحِيدِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَفْصٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ آثَارِ بِالْجَمْعِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها فَاعِلُ الْإِحْيَاءِ ضَمِيرٌ يَعُودُ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَقِيلَ: ضَمِيرٌ يَعُودُ إِلَى الْأَثَرِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِانْظُرْ، أَيِ: انْظُرْ إِلَى كَيْفِيَّةِ هَذَا الْإِحْيَاءِ الْبَدِيعِ لِلْأَرْضِ. وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ وَأَبُو حَيْوَةَ «تُحْيِي» بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى أَنَّ فَاعِلَهُ ضَمِيرٌ يَعُودُ إِلَى الرَّحْمَةِ أَوْ إِلَى الْآثَارِ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِالْجَمْعِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ ذلِكَ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، أَيْ: إِنَّ اللَّهَ الْعَظِيمَ الشَّأْنِ الْمُخْتَرِعَ لهذه الأشياء المذكورة لَمُحْيِ الْمَوْتى أَيْ:
لَقَادِرٌ عَلَى إِحْيَائِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، وَبَعْثِهِمْ، وَمُجَازَاتِهِمْ كَمَا أَحْيَا الْأَرْضَ الْمَيِّتَةَ بِالْمَطَرِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَيْ: عَظِيمُ الْقُدْرَةِ كَثِيرُهَا وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا الضَّمِيرُ فِي: فَرَأَوْهُ يَرْجِعُ إِلَى الزَّرْعِ، وَالنَّبَاتِ الَّذِي كَانَ مِنْ أَثَرِ رَحْمَةِ اللَّهِ، أَيْ: فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا مِنَ الْبَرْدِ النَّاشِئِ عَنِ الرِّيحِ الَّتِي أَرْسَلَهَا اللَّهُ بَعْدَ اخْضِرَارِهِ.
وَقِيلَ: رَاجِعٌ إِلَى الرِّيحِ، وَهُوَ يَجُوزُ تَذْكِيرُهُ، وَتَأْنِيثُهُ. وَقِيلَ: رَاجِعٌ إِلَى الْأَثَرِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِالْآثَارِ. وَقِيلَ:
رَاجِعٌ إِلَى السَّحَابِ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مُصْفَرًّا لَمْ يُمْطِرْ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَاللَّامُ هِيَ: الْمُوطِّئَةُ، وَجَوَابُ الْقَسَمِ:
لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ وَهُوَ يَسُدُّ مَسَدَّ جَوَابِ الشَّرْطِ، وَالْمَعْنَى: وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا حَارَّةً، أَوْ بَارِدَةً، فَضَرَبَتْ زَرْعَهُمْ بِالصُّفَارِ لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ، وَيَجْحَدُونَ نِعَمَهُ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى سُرْعَةِ تَقَلُّبِهِمْ، وَعَدَمِ صَبْرِهِمْ، وَضَعْفِ قُلُوبِهِمْ، وَلَيْسَ كَذَا حَالُ أَهْلِ الْإِيمَانِ. ثُمَّ شَبَّهَهُمْ بِالْمَوْتَى وَبِالصُّمِّ فَقَالَ: فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتى إِذَا دَعَوْتَهُمْ، فَكَذَا هَؤُلَاءِ لِعَدَمِ فَهْمِهِمْ لِلْحَقَائِقِ، وَمَعْرِفَتِهِمْ لِلصَّوَابِ وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذَا دَعَوْتَهُمْ إِلَى الْحَقِّ، وَوَعَظْتَهُمْ بِمَوَاعِظِ اللَّهِ، وَذَكَّرْتَهُمُ الْآخِرَةَ وَمَا فِيهَا، وَقَوْلُهُ: إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ
بَيَانٌ لِإِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْحَقِّ بَعْدَ بَيَانِ كَوْنِهِمْ كالأموات، وكونهم صمّ الآذان، وقد تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا فِي سُورَةِ النَّمْلِ.
ثُمَّ وَصَفَهُمْ بِالْعُمْيِ فَقَالَ: وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ لِفَقْدِهِمْ لِلِانْتِفَاعِ بِالْأَبْصَارِ كَمَا يَنْبَغِي، أَوْ لِفَقْدِهِمْ لِلْبَصَائِرِ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا أَيْ: مَا تُسْمِعُ إِلَّا هَؤُلَاءِ لكونهم أهل التفكر، والتدبر، واستدلال بِالْآثَارِ عَلَى الْمُؤَثِّرِ فَهُمْ مُسْلِمُونَ أَيْ: مُنْقَادُونَ لِلْحَقِّ مُتَّبِعُونَ لَهُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ اسْتِدْلَالًا آخَرَ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ، وَهُوَ خَلْقُ الْإِنْسَانِ نَفْسِهِ عَلَى أَطْوَارٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَمَعْنَى مِنْ ضَعْفٍ: مِنْ نُطْفَةٍ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: مِنْ نُطْفَةٍ، وَالْمَعْنَى: مِنْ ذِي ضَعْفٍ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ حَالُ الطُّفُولِيَّةِ وَالصِّغَرِ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً وَهِيَ: قُوَّةُ الشَّبَابِ، فَإِنَّهُ إِذْ ذَاكَ تَسْتَحْكِمُ الْقُوَّةُ، وَتَشْتَدُّ الْخِلْقَةُ إِلَى بُلُوغِ النِّهَايَةِ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً أَيْ: عِنْدَ الْكِبَرِ وَالْهَرَمِ وَشَيْبَةً الشَّيْبَةُ:
هِيَ تَمَامُ الضَّعْفِ، وَنِهَايَةُ الْكِبَرِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «ضُعْفٍ» بِضَمِّ الضَّادِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ بِفَتْحِهَا. وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ بِالْفَتْحِ فِي الْأَوَّلَيْنِ، وَالضَّمِّ فِي الثَّالِثِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الضَّمُّ: لُغَةُ قُرَيْشٍ، وَالْفَتْحُ:
لُغَةُ تَمِيمٍ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الضَّعْفُ: وَالضُّعْفُ خِلَافُ الْقُوَّةِ، وَقِيلَ: هُوَ بِالْفَتْحِ فِي الرَّأْيِ، وَبِالضَّمِّ: فِي الْجِسْمِ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ يَعْنِي: مِنْ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، وَمَنْ جُمْلَتِهَا: الْقُوَّةُ وَالضَّعْفُ فِي بَنِي آدَمَ وَهُوَ الْعَلِيمُ بِتَدْبِيرِهِ الْقَدِيرُ عَلَى خَلْقِ مَا يُرِيدُهُ، وَأَجَازَ الْكُوفِيُّونَ «مِنْ ضَعَفٍ» بِفَتْحِ الضَّادِ، وَالْعَيْنِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَيِ: الْقِيَامَةُ، وَسُمِّيَتْ سَاعَةً: لِأَنَّهَا تَقُومُ فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ الدُّنْيَا يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ أَيْ: يَحْلِفُونَ مَا لَبِثُوا فِي الدُّنْيَا، أَوْ فِي قُبُورِهِمْ غَيْرَ سَاعَةٍ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونُوا اسْتَقَلُّوا مُدَّةَ لُبْثِهِمْ، وَاسْتَقَرَّ ذَلِكَ فِي أَذْهَانِهِمْ، فَحَلَفُوا عَلَيْهِ، وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ حَلْفَهُمْ مُطَابِقٌ لِلْوَاقِعِ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ:
إِنَّهُمْ كَذَّبُوا فِي هَذَا الْوَقْتِ كَمَا كَانُوا يُكَذِّبُونَ مِنْ قَبْلُ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ لِأَنَّهُمْ إِنْ أَرَادُوا لُبْثَهُمْ فِي الدُّنْيَا، فَقَدْ عَلِمَ كُلُّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ مِقْدَارَهُ، وَإِنْ أَرَادُوا لُبْثَهُمْ فِي الْقُبُورِ، فَقَدْ حَلَفُوا عَلَى جَهَالَةٍ إِنْ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَ الْأَوْقَاتَ فِي الْبَرْزَخِ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ يُقَالُ أَفِكَ الرَّجُلُ: إِذَا صَرَفَ عَنِ الصِّدْقِ، فَالْمَعْنَى: مِثْلُ ذَلِكَ الصَّرْفِ كَانُوا يُصْرَفُونَ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ يُصْرَفُونَ عَنِ الْحَقِّ، وَقِيلَ: عَنِ الْخَيْرِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ حَلْفَهُمْ كَذِبٌ وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ اخْتُلِفَ فِي تَعْيِينِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ، فَقِيلَ: الْمَلَائِكَةُ، وَقِيلَ: الْأَنْبِيَاءُ، وَقِيلَ: عُلَمَاءُ الْأُمَمِ، وَقِيلَ: مُؤْمِنُو هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَلَا مَانِعَ مِنَ الْحَمْلِ عَلَى الْجَمِيعِ. وَمَعْنَى فِي كِتَابِ اللَّهِ، فِي عِلْمِهِ وَقَضَائِهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: فِي عِلْمِ اللَّهِ الْمُثَبَّتِ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَالْمُفَسِّرُونَ حَمَلُوا هَذَا عَلَى التَّقْدِيمِ، وَالتَّأْخِيرِ عَلَى تَقْدِيرِ: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَكَانَ رَدُّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ عَلَيْهِمْ بِالْيَمِينِ لِلتَّأْكِيدِ، أَوْ لِلْمُقَابَلَةِ لِلْيَمِينِ بِالْيَمِينِ، ثم نبهوهم على طريقة التبكيت بأن فَهذا الْوَقْتَ الَّذِي صَارُوا فِيهِ هُوَ يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ أَنَّهُ حَقٌّ، بَلْ كُنْتُمْ تَسْتَعْجِلُونَهُ تَكْذِيبًا وَاسْتِهْزَاءً فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ أَيْ: لَا يَنْفَعُهُمُ الِاعْتِذَارُ يَوْمَئِذٍ، وَلَا يُفِيدُهُمْ عِلْمُهُمْ بِالْقِيَامَةِ، وَقِيلَ: لَمَّا رَدَّ عَلَيْهِمُ الْمُؤْمِنُونَ سَأَلُوا الرُّجُوعَ إِلَى الدُّنْيَا، وَاعْتَذَرُوا فَلَمْ يُعْذَرُوا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «لَا تَنْفَعُ» بِالْفَوْقِيَّةِ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ بِالتَّحْتِيَّةِ
وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ يُقَالُ: اسْتَعْتَبْتُهُ فَأَعْتَبَنِي، أَيِ: اسْتَرْضَيْتُهُ فَأَرْضَانِي، وَذَلِكَ إِذَا كُنْتَ جَانِيًا عَلَيْهِ، وَحَقِيقَةُ أَعْتَبْتُهُ: أَزَلْتُ عَتْبَهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَا يَدْعُونَ إِلَى إِزَالَةِ عَتْبِهِمْ مِنَ التَّوْبَةِ، وَالطَّاعَةِ كَمَا دَعَوْا إِلَى ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ أَيْ: مِنْ كُلِّ مَثَلٍ مِنَ الْأَمْثَالِ الَّتِي تَدُلُّهُمْ عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ، وَصِدْقِ رُسُلِهِ، وَاحْتَجَجْنَا عَلَيْهِمْ بِكُلِّ حُجَّةٍ تَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ الشِّرْكِ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ النَّاطِقَةِ بِذَلِكَ، أَوْ لَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ كَالْعَصَا، وَالْيَدِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ أَيْ: مَا أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ وَأَصْحَابُكَ إِلَّا مُبْطِلُونَ أَصْحَابُ أَبَاطِيلَ تَتَّبِعُونَ السِّحْرَ، وَمَا هُوَ مُشَاكِلٌ لَهُ فِي الْبُطْلَانِ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ أَيْ: مِثْلُ ذَلِكَ الطَّبْعِ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْفَاقِدِينَ لِلْعِلْمِ النَّافِعِ الَّذِي يَهْتَدُونَ بِهِ إِلَى الْحَقِّ، وَيَنْجُونَ بِهِ مِنَ الْبَاطِلِ، ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم بِالصَّبْرِ مُعَلِّلًا لِذَلِكَ بِحَقِّيَّةِ وَعْدِ اللَّهِ، وَعَدَمِ الْخُلْفِ فِيهِ، فَقَالَ: فَاصْبِرْ عَلَى مَا تسمعه منهم من الأذى، وتنظره مِنَ الْأَفْعَالِ الْكُفْرِيَّةِ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ وَعَدَكَ بِالنَّصْرِ عَلَيْهِمْ، وَإِعْلَاءِ حُجَّتِكَ، وَإِظْهَارِ دَعْوَتِكَ، وَوَعْدُهُ حَقٌّ لَا خُلْفَ فِيهِ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ أَيْ: لَا يَحْمِلَنَّكَ عَلَى الْخِفَّةِ، وَيَسْتَفِزَّنَّكَ عَنْ دِينِكَ، وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ بِاللَّهِ، وَلَا يُصَدِّقُونَ أَنْبِيَاءَهُ، وَلَا يُؤْمِنُونَ بِكُتُبِهِ، وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، يُقَالُ اسْتَخَفَّ فُلَانٌ فَلَانًا: أَيِ: اسْتَجْهَلَهُ حَتَّى حَمَلَهُ عَلَى اتِّبَاعِهِ فِي الْغَيِّ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «يَسْتَخِفَّنَّكَ» بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالْفَاءِ، وَقَرَأَ يَعْقُوبُ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ: بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ وَقَافٍ مِنَ استحقاق، وَالنَّهْيِ فِي الْآيَةِ مِنْ بَابِ: لَا أَرَيَنَّكَ هَاهُنَا.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:
«مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَرُدُّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَرُدَّ عَنْهُ نَارَ جَهَنَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثم تلا كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
، وَهُوَ مِنْ طَرِيقِ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ. وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً قَالَ: قِطَعًا بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ فَتَرَى الْوَدْقَ قَالَ:
الْمَطَرُ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ قَالَ: مِنْ بَيْنِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ فِي دُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأَهْلِ بَدْرٍ، وَالْإِسْنَادُ ضَعِيفٌ. وَالْمَشْهُورُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ عَائِشَةَ اسْتَدَلَّتْ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى رَدِّ رِوَايَةِ مَنْ رَوَى مِنَ الصَّحَابَةِ أن النبي صلى الله عليه وسلم نَادَى أَهْلَ قَلِيبِ بَدْرٍ، وَهُوَ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِالْعَامِّ عَلَى رَدِّ الْخَاصِّ فَقَدْ قَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قِيلَ لَهُ: إِنَّكَ تُنَادِي أَجْسَادًا بَالِيَةً «مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ» وَفِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ عُمَرَ ابن الْخَطَّابِ لَمَّا سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُنَادِيهِمْ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! تُنَادِيهِمْ بَعْدَ ثَلَاثٍ وَهَلْ يَسْمَعُونَ؟ يَقُولُ اللَّهُ إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى، فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ مِنْهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يُطِيقُونَ أن يجيبوا» .