الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَالَ: عَذَابًا دُونَ الْعَذَابِ، وَقَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ رَدَّ اللَّهُ عَنْ وَجْهِهِ نَارَ جَهَنَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ تَلَا إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مثله.
[سورة غافر (40) : الآيات 53 الى 65]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (53) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (55) إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَاّ كِبْرٌ مَا هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57)
وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً مَا تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59) وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (60) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلهَ إِلَاّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62)
كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلهَ إِلَاّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (65)
قَوْلُهُ: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى هَذَا مِنْ جُمْلَةِ مَا قَصَّهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ قَرِيبًا مِنْ نَصْرِهِ لِرُسُلِهِ: أَيْ:
آتَيْنَاهُ التَّوْرَاةَ والنبوّة، كما في قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ «1» قَالَ مُقَاتِلٌ: الْهُدَى مِنَ الضَّلَالَةِ: يَعْنِي التَّوْرَاةَ وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ التَّوْرَاةُ، وَمَعْنَى أَوْرَثْنَا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى بَقِيَتْ بَعْدَهُ فِيهِمْ وَتَوَارَثُوهَا خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ سَائِرُ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ مَوْتِ مُوسَى، وُهُدًى وَذِكْرَى: فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهُمَا مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ، أَيْ: لِأَجْلِ الْهُدَى وَالذِّكْرِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُمَا مَصْدَرَانِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ:
هَادِيًا وَمُذَكِّرًا، وَالْمُرَادُ بِأُولِي الْأَلْبَابِ: أَهْلُ الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ. ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم بِالصَّبْرِ عَلَى الْأَذَى فَقَالَ:
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أَيِ: اصْبِرْ عَلَى أَذَى الْمُشْرِكِينَ كَمَا صَبَرَ مَنْ قَبْلَكَ مِنَ الرُّسُلِ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ الَّذِي وَعَدَ بِهِ رُسُلَهُ حَقٌّ لَا خُلْفَ فِيهِ، وَلَا شَكَّ فِي وُقُوعِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا «2» وقوله:
(1) . المائدة: 44.
(2)
. غافر: 51.
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ «1» قَالَ الْكَلْبِيُّ: نُسِخَ هَذَا بِآيَةِ السَّيْفِ. ثُمَّ أَمَرَهُ سُبْحَانَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ لِذَنْبِهِ فَقَالَ: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ قِيلَ: الْمُرَادُ ذَنْبُ أُمَّتِكَ فَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ الصَّغَائِرُ عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُهَا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَقِيلَ: هُوَ مُجَرَّدُ تَعَبُّدٍ لَهُ صلى الله عليه وسلم بِالِاسْتِغْفَارِ لِزِيَادَةِ الثَّوَابِ، وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ أَيْ: دُمْ على تنزيه الله متلبسا بِحَمْدِهِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ صَلِّ فِي الْوَقْتَيْنِ: صَلَاةَ الْعَصْرِ، وَصَلَاةَ الْفَجْرِ. قَالَهُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ، وَقِيلَ: هُمَا صَلَاتَانِ: رَكْعَتَانِ غُدْوَةً، وَرَكْعَتَانِ عَشِيَّةً، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ أَيْ: بِغَيْرِ حُجَّةٍ ظَاهِرَةٍ وَاضِحَةٍ جَاءَتْهُمْ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ أي: ما في قلوبهم إلا تكبر عَنِ الْحَقِّ يَحْمِلُهُمْ عَلَى تَكْذِيبِكَ، وَجُمْلَةُ مَا هُمْ بِبالِغِيهِ صفة لكبر قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى مَا فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِي إِرَادَتِهِمْ فِيهِ، فَجَعَلَهُ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: مَا هُمْ بِبَالِغِي الْكِبْرَ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْمَعْنَى إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ، أَيْ: تَكَبُّرٌ عَلَى محمد صلى الله عليه وسلم وَطَمَعٌ أَنْ يَغْلِبُوهُ وَمَا هُمْ بِبَالِغِي ذَلِكَ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْكِبْرِ الْأَمْرُ الْكَبِيرُ، أَيْ:
يَطْلُبُونَ النُّبُوَّةَ، أَوْ يَطْلُبُونَ أَمْرًا كَبِيرًا يَصِلُونَ بِهِ إِلَيْكَ مِنَ الْقَتْلِ وَنَحْوِهِ وَلَا يَبْلُغُونَ ذَلِكَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَعْنَاهُ فِي صُدُورِهِمْ عَظَمَةٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهَا. وَالْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْمُشْرِكُونَ، وَقِيلَ: الْيَهُودُ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ آخِرَ الْبَحْثِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. ثُمَّ أَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِأَنْ يَسْتَعِيذَ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِهِمْ فَقَالَ: فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ أَيْ: فَالْتَجِئْ إِلَيْهِ مِنْ شَرِّهِمْ، وَكَيْدِهِمْ، وَبَغْيِهِمْ عَلَيْكَ إِنَّهُ السَّمِيعُ لِأَقْوَالِهِمُ الْبَصِيرُ بِأَفْعَالِهِمْ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ خَافِيَةٌ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ عَظِيمَ قُدْرَتِهِ فَقَالَ: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ أَيْ: أَعْظَمُ فِي النُّفُوسِ وَأَجَلُّ فِي الصُّدُورِ، لِعِظَمِ أَجْرَامِهِمَا، وَاسْتِقْرَارِهِمَا مِنْ غَيْرِ عَمَدٍ، وَجَرَيَانِ الْأَفْلَاكِ بِالْكَوَاكِبِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ، فَكَيْفَ يُنْكِرُونَ الْبَعْثَ وَإِحْيَاءَ مَا هُوَ دُونَهُمَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ «2» قال أبو العالية: المعنى لخلق السموات وَالْأَرْضِ أَعْظَمُ مِنْ خَلْقِ الدَّجَّالِ حِينَ عَظَّمَتْهُ الْيَهُودُ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَامٍ: هُوَ احْتِجَاجٌ عَلَى مُنْكِرِي الْبَعْثِ، أَيْ: هُمَا أَكْبَرُ مِنْ إِعَادَةِ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ بِعَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَأَنَّهُ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ.
ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ الْجِدَالَ بِالْبَاطِلِ ذَكَرَ مِثَالًا لِلْبَاطِلِ وَالْحَقِّ وَأَنَّهُمَا لَا يَسْتَوِيَانِ فَقَالَ: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَيِ: الَّذِي يُجَادِلُ بِالْبَاطِلِ، وَالَّذِي يُجَادِلُ بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ أَيْ: وَلَا يَسْتَوِي الْمُحْسِنُ بِالْإِيمَانِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالْمُسِيءُ بِالْكُفْرِ، وَالْمَعَاصِي، وَزِيَادَةُ «لَا» فِي وَلَا الْمُسِيءُ لِلتَّأْكِيدِ قَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ قرأ الجمهور «يتذكرون» بالتحية عَلَى الْغَيْبَةِ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو حَاتِمٍ، لِأَنَّ قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا عَلَى الْغَيْبَةِ لَا عَلَى الْخِطَابِ، وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْخِطَابِ بِطَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ، أَيْ: تَذَكُّرًا قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيها أَيْ: لَا شَكَّ فِي مَجِيئِهَا، وَحُصُولِهَا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ وَلَا يُصَدِّقُونَهُ لِقُصُورِ أَفْهَامِهِمْ وَضَعْفِ عُقُولِهِمْ عَنْ إدراك
(1) . الصافات: 171- 173.
(2)
. يس: 81.
الْحُجَّةِ، وَالْمُرَادُ بِأَكْثَرِ النَّاسِ الْكُفَّارُ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ الْبَعْثَ. ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ قِيَامَ السَّاعَةِ حَقٌّ لَا شَكَّ فِيهِ وَلَا شُبْهَةَ، أَرْشَدَ عِبَادَهُ إِلَى مَا هُوَ الْوَسِيلَةُ إِلَى السَّعَادَةِ فِي دَارِ الْخُلُودِ، فَأَمَرَ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَحْكِيَ عَنْهُ مَا أَمَرَهُ بِإِبْلَاغِهِ وَهُوَ وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ الْمَعْنَى: وَحِّدُونِي وَاعْبُدُونِي أَتَقَبَّلْ عِبَادَتَكُمْ وَأَغْفِرْ لَكُمْ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالدُّعَاءِ: السُّؤَالُ بِجَلْبِ النَّفْعِ، وَدَفْعِ الضُّرِّ. قِيلَ: الْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ الدُّعَاءَ فِي أَكْثَرِ اسْتِعْمَالَاتِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ هُوَ الْعِبَادَةُ. قُلْتُ: بَلِ الثَّانِي أَوْلَى لِأَنَّ مَعْنَى الدُّعَاءِ حَقِيقَةً وَشَرْعًا: هُوَ الطَّلَبُ، فَإِنِ اسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ مَجَازٌ، عَلَى أَنَّ الدُّعَاءَ فِي نَفْسِهِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ هُوَ عِبَادَةٌ، بَلْ مُخُّ الْعِبَادَةِ كَمَا وَرَدَ بِذَلِكَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ، فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ أَمَرَ عِبَادَهُ بِدُعَائِهِ وَوَعَدَهُمْ بِالْإِجَابَةِ وَوَعْدُهُ الْحَقُّ، وَمَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيْهِ، وَلَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ. ثُمَّ صَرَّحَ سُبْحَانَهُ بِأَنَّ هَذَا الدُّعَاءَ بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ وَهُوَ الطَّلَبُ هُوَ مِنْ عِبَادَتِهِ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ أَيْ: ذَلِيلِينَ صَاغِرِينَ وَهَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ لِمَنِ اسْتَكْبَرَ عَنْ دُعَاءِ اللَّهِ، وَفِيهِ لُطْفٌ بِعِبَادِهِ عَظِيمٌ وَإِحْسَانٌ إِلَيْهِمْ جَلِيلٌ حَيْثُ تَوَعَّدَ مَنْ تَرَكَ طَلَبَ الْخَيْرِ مِنْهُ، وَاسْتِدْفَاعَ الشَّرِّ بِهِ بِهَذَا الْوَعِيدِ الْبَالِغِ، وَعَاقَبَهُ بِهَذِهِ الْعُقُوبَةِ الْعَظِيمَةِ. فَيَا عِبَادَ اللَّهِ وَجِّهُوا رَغَبَاتِكُمْ وَعَوِّلُوا فِي كُلِّ طَلَبَاتِكُمْ عَلَى مَنْ أَمَرَكُمْ بِتَوْجِيهِهَا إِلَيْهِ، وَأَرْشَدَكُمْ إِلَى التَّعْوِيلِ عَلَيْهِ، وَكَفَلَ لَكُمُ الْإِجَابَةَ بِهِ بِإِعْطَاءِ الطِّلْبَةِ، فَهُوَ الْكَرِيمُ الْمُطْلَقُ الَّذِي يُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَاهُ، وَيَغْضَبُ عَلَى مَنْ لَمْ يَطْلُبْ مِنْ فَضْلِهِ الْعَظِيمِ، وَمُلْكِهِ الْوَاسِعِ مَا يَحْتَاجُهُ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ، قِيلَ: وَهَذَا الْوَعْدُ بِالْإِجَابَةِ مُقَيَّدٌ بِالْمَشِيئَةِ أَيْ:
أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنْ شِئْتُ كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ «1» اللَّهُ، قَرَأَ الْجُمْهُورُ «سَيَدْخُلُونَ» بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْخَاءِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَوَرْشٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْخَاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ بَعْضَ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ فَقَالَ: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ مِنَ الْحَرَكَاتِ فِي طَلَبِ الْكَسْبِ لِكَوْنِهِ جَعَلَهُ مُظْلِمًا بَارِدًا تُنَاسِبُهُ الرَّاحَةُ بِالسُّكُونِ وَالنَّوْمِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً أي: مضيئا لتبصروا في حَوَائِجَكُمْ وَتَتَصَرَّفُوا فِي طَلَبِ مَعَايِشِكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ يَتَفَضَّلُ عَلَيْهِمْ بِنِعَمِهِ الَّتِي لَا تُحْصَى وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ النِّعَمَ، وَلَا يَعْتَرِفُونَ بِهَا، إِمَّا لِجُحُودِهِمْ لَهَا، وَكُفْرِهِمْ بِهَا كَمَا هُوَ شَأْنُ الْكُفَّارِ، أَوْ لِإِغْفَالِهِمْ لِلنَّظَرِ، وَإِهْمَالِهِمْ لِمَا يَجِبُ مِنْ شُكْرِ الْمُنْعِمِ، وَهُمُ الْجَاهِلُونَ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ فِي هَذَا كَمَالَ قُدْرَتِهِ الْمُقْتَضِيَةِ لِوُجُوبِ تَوْحِيدِهِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ خَالِقُ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ بَعْدَ الْخَبَرِ الْأَوَّلِ عَنِ الْمُبْتَدَأِ، وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بِنَصْبِهِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ أَيْ: فَكَيْفَ تَنْقَلِبُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَتَنْصَرِفُونَ عَنْ تَوْحِيدِهِ كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ أَيْ: مِثْلُ الْإِفْكِ يُؤْفَكُ الْجَاحِدُونَ لِآيَاتِ اللَّهِ الْمُنْكِرُونَ لِتَوْحِيدِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ لَهُمْ سُبْحَانَهُ نَوْعًا آخَرَ مِنْ نِعَمِهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْهِمْ مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَتَفَرُّدِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ فَقَالَ: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً أَيْ: مَوْضِعَ قَرَارٍ فِيهَا تَحْيَوْنَ، وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَالسَّماءَ بِناءً
: أَيْ سَقْفًا قَائِمًا ثَابِتًا. ثُمَّ بَيَّنَ بَعْضَ نِعَمِهِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأَنْفُسِ الْعِبَادِ فَقَالَ: وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ أَيْ: خَلَقَكُمْ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: خَلَقَكُمْ أَحْسَنَ الحيوان كله. قرأ الجمهور
(1) . الأنعام: 41.
«صَوَّرَكُمْ» بِضَمِّ الصَّادِ وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَأَبُو رَزِينٍ بِكَسْرِهَا. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَالصِّوَرُ بِكَسْرِ الصَّادِ لُغَةٌ فِي الصُّوَرِ بِضَمِّهَا وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَيِ: الْمُسْتَلَذَّاتِ ذلِكُمُ الْمَبْعُوثُ بِهَذِهِ النُّعُوتِ الْجَلِيلَةِ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ أَيْ: كَثْرَةُ خَيْرِهِ وَبَرَكَتِهِ هُوَ الْحَيُّ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ أَيِ: الْبَاقِي الَّذِي لَا يَفْنَى الْمُنْفَرِدُ بِالْأُلُوهِيَّةِ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أَيِ: الطَّاعَةَ وَالْعِبَادَةَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ قَالَ الْفَرَّاءُ: هو خبر وفيه إضمار أمره، أَيِ: احْمَدُوهُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. قَالَ السُّيُوطِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: أَنَّ الْيَهُودَ أَتَوُا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: إِنَّ الدَّجَّالَ يَكُونُ مِنَّا فِي آخِرِ الزَّمَانِ، وَيَكُونُ فِي أَمْرِهِ فَعَظِّمُوا أَمْرَهُ، وَقَالُوا: نَصْنَعُ كَذَا وَنَصْنَعُ كَذَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبالِغِيهِ قَالَ: لَا يَبْلُغُ الَّذِي يَقُولُ: فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ فَأَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يَتَعَوَّذَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ الدَّجَّالِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ فِي الْآيَةِ قَالَ:
هُمُ الْيَهُودُ نَزَلَتْ فِيهِمْ فِيمَا يَنْتَظِرُونَهُ مِنْ أَمْرِ الدَّجَّالِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:
إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ قَالَ: عَظَمَةُ قُرَيْشٍ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ، ثُمَّ قَرَأَ وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي قَالَ: عَنْ دُعَائِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْخَطِيبُ عَنِ الْبَرَاءِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنَّ الدُّعَاءَ هُوَ الْعِبَادَةُ وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ قَالَ: وَحِّدُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فِي الْآيَةِ قَالَ: اعْبُدُونِي. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الدُّعَاءُ الِاسْتِغْفَارُ» وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْحَاكِمُ، وَأَحْمَدُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ لَمْ يَدْعُ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو يَعْلَى، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا يَنْفَعُ حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ، وَلَكِنَّ الدُّعَاءَ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ فَعَلَيْكُمْ بِالدُّعَاءِ» . وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَالْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَفْضَلُ العبادة الدعاء، قرأ وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سُئِلَ النبيّ صلى الله عليه وسلم أَيُّ الْعِبَادَةِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: دُعَاءُ الْمَرْءِ لِنَفْسِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَلْيَقُلْ عَلَى أَثَرِهَا: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.