المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة ص (38) : الآيات 41 الى 54] - فتح القدير للشوكاني - جـ ٤

[الشوكاني]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الرابع

- ‌سورة النّور

- ‌[سورة النور (24) : الآيات 1 الى 3]

- ‌[سورة النور (24) : الآيات 4 الى 10]

- ‌[سورة النور (24) : الآيات 11 الى 21]

- ‌[سورة النور (24) : الآيات 22 الى 26]

- ‌[سورة النور (24) : الآيات 27 الى 29]

- ‌[سورة النور (24) : الآيات 30 الى 31]

- ‌[سورة النور (24) : الآيات 32 الى 34]

- ‌[سورة النور (24) : الآيات 35 الى 38]

- ‌[سورة النور (24) : الآيات 39 الى 46]

- ‌[سورة النور (24) : الآيات 47 الى 57]

- ‌[سورة النور (24) : الآيات 58 الى 61]

- ‌[سورة النور (24) : الآيات 62 الى 64]

- ‌سورة الفرقان

- ‌[سورة الفرقان (25) : الآيات 1 الى 6]

- ‌[سورة الفرقان (25) : الآيات 7 الى 16]

- ‌[سورة الفرقان (25) : الآيات 17 الى 24]

- ‌[سورة الفرقان (25) : الآيات 25 الى 34]

- ‌[سورة الفرقان (25) : الآيات 35 الى 44]

- ‌[سورة الفرقان (25) : الآيات 45 الى 54]

- ‌[سورة الفرقان (25) : الآيات 55 الى 67]

- ‌[سورة الفرقان (25) : الآيات 68 الى 77]

- ‌سورة الشّعراء

- ‌[سورة الشعراء (26) : الآيات 1 الى 22]

- ‌[سورة الشعراء (26) : الآيات 23 الى 51]

- ‌[سورة الشعراء (26) : الآيات 52 الى 68]

- ‌[سورة الشعراء (26) : الآيات 69 الى 104]

- ‌[سورة الشعراء (26) : الآيات 105 الى 135]

- ‌[سورة الشعراء (26) : الآيات 136 الى 159]

- ‌[سورة الشعراء (26) : الآيات 160 الى 191]

- ‌[سورة الشعراء (26) : الآيات 192 الى 227]

- ‌سورة النّمل

- ‌[سورة النمل (27) : الآيات 1 الى 14]

- ‌[سورة النمل (27) : الآيات 15 الى 26]

- ‌[سورة النمل (27) : الآيات 27 الى 40]

- ‌[سورة النمل (27) : الآيات 41 الى 44]

- ‌[سورة النمل (27) : الآيات 45 الى 53]

- ‌[سورة النمل (27) : الآيات 54 الى 66]

- ‌[سورة النمل (27) : الآيات 67 الى 82]

- ‌[سورة النمل (27) : الآيات 83 الى 93]

- ‌سورة القصص

- ‌[سورة القصص (28) : الآيات 1 الى 13]

- ‌[سورة القصص (28) : الآيات 14 الى 24]

- ‌[سورة القصص (28) : الآيات 25 الى 32]

- ‌[سورة القصص (28) : الآيات 33 الى 43]

- ‌[سورة القصص (28) : الآيات 44 الى 57]

- ‌[سورة القصص (28) : الآيات 58 الى 70]

- ‌[سورة القصص (28) : الآيات 71 الى 88]

- ‌سورة العنكبوت

- ‌[سورة العنكبوت (29) : الآيات 1 الى 13]

- ‌[سورة العنكبوت (29) : الآيات 14 الى 27]

- ‌[سورة العنكبوت (29) : الآيات 28 الى 40]

- ‌[سورة العنكبوت (29) : الآيات 41 الى 46]

- ‌[سورة العنكبوت (29) : الآيات 47 الى 55]

- ‌[سورة العنكبوت (29) : الآيات 56 الى 69]

- ‌سورة الرّوم

- ‌[سورة الروم (30) : الآيات 1 الى 10]

- ‌[سورة الروم (30) : الآيات 11 الى 27]

- ‌[سورة الروم (30) : الآيات 28 الى 37]

- ‌[سورة الروم (30) : الآيات 38 الى 46]

- ‌[سورة الروم (30) : الآيات 47 الى 60]

- ‌سورة لقمان

- ‌[سورة لقمان (31) : الآيات 1 الى 11]

- ‌[سورة لقمان (31) : الآيات 12 الى 19]

- ‌[سورة لقمان (31) : الآيات 20 الى 28]

- ‌[سورة لقمان (31) : الآيات 29 الى 34]

- ‌سورة السّجدة

- ‌[سورة السجده (32) : الآيات 1 الى 11]

- ‌[سورة السجده (32) : الآيات 12 الى 22]

- ‌[سورة السجده (32) : الآيات 23 الى 30]

- ‌سُورَةِ الْأَحْزَابِ

- ‌[سورة الأحزاب (33) : الآيات 1 الى 6]

- ‌[سورة الأحزاب (33) : الآيات 7 الى 17]

- ‌[سورة الأحزاب (33) : الآيات 18 الى 25]

- ‌[سورة الأحزاب (33) : الآيات 26 الى 27]

- ‌[سورة الأحزاب (33) : الآيات 28 الى 34]

- ‌[سورة الأحزاب (33) : الآيات 35 الى 36]

- ‌[سورة الأحزاب (33) : الآيات 37 الى 40]

- ‌[سورة الأحزاب (33) : الآيات 41 الى 48]

- ‌[سورة الأحزاب (33) : الآيات 49 الى 52]

- ‌[سورة الأحزاب (33) : الآيات 53 الى 55]

- ‌[سورة الأحزاب (33) : الآيات 56 الى 58]

- ‌[سورة الأحزاب (33) : الآيات 59 الى 68]

- ‌[سورة الأحزاب (33) : الآيات 69 الى 73]

- ‌سُورَةِ سَبَأٍ

- ‌[سورة سبإ (34) : الآيات 1 الى 9]

- ‌[سورة سبإ (34) : الآيات 10 الى 14]

- ‌[سورة سبإ (34) : الآيات 15 الى 21]

- ‌[سورة سبإ (34) : الآيات 22 الى 27]

- ‌[سورة سبإ (34) : الآيات 28 الى 33]

- ‌[سورة سبإ (34) : الآيات 34 الى 42]

- ‌[سورة سبإ (34) : الآيات 43 الى 50]

- ‌[سورة سبإ (34) : الآيات 51 الى 54]

- ‌سُورَةِ فَاطِرٍ

- ‌[سورة فاطر (35) : الآيات 1 الى 8]

- ‌[سورة فاطر (35) : الآيات 9 الى 14]

- ‌[سورة فاطر (35) : الآيات 15 الى 26]

- ‌[سورة فاطر (35) : الآيات 27 الى 35]

- ‌[سورة فاطر (35) : الآيات 36 الى 45]

- ‌سُورَةِ يس

- ‌[سورة يس (36) : الآيات 1 الى 12]

- ‌[سورة يس (36) : الآيات 13 الى 27]

- ‌[سورة يس (36) : الآيات 28 الى 40]

- ‌[سورة يس (36) : الآيات 41 الى 54]

- ‌[سورة يس (36) : الآيات 55 الى 70]

- ‌[سورة يس (36) : الآيات 71 الى 83]

- ‌سُورَةِ الصَّافَّاتِ

- ‌[سورة الصافات (37) : الآيات 1 الى 19]

- ‌[سورة الصافات (37) : الآيات 20 الى 49]

- ‌[سورة الصافات (37) : الآيات 50 الى 74]

- ‌[سورة الصافات (37) : الآيات 75 الى 113]

- ‌[سورة الصافات (37) : الآيات 114 الى 148]

- ‌[سورة الصافات (37) : الآيات 149 الى 182]

- ‌سورة ص

- ‌[سورة ص (38) : الآيات 1 الى 11]

- ‌[سورة ص (38) : الآيات 12 الى 25]

- ‌[سورة ص (38) : الآيات 26 الى 33]

- ‌[سورة ص (38) : الآيات 34 الى 40]

- ‌[سورة ص (38) : الآيات 41 الى 54]

- ‌[سورة ص (38) : الآيات 55 الى 70]

- ‌[سورة ص (38) : الآيات 71 الى 88]

- ‌سورة الزّمر

- ‌[سورة الزمر (39) : الآيات 1 الى 6]

- ‌[سورة الزمر (39) : الآيات 7 الى 12]

- ‌[سورة الزمر (39) : الآيات 13 الى 20]

- ‌[سورة الزمر (39) : الآيات 21 الى 26]

- ‌[سورة الزمر (39) : الآيات 27 الى 35]

- ‌[سورة الزمر (39) : الآيات 36 الى 42]

- ‌[سورة الزمر (39) : الآيات 43 الى 48]

- ‌[سورة الزمر (39) : الآيات 49 الى 61]

- ‌[سورة الزمر (39) : الآيات 62 الى 72]

- ‌[سورة الزمر (39) : الآيات 73 الى 75]

- ‌سورة غافر

- ‌[سورة غافر (40) : الآيات 1 الى 9]

- ‌[سورة غافر (40) : الآيات 10 الى 20]

- ‌[سورة غافر (40) : الآيات 21 الى 29]

- ‌[سورة غافر (40) : الآيات 30 الى 40]

- ‌[سورة غافر (40) : الآيات 41 الى 52]

- ‌[سورة غافر (40) : الآيات 53 الى 65]

- ‌[سورة غافر (40) : الآيات 66 الى 85]

- ‌سورة فصّلت

- ‌[سورة فصلت (41) : الآيات 1 الى 14]

- ‌[سورة فصلت (41) : الآيات 15 الى 24]

- ‌[سورة فصلت (41) : الآيات 25 الى 36]

- ‌[سورة فصلت (41) : الآيات 37 الى 44]

- ‌[سورة فصلت (41) : الآيات 45 الى 54]

- ‌سورة الشّورى

- ‌[سورة الشورى (42) : الآيات 1 الى 12]

- ‌[سورة الشورى (42) : الآيات 13 الى 18]

- ‌[سورة الشورى (42) : الآيات 19 الى 28]

- ‌[سورة الشورى (42) : الآيات 29 الى 43]

- ‌[سورة الشورى (42) : الآيات 44 الى 53]

- ‌سورة الزّخرف

- ‌[سورة الزخرف (43) : الآيات 1 الى 20]

- ‌[سورة الزخرف (43) : الآيات 21 الى 35]

- ‌[سورة الزخرف (43) : الآيات 36 الى 45]

- ‌[سورة الزخرف (43) : الآيات 46 الى 56]

- ‌[سورة الزخرف (43) : الآيات 57 الى 73]

- ‌[سورة الزخرف (43) : الآيات 74 الى 89]

- ‌سورة الدّخان

- ‌[سورة الدخان (44) : الآيات 1 الى 16]

- ‌[سورة الدخان (44) : الآيات 17 الى 37]

- ‌[سورة الدخان (44) : الآيات 38 الى 59]

- ‌فهرس الموضوعات

- ‌سورة النور

- ‌سورة الفرقان (25)

- ‌سورة الشعراء (26)

- ‌سورة النمل (27)

- ‌سورة القصص (28)

- ‌سورة العنكبوت (29)

- ‌سورة الروم (30)

- ‌سورة لقمان (31)

- ‌سورة السجدة (32)

- ‌سورة الأحزاب (33)

- ‌سورة سبأ (34)

- ‌سورة فاطر (35)

- ‌سورة يس (36)

- ‌سورة الصافات (37)

- ‌سورة ص (38)

- ‌سورة الزمر (39)

- ‌سورة غافر (40)

- ‌سورة فصلت (41)

- ‌سورة الشورى (42)

- ‌سورة الزخرف (43)

- ‌سورة الدخان (44)

الفصل: ‌[سورة ص (38) : الآيات 41 الى 54]

مِنَ الْخَلَاءِ قَالَ هَاتِي خَاتَمِي، قَالَتْ قَدْ أَعْطَيْتُهُ سُلَيْمَانَ. قَالَ أَنَا سُلَيْمَانُ، قَالَتْ كَذَبْتَ لَسْتَ سُلَيْمَانَ، فَجَعَلَ لَا يَأْتِي أَحَدًا يَقُولُ أَنَا سُلَيْمَانُ إِلَّا كَذَّبَهُ، حَتَّى جَعَلَ الصِّبْيَانُ يَرْمُونَهُ بِالْحِجَارَةِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عَرَفَ أَنَّهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، وَقَامَ الشَّيْطَانُ يَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ، فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَى سُلَيْمَانَ سُلْطَانَهُ أَلْقَى فِي قُلُوبِ النَّاسِ إِنْكَارَ ذَلِكَ الشَّيْطَانِ، فَأَرْسَلُوا إِلَى نِسَاءِ سُلَيْمَانَ فَقَالُوا لَهُنَّ: تُنْكِرْنَ مِنْ أَمْرِ سُلَيْمَانَ شَيْئًا؟ قُلْنَ نَعَمْ إِنَّهُ يَأْتِينَا وَنَحْنُ نَحِيضُ، وَمَا كَانَ يَأْتِينَا قَبْلَ ذَلِكَ، فَلَمَّا رَأَى الشَّيْطَانُ أَنَّهُ قَدْ فُطِنَ لَهُ ظَنَّ أَنَّ أَمْرَهُ قَدِ انْقَطَعَ، فَكَتَبُوا كُتُبًا فِيهَا سِحْرٌ وَكُفْرٌ فَدَفَنُوهَا تَحْتَ كُرْسِيِّ سُلَيْمَانَ، ثُمَّ أَثَارُوهَا وَقَرَءُوهَا عَلَى النَّاسِ وَقَالُوا بِهَذَا كَانَ يَظْهَرُ سُلَيْمَانُ عَلَى النَّاسِ وَيَغْلِبُهُمْ فَأَكْفَرَ النَّاسُ سُلَيْمَانَ فَلَمْ يَزَالُوا يُكَفِّرُونَهُ، وَبَعَثَ ذَلِكَ الشَّيْطَانُ بِالْخَاتَمِ فَطَرَحَهُ فِي الْبَحْرِ فَتَلَقَّتْهُ سَمَكَةٌ فَأَخَذَتْهُ، وَكَانَ سُلَيْمَانُ يَعْمَلُ عَلَى شَطِّ الْبَحْرِ بِالْأَجْرِ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَاشْتَرَى سَمَكًا فِيهِ تِلْكَ السَّمَكَةُ الَّتِي فِي بَطْنِهَا الْخَاتَمُ، فَدَعَا سُلَيْمَانَ فَقَالَ: تَحْمِلُ لِي هَذَا السَّمَكَ؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَ بِكَمْ؟ قَالَ بِسَمَكَةٍ مِنْ هَذَا السَّمَكِ، فَحَمَلَ سُلَيْمَانُ السَّمَكَ ثُمَّ انْطَلَقَ بِهِ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَلَمَّا انْتَهَى الرَّجُلُ إِلَى بَابِ دَارِهِ أَعْطَاهُ تِلْكَ السَّمَكَةَ الَّتِي فِي بَطْنِهَا الْخَاتَمُ، فَأَخَذَهَا سُلَيْمَانُ فَشَقَّ بَطْنَهَا فَإِذَا الْخَاتَمُ فِي جَوْفِهَا فَأَخَذَهُ فَلَبِسَهُ، فَلَمَّا لَبِسَهُ دَانَتْ لَهُ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ وَالشَّيَاطِينُ وَعَادَ إِلَى حَالِهِ وَهَرَبَ الشَّيْطَانُ حَتَّى لَحِقَ بِجَزِيرَةٍ مِنْ جَزَائِرِ الْبَحْرِ، فَأَرْسَلَ سُلَيْمَانُ فِي طَلَبِهِ، وَكَانَ شَيْطَانًا مَرِيدًا، فَجَعَلُوا يَطْلُبُونَهُ وَلَا يَقْدِرُونَ عليه حتى وجدوه يوما نائما فجاؤوا فَبَنَوْا عَلَيْهِ بُنْيَانًا مِنْ رَصَاصٍ فَاسْتَيْقَظَ فَوَثَبَ، فَجَعَلَ لَا يَثِبُ فِي مَكَانٍ مِنَ الْبَيْتِ إلا أنباط مَعَهُ الرَّصَاصُ فَأَخَذُوهُ فَأَوْثَقُوهُ وَجَاءُوا بِهِ إِلَى سُلَيْمَانَ فَأَمَرَ بِهِ فَنُقِرَ لَهُ تَخْتٌ مِنْ رُخَامٍ ثُمَّ أَدْخَلَهُ فِي جَوْفِهِ ثُمَّ شُدَّ بِالنُّحَاسِ ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَطُرِحَ فِي الْبَحْرِ «1» ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً يَعْنِي الشَّيْطَانَ الَّذِي كَانَ سُلِّطَ عَلَيْهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ قَالَ: صَخْرٌ الْجِنِّيُّ تَمَثَّلَ عَلَى كُرْسِيِّهِ عَلَى صُورَتِهِ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:

«إِنَّ عِفْرِيتًا مِنَ الْجِنِّ جَعَلَ يَتَفَلَّتُ عَلَيَّ الْبَارِحَةَ لِيَقْطَعَ عَلَيَّ صَلَاتِي وَإِنَّ اللَّهَ أَمْكَنَنِي مِنْهُ، فَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَرْبُطَهُ إِلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ حَتَّى تُصْبِحُوا فَتَنْظُرُوا إِلَيْهِ كُلُّكُمْ، فَذَكَرْتُ قَوْلَ أَخِي سُلَيْمَانَ وَهَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي فَرَدَّهُ اللَّهُ خَاسِئًا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَامْنُنْ يَقُولُ: اعْتِقْ مِنَ الْجِنِّ مَنْ شِئْتَ وأمسك منهم من شئت.

[سورة ص (38) : الآيات 41 الى 54]

وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (42) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44) وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (45)

إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (48) هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (50)

مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (52) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنا مَا لَهُ مِنْ نَفادٍ (54)

(1) . هذا كسابقه من الإسرائيليات التي لا يعتد بها.

ص: 499

قَوْلُهُ: وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ وأيوب عطف بيان، وإِذْ نَادَى رَبَّهُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ عَبْدَنَا أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَلَى أَنَّهُ حِكَايَةٌ لِكَلَامِهِ الَّذِي نَادَى رَبَّهُ بِهِ، وَلَوْ لَمْ يَحْكِهِ لَقَالَ إِنَّهُ مَسَّهُ. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ بِكَسْرِهَا عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ.

وفي ذكر قِصَّةِ أَيُّوبَ إِرْشَادٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي الصَّبْرِ عَلَى الْمَكَارِهِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِضَمِّ النُّونِ مِنْ قَوْلِهِ: بِنُصْبٍ وَسُكُونِ الصَّادِ، فَقِيلَ: هُوَ جَمْعُ نَصَبٍ بِفَتْحَتَيْنِ نَحْوَ أَسَدٍ وَأُسْدٍ، وَقِيلَ: هُوَ لُغَةٌ فِي النَّصَبِ، نَحْوَ رَشَدٍ وَرُشْدٍ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ يَزِيدُ بْنُ الْقَعْقَاعِ، وَشَيْبَةُ وَحَفْصٌ، وَنَافِعٌ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ بِضَمَّتَيْنِ، وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنِ الْحَسَنِ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَيَعْقُوبُ وَحَفْصٌ فِي رِوَايَةٍ بِفَتْحٍ وَسُكُونٍ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَاتُ كُلُّهَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتِ الْقِرَاءَاتُ بِاخْتِلَافِ اللُّغَاتِ.. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: إِنَّ النَّصَبَ بِفَتْحَتَيْنِ: التَّعَبُ وَالْإِعْيَاءُ، وَعَلَى بَقِيَّةِ الْقِرَاءَاتِ الشَّرُّ وَالْبَلَاءُ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَعَذابٍ أَيْ أَلَمٍ. قَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ: النَّصَبُ فِي الْجَسَدِ، وَالْعَذَابُ فِي الْمَالِ. قَالَ النَّحَّاسُ وَفِيهِ بَعْدُ كَذَا قَالَ. وَالْأَوْلَى تَفْسِيرُ النَّصَبِ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ وَهُوَ التَّعَبُ وَالْإِعْيَاءُ، وَتَفْسِيرُ الْعَذَابِ بِمَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ مُسَمَّى الْعَذَابِ وَهُوَ الْأَلَمُ، وَكِلَاهُمَا رَاجِعٌ إِلَى الْبَدَنِ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هُوَ بِتَقْدِيرِ الْقَوْلِ: أَيْ قُلْنَا لَهُ: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ كَذَا قَالَ الْكِسَائِيُّ: وَالرَّكْضُ الدَّفْعُ بِالرِّجْلِ، يُقَالُ رَكَضَ الدَّابَّةَ بِرِجْلِهِ: إِذَا ضَرَبَهَا بِهَا. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: الرَّكْضُ التَّحْرِيكُ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: يُقَالُ رَكَضْتُ الدَّابَّةَ، وَلَا يُقَالُ رَكَضَتْ هِيَ، لِأَنَّ الرَّكْضَ إِنَّمَا هُوَ تَحْرِيكُ رَاكِبِهَا رِجْلَيْهِ، وَلَا فِعْلَ لَهَا فِي ذَلِكَ، وَحَكَى سِيبَوَيْهِ: رَكَضْتُ الدَّابَّةَ فَرَكَضَتْ، مِثْلُ جَبَرْتُ الْعَظْمَ فَجَبَرَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ هَذَا أَيْضًا مِنْ مَقُولِ الْقَوْلِ الْمُقَدَّرِ: الْمُغْتَسَلُ هُوَ الْمَاءُ الَّذِي يُغْتَسَلُ بِهِ، وَالشَّرَابُ الَّذِي يُشْرَبُ مِنْهُ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُغْتَسَلَ هُوَ الْمَكَانُ الَّذِي يُغْتَسَلُ فِيهِ. قَالَ قَتَادَةُ: هُمَا عَيْنَانِ بِأَرْضِ الشَّامِ فِي أَرْضٍ يُقَالُ لَهَا الْجَابِيَةُ فَاغْتَسَلَ مِنْ إِحْدَاهُمَا فَأَذْهَبَ اللَّهُ ظَاهِرَ دَائِهِ، وَشَرِبَ مِنَ الْأُخْرَى فَأَذْهَبَ اللَّهُ بَاطِنَ دَائِهِ، وَكَذَا قَالَ الْحَسَنُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ نَبَعَتْ عَيْنٌ جَارِيَةٌ فَاغْتَسَلَ فِيهَا فَخَرَجَ صَحِيحًا، ثُمَّ نَبَعَتْ عَيْنٌ أُخْرَى فَشَرِبَ مِنْهَا مَاءً عَذْبًا بَارِدًا. وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ:

فَرَكَضَ بِرِجْلِهِ فَنَبَعَتْ عَيْنٌ، فَقُلْنَا لَهُ: هَذَا مُغْتَسَلٌ إِلَخْ، وَأَسْنَدَ الْمَسَّ إِلَى الشَّيْطَانِ مَعَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي مَسَّهُ بِذَلِكَ: إِمَّا لِكَوْنِهِ لَمَّا عَمِلَ بِوَسْوَسَتِهِ عُوقِبَ عَلَى ذلك النَّصَبِ وَالْعَذَابِ. فَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ أُعْجِبَ بِكَثْرَةِ مَالِهِ، وَقِيلَ اسْتَغَاثَهُ مَظْلُومٌ فَلَمْ يُغِثْهُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ قَالَ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقَةِ الْأَدَبِ، وَقِيلَ إِنَّهُ قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ وَسْوَسَ إِلَى أَتْبَاعِهِ فَرَفَضُوهُ وَأَخْرَجُوهُ مِنْ دِيَارِهِمْ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِهِ مَا كَانَ يُوَسْوِسُهُ الشَّيْطَانُ إِلَيْهِ حَالَ مَرَضِهِ وَابْتِلَائِهِ مِنْ تَحْسِينِ الْجَزَعِ وَعَدَمِ الصَّبْرِ عَلَى الْمُصِيبَةِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَاغْتَسَلَ وَشَرِبَ، فَكَشَفْنَا بِذَلِكَ مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَوَهَبَنَا لَهُ أَهْلَهُ. قِيلَ: أَحْيَاهُمُ اللَّهُ بَعْدَ أَنْ أَمَاتَهُمْ. وَقِيلَ: جَمَعَهُمْ بَعْدَ تَفَرُّقِهِمْ، وَقِيلَ: غَيَّرَهُمْ مِثْلَهُمْ، ثُمَّ زَادَهُ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ، وهو معنى قوله:

ص: 500

وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ فكانوا مثل ما كَانُوا مِنْ قَبْلِ ابْتِلَائِهِ، وَانْتِصَابُ قَوْلِهِ: رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ، أَيْ: وَهَبْنَاهُمْ لَهُ لِأَجْلِ رَحْمَتِنَا إِيَّاهُ، وَلِيَتَذَكَّرَ بِحَالِهِ أُولُو الْأَلْبَابِ فَيَصْبِرُوا عَلَى الشَّدَائِدِ كَمَا صَبَرَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ مُسْتَوْفًى فَلَا نُعِيدُهُ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً مَعْطُوفٌ عَلَى ارْكُضْ، أَوْ عَلَى وهبنا أو التقدير وقلنا له: خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً وَالضِّغْثُ: عِثْكَالُ النَّخْلِ بِشَمَارِيخِهِ، وَقِيلَ: هُوَ قَبْضَةٌ مِنْ حَشِيشٍ مُخْتَلِطٌ رَطِبُهَا بِيَابِسِهَا، وَقِيلَ: الْحِزْمَةُ الْكَبِيرَةُ مِنَ الْقُضْبَانِ، وَأَصْلُ الْمَادَّةِ تَدُلُّ عَلَى جَمْعِ الْمُخْتَلَطَاتِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الضِّغْثُ مِلْءُ الْكَفِّ مِنَ الشَّجَرِ وَالْحَشِيشِ وَالشَّمَارِيخِ فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ أَيِ: اضْرِبْ بِذَلِكَ الضِّغْثِ، وَلَا تَحْنَثْ فِي يَمِينِكَ، وَالْحِنْثُ: الْإِثْمُ، وَيُطْلَقُ عَلَى فِعْلِ مَا حُلِفَ عَلَى تَرْكِهِ، وَكَانَ أَيُّوبُ قَدْ حَلَفَ فِي مَرَضِهِ أَنْ يَضْرِبَ امْرَأَتَهُ مِائَةَ جَلْدَةٍ.

وَاخْتُلِفَ فِي سَبَبِ ذَلِكَ، فقال سعيد بن المسيب إنه جَاءَتْهُ بِزِيَادَةٍ عَلَى مَا كَانَتْ تَأْتِيهِ بِهِ مِنَ الْخُبْزِ، فَخَافَ خِيَانَتَهَا فَحَلَفَ لَيَضْرِبَنَّهَا. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَامٍ وَغَيْرُهُ: إِنَّ الشَّيْطَانَ أَغْوَاهَا أَنْ تَحْمِلَ أَيُّوبَ عَلَى أَنْ يَذْبَحَ سَخْلَةً تقرّبا إليه، فإنه إذا فعل ذلك برىء، فَحَلَفَ لَيَضْرِبَنَّهَا إِنْ عُوفِيَ مِائَةَ جَلْدَةٍ. وَقِيلَ: بَاعَتْ ذُؤَابَتَهَا بِرَغِيفَيْنِ إِذْ لَمْ تَجِدْ شَيْئًا، وَكَانَ أَيُّوبُ يَتَعَلَّقُ بِهَا إِذَا أَرَادَ الْقِيَامَ، فَلِهَذَا حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّهَا. وَقِيلَ: جَاءَهَا إِبْلِيسُ فِي صُورَةِ طَبِيبٍ فَدَعَتْهُ لِمُدَاوَاةِ أَيُّوبَ، فَقَالَ أُدَاوِيهِ على أنه إذا برىء قَالَ أَنْتَ شَفَيْتَنِي، لَا أُرِيدُ جَزَاءً سِوَاهُ، قَالَتْ:

نَعَمْ، فَأَشَارَتْ عَلَى أَيُّوبَ بِذَلِكَ فَحَلَفَ لَيَضْرِبَنَّهَا.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ هَذَا خَاصٌّ بِأَيُّوبَ أَوْ عَامٌّ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ؟ وَأَنَّ مَنْ حَلَفَ خَرَجَ مِنْ يَمِينِهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّ فُلَانًا مِائَةَ جَلْدَةٍ أَوْ ضَرْبًا وَلَمْ يَقُلْ ضَرْبًا شَدِيدًا وَلَمْ يَنْوِ بِقَلْبِهِ فَيَكْفِيهِ مِثْلُ هَذَا الضَّرْبِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ، حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ وَعَنْ أَبِي ثَوْرٍ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: هُوَ خَاصٌّ بِأَيُّوبَ وَرَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ. ثُمَّ أَثْنَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى أَيُّوبَ فَقَالَ: إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً أَيْ:

عَلَى الْبَلَاءِ الَّذِي ابْتَلَيْنَاهُ بِهِ، فَإِنَّهُ ابْتُلِيَ بِالدَّاءِ الْعَظِيمِ فِي جَسَدِهِ وَذَهَابِ مَالِهِ وَأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ فَصَبَرَ نِعْمَ الْعَبْدُ أَيْ: أَيُّوبُ إِنَّهُ أَوَّابٌ أَيْ: رَجَّاعٌ إِلَى اللَّهِ بِالِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ عِبادَنا بِالْجَمْعِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَحُمَيْدٌ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَابْنُ كَثِيرٍ «عَبْدَنَا» بِالْإِفْرَادِ. فَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ يَكُونُ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْحَاقُ وَيَعْقُوبُ عَطْفُ بَيَانٍ، وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى يَكُونُ إِبْرَاهِيمُ عَطْفُ بَيَانٍ، وَمَا بَعْدَهُ عَطْفٌ عَلَى عَبْدَنَا لَا عَلَى إِبْرَاهِيمَ. وَقَدْ يُقَالُ: لَمَّا كَانَ الْمُرَادُ بِعَبْدِنَا الْجِنْسُ جَازَ إِبْدَالُ الْجَمَاعَةِ مِنْهُ. وَقِيلَ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَمَا بَعْدَهُ بَدَلٌ، أَوِ: النَّصْبُ بِإِضْمَارِ أَعْنِي، وَعَطْفُ الْبَيَانِ أَظْهَرُ، وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ أَبْيَنُ وَقَدِ اخْتَارَهَا أَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو حَاتِمٍ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ الْأَيْدِي، جَمْعُ الْيَدِ الَّتِي بِمَعْنَى الْقُوَّةِ وَالْقُدْرَةِ. قَالَ قَتَادَةُ: أُعْطُوا قُوَّةً فِي الْعِبَادَةِ وَنَصْرًا فِي الدِّينِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالْمُفَسِّرُونَ. قَالَ النَّحَّاسُ: أَمَّا الْأَبْصَارُ فَمُتَّفَقٌ عَلَى أَنَّهَا الْبَصَائِرُ فِي الدِّينِ وَالْعِلْمِ. وَأَمَّا الْأَيْدِي فَمُخْتَلَفٌ فِي تَأْوِيلِهَا فَأَهْلُ التَّفْسِيرِ يَقُولُونَ: إِنَّهَا الْقُوَّةُ فِي الدِّينِ، وَقَوْمٌ يَقُولُونَ: الْأَيْدِي جَمْعُ يَدٍ وَهِيَ النِّعْمَةُ، أَيْ: هُمْ أَصْحَابُ النِّعَمِ، أَيِ: الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عز وجل عَلَيْهِمْ، وَقِيلَ: هُمْ أَصْحَابُ النِّعَمِ عَلَى النَّاسِ وَالْإِحْسَانِ

ص: 501

إِلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمْ قَدْ أَحْسَنُوا وَقَدَّمُوا خَيْرًا، وَاخْتَارَ هَذَا ابْنُ جَرِيرٍ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ أُولِي الْأَيْدِي بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ فِي الْأَيْدِي. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالْأَعْمَشُ وَالْحَسَنُ وَعِيسَى الْأَيْدِ بِغَيْرِ يَاءٍ، فَقِيلَ مَعْنَاهَا مَعْنَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى، وَإِنَّمَا حُذِفَتِ الْيَاءُ لِدَلَالَةِ كَسْرَةِ الدَّالِ عَلَيْهَا، وَقِيلَ: الْأَيْدُ: الْقُوَّةُ، وَجُمْلَةُ: إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ تَعْلِيلٌ لِمَا وُصِفُوا بِهِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِخالِصَةٍ بِالتَّنْوِينِ وَعَدَمِ الْإِضَافَةِ عَلَى أَنَّهَا مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْإِخْلَاصِ، فَيَكُونُ ذِكْرَى مَنْصُوبًا بِهِ، أَوْ: بِمَعْنَى الْخُلُوصِ، فَيَكُونُ ذِكْرَى مَرْفُوعًا بِهِ، أَوْ يَكُونُ خَالِصَةٍ اسم فاعل على بابه، وذكرى بَدَلٌ مِنْهَا أَوْ بَيَانٌ لَهَا أَوْ بِإِضْمَارِ أعني أو مرفوعة بإضمار مبتدأ، والدار يجوز أن تكون مفعولا به لذكرى وَأَنْ تَكُونَ ظَرْفًا: إِمَّا عَلَى الِاتِّسَاعِ، أَوْ على إسقاط الخافض وعلى كلّ تقدير فخالصة: صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ، وَالْبَاءُ: لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ: بِسَبَبِ خَصْلَةٍ خَالِصَةٍ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَشَيْبَةُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَهِشَامٌ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ بِإِضَافَةِ خَالِصَةٍ إِلَى ذِكْرَى عَلَى أَنَّ الْإِضَافَةَ لِلْبَيَانِ، لِأَنَّ الْخَالِصَةَ تَكُونُ ذِكْرَى وَغَيْرَ ذِكْرَى، أَوْ عَلَى أَنَّ خالصة: مصدر مضاف إلى مفعول، وَالْفَاعِلُ: مَحْذُوفٌ. أَيْ: بِأَنْ أَخْلَصُوا ذِكْرَى الدَّارِ، أَوْ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْخُلُوصِ مُضَافًا إِلَى فَاعِلِهِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: مَعْنَى الْآيَةِ اسْتَصْفَيْنَاهُمْ بِذِكْرِ الْآخِرَةِ فَأَخْلَصْنَاهُمْ بِذِكْرِهَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانُوا يَدْعُونَ إِلَى الْآخِرَةِ وَإِلَى اللَّهِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَخْلَصُوا بِخَوْفِ الْآخِرَةِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: فَمَنْ قَرَأَ بِالتَّنْوِينِ فِي خَالِصَةٍ كَانَ الْمَعْنَى جَعَلْنَاهُمْ لَنَا خَالِصِينَ بِأَنْ خَلَصَتْ لَهُمْ ذِكْرَى الدَّارِ، وَالْخَالِصَةُ: مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْخُلُوصِ، وَالذِّكْرَى بِمَعْنَى التَّذَكُّرِ، أَيْ: خَلَصَ لَهُمْ تذكر الدار، وهو أنهم يذكرون التأهب لها، وَيَزْهَدُونَ فِي الدُّنْيَا، وَذَلِكَ مِنْ شَأْنِ الْأَنْبِيَاءِ. وَأَمَّا مَنْ أَضَافَ فَالْمَعْنَى: أَخْلَصْنَا لَهُمْ بِأَنْ خَلَصَتْ لَهُمْ ذِكْرَى الدَّارِ، وَالْخَالِصَةُ مَصْدَرٌ مُضَافٌ إِلَى الْفَاعِلِ، وَالذِّكْرَى عَلَى هَذَا الْمَعْنَى الذِّكْرُ وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ الِاصْطِفَاءُ: الِاخْتِيَارُ، وَالْأَخْيَارُ، جَمْعُ خَيِّرٍ بِالتَّشْدِيدِ، وَالتَّخْفِيفِ كَأَمْوَاتٍ فِي جَمْعِ مَيِّتٍ مُشَدَّدًا وَمُخَفَّفًا وَالْمَعْنَى: إِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُخْتَارِينَ مِنْ أَبْنَاءِ جِنْسِهِمْ مِنَ الْأَخْيَارِ وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ قِيلَ: وَجْهُ إِفْرَادِهِ بِالذِّكْرِ بَعْدَ ذِكْرِ أَبِيهِ، وَأَخِيهِ، وَابْنِ أَخِيهِ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّهُ عَرِيقٌ فِي الصَّبْرِ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ بِالتَّذْكِيرِ هنا وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وقد تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْيَسَعَ، وَالْكَلَامُ فِيهِ فِي الْأَنْعَامِ، وتقدّم ذكر ذا الْكِفْلِ وَالْكَلَامُ فِيهِ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَالْمُرَادُ مِنْ ذِكْرِ هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ صَبَرَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَتَحَمَّلُوا الشَّدَائِدَ فِي دِينِ اللَّهِ. أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم بِأَنْ يَذْكُرَهُمْ لِيَسْلُكَ مَسْلَكَهُمْ فِي الصَّبْرِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ يَعْنِي: الَّذِينَ اخْتَارَهُمُ اللَّهُ لِنُبُوَّتِهِ، وَاصْطَفَاهُمْ مِنْ خَلْقِهِ هَذَا ذِكْرٌ الْإِشَارَةُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْرِ أَوْصَافِهِمْ، أَيْ: هَذَا ذِكْرٌ جَمِيلٌ فِي الدُّنْيَا وَشَرَفٌ يُذْكَرُونَ بِهِ أَبَدًا وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ أَيْ: لهم مع الذِّكْرِ الْجَمِيلِ حُسْنُ مَآبٍ فِي الْآخِرَةِ، وَالْمَآبُ: الْمَرْجِعُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ فِي الْآخِرَةِ إِلَى مَغْفِرَةِ اللَّهِ، وَرِضْوَانِهِ، وَنَعِيمِ جَنَّتِهِ. ثُمَّ بَيَّنَ حُسْنَ الْمَرْجِعِ فَقَالَ: جَنَّاتِ عَدْنٍ قَرَأَ الْجُمْهُورُ جَنَّاتِ بِالنَّصْبِ بَدَلًا مِنْ حُسْنَ مَآبٍ، سَوَاءٌ كَانَ جَنَّاتِ

عَدْنٍ مَعْرِفَةً أَوْ نَكِرَةً لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ تُبَدَّلُ مِنَ النَّكِرَةِ وَبِالْعَكْسِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَنَّاتِ عَطْفَ بَيَانٍ إِنْ كَانَتْ نَكِرَةً، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِيهَا إِنْ كَانَتْ مَعْرِفَةً عَلَى مَذْهَبِ جُمْهُورِ النُّحَاةِ وَقَدْ جَوَّزَهُ بَعْضُهُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَصْبُ جَنَّاتِ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ. وَالْعَدْنُ فِي الْأَصْلِ: الْإِقَامَةُ،

ص: 502

يُقَالُ عَدَنَ بِالْمَكَانِ: إِذَا أَقَامَ فِيهِ، وَقِيلَ: هُوَ اسْمٌ لِقَصْرٍ فِي الْجَنَّةِ، وَقُرِئَ بِرَفْعِ جَنَّاتِ عَلَى أَنَّهَا مُبْتَدَأٌ. وَخَبَرُهَا مُفَتَّحَةً، أَوْ عَلَى أَنَّهَا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هِيَ جَنَّاتُ عَدْنٍ، وَقَوْلُهُ: مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ حَالٌ مِنْ جَنَّاتِ، وَالْعَامِلُ فِيهَا مَا فِي الْمُتَّقِينَ من معنى الفعل، والأبواب: مرتفعة باسم المفعول، كقوله: وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَالرَّابِطُ بَيْنَ الْحَالِ وَصَاحِبِهَا ضَمِيرٌ مُقَدَّرٌ، أَيْ: مِنْهَا، أَوِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الضَّمِيرِ، إِذِ الْأَصْلُ أَبْوَابُهَا. وَقِيلَ: إِنَّ ارْتِفَاعَ الْأَبْوَابِ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي مُفَتَّحَةٌ الْعَائِدِ عَلَى جَنَّاتِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ، أَيْ: مُفَتَّحَةٌ هِيَ الْأَبْوَابُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى مُفَتَّحَةٌ أَبْوَابُهَا، وَالْعَرَبُ تَجْعَلُ الْأَلِفَ وَاللَّامَ خَلَفًا مِنَ الْإِضَافَةِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى مُفَتَّحَةٌ لَهُمُ الْأَبْوَابُ مِنْهَا. قَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ الْأَبْوَابَ يُقَالُ لَهَا: انْفَتِحِي فَتَنْفَتِحُ، انْغَلِقِي فَتَنْغَلِقُ، وَقِيلَ: تَفْتَحُ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ الْأَبْوَابَ، وَانْتِصَابُ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ لَهُمُ، وَالْعَامِلُ فِيهِ مُفَتَّحَةً، وَقِيلَ: هُوَ حَالٌ مِنْ يَدْعُونَ قُدِّمَتْ عَلَى الْعَامِلِ فِيها أَيْ يَدْعُونَ فِي الْجَنَّاتِ حَالَ كَوْنِهِمْ مُتَّكِئِينَ فِيهَا بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ أَيْ: بِأَلْوَانٍ متنوّعة مُتَكَثِّرَةٍ مِنَ الْفَوَاكِهِ وَشَرابٍ كَثِيرٍ، فَحَذَفَ كَثِيرًا لِدَلَالَةِ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ، وَعَلَى جَعْلِ مُتَّكِئِينَ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ لَهُمُ، وَالْعَامِلُ فِيهِ مُفَتَّحَةً، فَتَكُونُ جُمْلَةُ يَدْعُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ حَالِهِمْ. وَقِيلَ إِنَّ يَدْعُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ مُتَّكِئِينَ وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ أَيْ: قَاصِرَاتٌ طَرَفَهُنَّ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ لَا يَنْظُرْنَ إِلَى غَيْرِهِمْ، وَقَدْ مَضَى بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ. وَالْأَتْرَابُ: الْمُتَّحِدَاتُ فِي السِّنِّ، أَوِ الْمُتَسَاوِيَاتُ فِي الْحُسْنِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَعْنَى أَتْرَابٌ أَنَّهُنَّ مُتَوَاخِيَاتٌ لَا يَتَبَاغَضْنَ وَلَا يَتَغَايَرْنَ. وَقِيلَ: أَتْرَابًا لِلْأَزْوَاجِ. وَالْأَتْرَابُ: جَمْعُ تِرْبٍ، وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ التُّرَابِ لِأَنَّهُ يَمَسُّهُنَّ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ لِاتِّحَادِ مَوْلِدِهِنَّ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ أَيْ: هَذَا الْجَزَاءُ الَّذِي وُعِدْتُمْ بِهِ لِأَجْلِ يَوْمِ الْحِسَابِ، فَإِنَّ الْحِسَابَ عِلَّةٌ لِلْوُصُولِ إِلَى الْجَزَاءِ، أَوِ الْمَعْنَى: في يوم الحساب.

قرأ الْجُمْهُورُ مَا تُوعَدُونَ بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْخِطَابِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَيَعْقُوبُ بِالتَّحْتِيَّةِ عَلَى الْخَبَرِ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو حَاتِمٍ لِقَوْلِهِ: وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ فَإِنَّهُ خَبَرٌ. إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنا أَيْ: إِنَّ هَذَا الْمَذْكُورَ مِنَ النِّعَمِ وَالْكَرَامَاتِ لَرِزْقُنَا الَّذِي أَنْعَمْنَا بِهِ عَلَيْكُمْ مَا لَهُ مِنْ نَفادٍ أَيِ انْقِطَاعٍ وَلَا يَفْنَى أَبَدًا، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ «1» فَنِعَمُ الْجَنَّةِ لَا تَنْقَطِعُ عَنْ أَهْلِهَا.

وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ الشَّيْطَانَ عَرَجَ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ: يَا رَبِّ سَلِّطْنِي عَلَى أَيُّوبَ، قَالَ اللَّهُ: لَقَدْ سَلَّطْتُكَ عَلَى مَالِهِ وَوَلَدِهِ وَلَمْ أُسَلِّطْكَ عَلَى جَسَدِهِ، فَنَزَلَ فَجَمَعَ جُنُودَهُ، فَقَالَ لَهُمْ: قَدْ سُلِّطْتُ عَلَى أَيُّوبَ فَأَرُونِي سُلْطَانَكُمْ، فَصَارُوا نِيرَانًا ثُمَّ صاروا ماء، فبيناهم فِي الْمَشْرِقِ إِذَا هُمْ بِالْمَغْرِبِ، وَبَيْنَمَا هُمْ بِالْمَغْرِبِ إِذَا هُمْ بِالْمَشْرِقِ. فَأَرْسَلَ طَائِفَةً مِنْهُمْ إِلَى زَرْعِهِ، وَطَائِفَةً إِلَى أَهْلِهِ، وَطَائِفَةً إِلَى بَقَرِهِ، وَطَائِفَةً إِلَى غَنَمِهِ وَقَالَ: إِنَّهُ لَا يُعْتَصَمُ مِنْكُمْ إِلَّا بِالْمَعْرُوفِ، فَأَتَوْهُ بِالْمَصَائِبِ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، فَجَاءَ صَاحِبُ الزَّرْعِ فَقَالَ: يَا أَيُّوبُ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ أَرْسَلَ عَلَى زَرْعِكَ نَارًا فَأَحْرَقَتْهُ؟ ثُمَّ جَاءَ صَاحِبُ الْإِبِلِ، فَقَالَ: يَا أَيُّوبُ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ أَرْسَلَ إِلَى إِبِلِكَ عَدُوًّا فَذَهَبَ بِهَا، ثُمَّ جاء صاحب البقر فقال:

(1) . هود: 108.

ص: 503

يَا أَيُّوبُ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ أَرْسَلَ إِلَى بَقَرِكَ عَدُوًّا فَذَهَبَ بِهَا؟ ثُمَّ جَاءَهُ صَاحِبُ الْغَنَمِ فَقَالَ: يَا أَيُّوبُ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ أَرْسَلَ عَلَى غَنَمِكَ عَدُوًّا فَذَهَبَ بِهَا؟ وَتَفَرَّدَ هُوَ لِبَنِيهِ فَجَمَعَهُمْ فِي بَيْتِ أَكْبَرِهِمْ، فَبَيْنَمَا هُمْ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ إِذْ هَبَّتْ رِيحٌ فَأَخَذَتْ بِأَرْكَانِ الْبَيْتِ فَأَلْقَتْهُ عَلَيْهِمْ، فَجَاءَ الشَّيْطَانُ إِلَى أَيُّوبَ بِصُورَةِ غُلَامٍ بِأُذُنَيْهِ قُرْطَانِ فَقَالَ:

يَا أَيُّوبُ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ جَمَعَ بَنِيكَ فِي بَيْتِ أَكْبَرِهِمْ فَبَيْنَمَا هُمْ يأكلون ويشربون إذ هبت ريح أخذت بِأَرْكَانِ الْبَيْتِ فَأَلْقَتْهُ عَلَيْهِمْ، فَلَوْ رَأَيْتَهُمْ حِينَ اختلطت دماءهم وَلُحُومُهُمْ بِطَعَامِهِمْ وَشَرَابِهِمْ؟ فَقَالَ لَهُ أَيُّوبُ: فَأَيْنَ كُنْتَ؟ قَالَ: كُنْتُ مَعَهُمْ، قَالَ: فَكَيْفَ انْفَلَتَّ؟ قَالَ انْفَلَتُّ، قَالَ أَيُّوبُ أَنْتَ الشَّيْطَانُ ثُمَّ قَالَ أَيُّوبُ أَنَا الْيَوْمَ كَيَوْمِ وَلَدَتْنِي أُمِّي، فَقَامَ فَحَلَقَ رَأْسَهُ وَقَامَ يُصَلِّي، فَرَنَّ إِبْلِيسُ رَنَّةً سَمِعَهَا أَهْلُ السَّمَاءِ وَأَهْلُ الْأَرْضِ، ثُمَّ عَرَجَ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ إِنَّهُ قَدِ اعْتَصَمَ فَسَلِّطْنِي عَلَيْهِ فَإِنِّي لَا أَسْتَطِيعُهُ إِلَّا بِسُلْطَانِكَ، قَالَ: قَدْ سَلَّطْتُكَ عَلَى جَسَدِهِ وَلَمْ أُسَلِّطْكَ عَلَى قَلْبِهِ، فَنَزَلَ فَنَفَخَ تَحْتَ قدمه نفخة قرح ما بين قدمه إِلَى قَرْنِهِ، فَصَارَ قُرْحَةً وَاحِدَةً وَأُلْقِيَ عَلَى الرَّمَادِ حَتَّى بَدَا حِجَابُ قَلْبِهِ، فَكَانَتِ امْرَأَتُهُ تَسْعَى عَلَيْهِ، حَتَّى قَالَتْ لَهُ: أَلَا تَرَى يَا أَيُّوبُ قَدْ نَزَلَ وَاللَّهِ بِي مِنَ الْجَهْدِ وَالْفَاقَةِ مَا إِنْ بِعْتُ قُرُونِي بِرَغِيفٍ فَأَطْعَمْتُكَ فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَشْفِيَكَ وَيُرِيحَكَ قَالَ: ويحك كنا في النعم سَبْعِينَ عَامًا فَاصْبِرِي حَتَّى نَكُونَ فِي الضَّرَّاءِ سَبْعِينَ عَامًا، فَكَانَ فِي الْبَلَاءِ سَبْعَ سِنِينَ وَدَعَا فَجَاءَ جِبْرِيلُ يَوْمًا فَدَعَا بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ قُمْ، فَقَامَ فَنَحَّاهُ عَنْ مَكَانِهِ وَقَالَ: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ فَرَكَضَ بِرِجْلِهِ فَنَبَعَتْ عَيْنٌ، فَقَالَ اغْتَسِلْ، فَاغْتَسَلَ مِنْهَا، ثُمَّ جَاءَ أَيْضًا فَقَالَ: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ فَنَبَعَتْ عَيْنٌ أُخْرَى فَقَالَ لَهُ اشْرَبْ مِنْهَا، وَهُوَ قَوْلُهُ: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ وَأَلْبَسَهُ اللَّهُ حُلَّةً مِنَ الْجَنَّةِ، فَتَنَحَّى أَيُّوبُ فَجَلَسَ فِي نَاحِيَةٍ وَجَاءَتِ امْرَأَتُهُ فَلَمْ تَعْرِفْهُ، فَقَالَتْ: يَا عَبْدَ اللَّهِ أَيْنَ الْمُبْتَلَى الَّذِي كَانَ هَاهُنَا؟ لَعَلَّ الْكِلَابَ قَدْ ذَهَبَتْ بِهِ أَوِ الذِّئَابَ وَجَعَلَتْ تُكَلِّمُهُ سَاعَةً، فَقَالَ: وَيْحَكِ أَنَا أَيُّوبُ قَدْ رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ جَسَدِي. وَرَدَّ عَلَيْهِ مَالَهُ وَوَلَدَهُ عِيَانًا وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ، وَأَمْطَرَ عَلَيْهِ جَرَادًا مِنْ ذَهَبٍ، فَجَعَلَ يَأْخُذُ الْجَرَادَ بِيَدِهِ ثُمَّ يَجْعَلُهُ فِي ثَوْبِهِ وَيَنْشُرُ كِسَاءَهُ وَيَأْخُذُهُ فَيَجْعَلُ فِيهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ يَا أَيُّوبُ أَمَا شَبِعْتَ؟ قَالَ:

يَا رَبِّ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْبَعُ مِنْ فَضْلِكَ وَرَحْمَتِكَ.

وَفِي هَذَا نَكَارَةٌ شَدِيدَةٌ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا يُمَكِّنُ الشَّيْطَانَ مِنْ نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَائِهِ وَيُسَلَّطُ عَلَيْهِ هَذَا التَّسْلِيطَ الْعَظِيمَ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ إِبْلِيسَ قَعَدَ عَلَى الطَّرِيقِ وَأَخَذَ تَابُوتًا يُدَاوِي النَّاسَ، فَقَالَتِ امْرَأَةُ أَيُّوبَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ إِنَّ هَاهُنَا مُبْتَلًى مِنْ أَمْرِهِ كَذَا وَكَذَا فَهَلْ لَكَ أَنْ تُدَاوِيَهُ قَالَ: نَعَمْ بِشَرْطٍ إِنْ أَنَا شَفَيْتُهُ أَنْ يَقُولَ أَنْتَ شَفَيْتَنِي لَا أُرِيدُ مِنْهُ أَجْرًا غَيْرَهُ. فَأَتَتْ أَيُّوبَ فَذَكَرَتْ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: وَيْحَكِ ذَاكَ الشَّيْطَانُ، لِلَّهِ عَلَيَّ إِنْ شَفَانِي اللَّهُ أَنْ أَجْلِدَكِ مِائَةَ جَلْدَةٍ، فَلَمَّا شَفَاهُ اللَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ ضِغْثًا فَيَضْرِبَهَا بِهِ، فَأَخَذَ عِذْقًا فيه شِمْرَاخٍ فَضَرَبَهَا ضَرْبَةً وَاحِدَةً. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً قَالَ: هُوَ الْأَسَلُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: الضِّغْثُ القبضة مِنَ الْمَرْعَى الرَّطْبِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: الضِّغْثُ: الْحُزْمَةُ.

وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ عَسَاكِرَ من طريق أبي أمامة ابن سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ

ص: 504