الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إِلَّا وَهُوَ بَالِغٌ مَا قَدَّرْتُ لَهُ مِنَ الْعُمُرِ، وَقَدْ قَضَيْتُ لَهُ ذَلِكَ، فَإِنَّمَا يَنْتَهِي إِلَى الْكِتَابِ الَّذِي قَدَّرْتُ لَهُ لَا يُزَادُ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ أَحَدٌ قَضَيْتُ لَهُ أَنَّهُ قَصِيرُ الْعُمُرِ وَالْحَيَاةِ بِبَالِغٍ الْعُمُرَ، وَلَكِنْ يَنْتَهِي إِلَى الْكِتَابِ الَّذِي كُتِبَ لَهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ يَقُولُ: كُلُّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ عِنْدَهُ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو عَوَانَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ الْغِفَارِيِّ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يدخل الملك على النطفة بعد ما تَسْتَقِرُّ فِي الرَّحِمِ بِأَرْبَعِينَ أَوْ بِخَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، فَيَقُولُ أَيْ رَبِّ أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ فَيَقُولُ اللَّهُ وَيُكْتَبَانِ، ثُمَّ يَكْتُبُ عَمَلَهُ وَرِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَأَثَرَهُ وَمُصِيبَتَهُ، ثُمَّ تُطْوَى الصَّحِيفَةُ فَلَا يُزَادُ فِيهَا وَلَا يُنْقَصُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ: اللَّهُمَّ أَمْتِعْنِي بِزَوْجِي النَّبِيِّ، وَبِأَبِي أَبِي سُفْيَانَ، وَبِأَخِي مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّكِ سَأَلْتِ اللَّهَ لِآجَالٍ مَضْرُوبَةٍ، وَأَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ، وَأَرْزَاقٍ مَقْسُومَةٍ، وَلَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ شَيْئًا قَبْلَ حِلِّهِ أَوْ يُؤَخِّرَ شَيْئًا، وَلَوْ كُنْتِ سَأَلْتِ اللَّهَ أَنْ يُعِيذَكِ مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ، أَوْ عَذَابٍ فِي الْقَبْرِ كَانَ خَيْرًا وَأَفْضَلَ» وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ مُخَصَّصَةٌ بِمَا وَرَدَ مِنْ قَبُولِ الدُّعَاءِ، وَأَنَّهُ يَعْتَلِجُ هُوَ وَالْقَضَاءُ، وَبِمَا وَرَدَ فِي صِلَةِ الرَّحِمِ أَنَّهَا تَزِيدُ فِي الْعُمُرِ، فَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ كَمَا قَدَّمْنَا. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ قَالَ: الْقِطْمِيرُ الْقِشْرُ، وَفِي لَفْظٍ: الجلد الذي يكون على ظهر النواة.
[سورة فاطر (35) : الآيات 15 الى 26]
يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (19)
وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (20) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (21) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَاّ نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَاّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (24)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (26)
ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ افْتِقَارَ خَلْقِهِ إِلَيْهِ، ومزيد حاجتهم إلى فضله، فقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ أَيِ: الْمُحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي جَمِيعِ أُمُورِ الدِّينِ والدنيا، فهم الفقراء إليه على الإطلاق وهُوَ الْغَنِيُّ عَلَى الْإِطْلَاقِ الْحَمِيدُ أَيِ: الْمُسْتَحِقُّ لِلْحَمْدِ مِنْ عِبَادِهِ بِإِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ نَوْعًا مِنَ الْأَنْوَاعِ الَّتِي يَتَحَقَّقُ عِنْدَهَا افْتِقَارُهُمْ إِلَيْهِ، وَاسْتِغْنَاؤُهُ عَنْهُمْ فَقَالَ: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ أَيْ:
إِنْ يَشَأْ يُفْنِكُمْ وَيَأْتِ بَدَلَكُمْ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ يُطِيعُونَهُ وَلَا يَعْصُونَهُ، أَوْ يَأْتِ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْخَلْقِ، وَعَالَمٍ مِنَ الْعَالَمِ غَيْرِ مَا تَعْرِفُونَ وَما ذلِكَ الإذهاب لَكُمْ وَالْإِتْيَانُ بِآخَرِينَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ أَيْ: بِمُمْتَنِعٍ وَلَا مُتَعَسِّرٍ، وَقَدْ مَضَى تَفْسِيرُ هَذَا فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أَيْ: نَفْسٌ وَازِرَةٌ فَحَذَفَ
الْمَوْصُوفَ لِلْعِلْمِ بِهِ، وَمَعْنَى تَزِرُ: تَحْمِلُ. وَالْمَعْنَى: لَا تَحْمِلُ نَفْسٌ حِمْلَ نَفْسٍ أُخْرَى، أَيْ: إِثْمَهَا بَلْ كُلُّ نَفْسٍ تَحْمِلُ وِزْرَهَا، وَلَا تُخَالِفُ هَذِهِ الْآيَةُ قَوْلَهُ: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ «1» لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا حَمَلُوا أَثْقَالَ إِضْلَالِهِمْ مَعَ أَثْقَالِ ضَلَالِهِمْ، وَالْكُلُّ مِنْ أَوْزَارِهِمْ، لَا مِنْ أَوْزَارِ غَيْرِهِمْ، وَمِثْلُ هَذَا حَدِيثُ «مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» فَإِنَّ الَّذِي سَنَّ السُّنَّةَ السَّيِّئَةَ إِنَّمَا حَمَلَ وِزْرَ سُنَّتِهِ السَّيِّئَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ مُسْتَوْفًى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها قَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ نَفْسٌ مُثْقَلَةٌ، قَالَ:
وَهَذَا يَقَعُ لِلْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ. قال الأخفش: وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِنْسَانًا إِلَى حِمْلِهَا، وَهُوَ ذُنُوبُهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ أَيْ: مِنْ حِمْلِهَا شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى أَيْ: وَلَوْ كَانَ الَّذِي تَدْعُوهُ ذَا قَرَابَةً لَهَا، لَمْ يَحْمِلْ مِنْ حِمْلِهَا شَيْئًا: وَمَعْنَى الْآيَةِ: وَإِنْ تَدْعُ نَفْسٌ مُثْقَلَةٌ بِالذُّنُوبِ نَفْسًا أُخْرَى إِلَى حِمْلِ شَيْءٍ مِنْ ذُنُوبِهَا مَعَهَا لَمْ تَحْمِلْ تِلْكَ الْمَدْعُوَّةُ مِنْ تِلْكَ الذُّنُوبِ شَيْئًا، وَلَوْ كَانَتْ قَرِيبَةً لَهَا فِي النَّسَبِ، فَكَيْفَ بِغَيْرِهَا مِمَّا لَا قَرَابَةَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الدَّاعِيَةِ لَهَا؟ وَقُرِئَ «ذُو قُرْبَى» عَلَى أَنَّ كَانَ تَامَّةٌ، كقوله: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ «2» وَجُمْلَةُ إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِبَيَانِ مَنْ يَتَّعِظُ بِالْإِنْذَارِ، وَمَعْنَى يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ أنه يَخْشَوْنَهُ حَالَ كَوْنِهِمْ غَائِبِينَ عَنْ عَذَابِهِ أَوْ يَخْشَوْنَ عَذَابَهُ وَهُوَ غَائِبٌ عَنْهُمْ، أَوْ يَخْشَوْنَهُ فِي الْخَلَوَاتِ عَنِ النَّاسِ.
قَالَ الزَّجَّاجُ: تَأْوِيلُهُ أَنَّ إِنْذَارَكَ إِنَّمَا يَنْفَعُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ، فَكَأَنَّكَ تُنْذِرُهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَا يَنْفَعُهُمُ الْإِنْذَارُ، كَقَوْلِهِ: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها «3» وَقَوْلِهِ: إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ «4» وَمَعْنَى: وَأَقامُوا الصَّلاةَ أَنَّهُمُ احْتَفَلُوا بِأَمْرِهَا، وَلَمْ يَشْتَغِلُوا عَنْهَا بِشَيْءٍ مِمَّا يُلْهِيهِمْ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ التَّزَكِّي: التَّطَهُّرُ مِنْ أَدْنَاسِ الشِّرْكِ وَالْفَوَاحِشِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ تَطَهَّرَ بِتَرْكِ الْمَعَاصِي وَاسْتَكْثَرَ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ فَإِنَّمَا يَتَطَهَّرُ لِنَفْسِهِ، لِأَنَّ نَفْعَ ذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِهِ، كَمَا أَنَّ وِزْرَ مَنْ تَدَنَّسَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَيْهِ لَا عَلَى غَيْرِهِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «وَمَنْ تزكّى فإنّما يتزكّى» وقرأ أبو عمرو «فإنّما يَزَّكَّى» بِإِدْغَامِ التَّاءِ فِي الزَّايِ وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَطَلْحَةُ «وَمَنِ ازَّكَّى فَإِنَّمَا يَزَّكَّى» وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ لَا إِلَى غَيْرِهِ، ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَوَّلًا أَنَّهُ لَا يَحْمِلُ أَحَدٌ ذَنْبَ أَحَدٍ، ثُمَّ ذَكَرَ ثَانِيًا أَنَّ الْمُذْنِبَ إِنْ دَعَا غَيْرَهُ وَلَوْ كَانَ مِنْ قَرَابَتِهِ إِلَى حَمْلِ شَيْءٍ مِنْ ذُنُوبِهِ لَا يَحْمِلُهُ، ثُمَّ ذَكَرَ ثَالِثًا أَنَّ ثَوَابَ الطَّاعَةِ مُخْتَصٌّ بِفَاعِلِهَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ مِنْهُ شَيْءٌ. ثُمَّ ضَرَبَ مَثَلًا لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ فَقَالَ: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى أَيِ: الْمَسْلُوبُ حَاسَّةَ الْبَصَرِ وَالْبَصِيرُ الَّذِي لَهُ مَلَكَةُ الْبَصَرِ، فَشَبَّهَ الْكَافِرَ بِالْأَعْمَى، وَشَبَّهَ الْمُؤْمِنَ بِالْبَصِيرِ وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ أَيْ: وَلَا تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ، فَشَبَّهَ الْبَاطِلَ بِالظُّلُمَاتِ، وَشَبَّهَ الْحَقَّ بِالنُّورِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: وَلَا فِي قَوْلِهِ: «وَلَا النُّورُ، وَلَا الْحَرُورُ» زَائِدَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا يَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ، وَلَا الظِّلُّ وَالْحَرُورُ، وَالْحَرُورُ: شِدَّةُ حَرِّ الشَّمْسِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: وَالْحَرُورُ لَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ شَمْسِ النَّهَارِ، وَالسَّمُومِ يَكُونُ بِاللَّيْلِ، وَقِيلَ عَكْسُهُ. وَقَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجَّاجِ: الْحَرُورُ يَكُونُ بِاللَّيْلِ خَاصَّةً، وَالسَّمُومُ يَكُونُ بِالنَّهَارِ خَاصَّةً. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: السَّمُومُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالنَّهَارِ، وَالْحَرُورُ يَكُونُ فِيهِمَا. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا أَصَحُّ. وقال قطرب: الحرور الحرّ، والظلّ البرد،
(1) . العنكبوت: 13.
(2)
. البقرة: 280.
(3)
. النازعات: 45.
(4)
. يس: 11.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يَسْتَوِي الظِّلُّ الَّذِي لَا حَرَّ فِيهِ وَلَا أَذًى، وَالْحَرُّ الَّذِي يُؤْذِي. قِيلَ: أَرَادَ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ، وَسُمِّيَ الْحَرُّ حَرُورًا مُبَالَغَةً فِي شِدَّةِ الْحَرِّ، لِأَنَّ زِيَادَةَ الْبِنَاءِ تَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ الْمَعْنَى: وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: أَرَادَ بِالظِّلِّ:
الْجَنَّةَ، وَبِالْحَرُورِ: النَّارَ. وَقَالَ عَطَاءٌ: يَعْنِي ظِلَّ اللَّيْلِ، وَشَمْسَ النَّهَارِ. قِيلَ: وَإِنَّمَا جَمَعَ الظُّلُمَاتِ، وَأَفْرَدَ النُّورَ، لِتَعَدُّدِ فُنُونِ الْبَاطِلِ، وَاتِّحَادِ الْحَقِّ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ تَمْثِيلًا آخَرَ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ فَقَالَ: وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ فَشَبَّهَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْأَحْيَاءِ، وَشَبَّهَ الْكَافِرِينَ بِالْأَمْوَاتِ، وَقِيلَ: أَرَادَ تَمْثِيلَ الْعُلَمَاءِ وَالْجَهَلَةِ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْأَحْيَاءُ: الْعُقَلَاءُ، وَالْأَمْوَاتُ: الْجُهَّالُ. قَالَ قَتَادَةُ: هَذِهِ كُلُّهَا أَمْثَالٌ: أَيْ كَمَا لَا تَسْتَوِي هَذِهِ الْأَشْيَاءُ كَذَلِكَ لَا يَسْتَوِي الْكَافِرُ وَالْمُؤْمِنُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ أَنْ يُسْمِعَهُ مِنْ أوليائه الذين خَلَقَهُمْ لِجَنَّتِهِ وَوَفَّقَهُمْ لِطَاعَتِهِ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ يَعْنِي: الْكُفَّارَ الَّذِينَ أَمَاتَ الْكُفْرُ قُلُوبَهُمْ، أَيْ: كَمَا لَا تُسْمِعُ مَنْ مَاتَ كَذَلِكَ لَا تُسْمِعُ مَنْ مَاتَ قَلْبُهُ، قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِتَنْوِينِ «مُسْمِعٍ» وَقَطْعِهِ عَنِ الْإِضَافَةِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَعِيسَى الثَّقَفِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ بإضافة إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ أَيْ: مَا أَنْتَ إلا رسول منذر ليس عليه إِلَّا الْإِنْذَارُ وَالتَّبْلِيغُ، وَالْهُدَى وَالضَّلَالَةُ بِيَدِ اللَّهِ عز وجل إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ يجوز أَنْ يَكُونَ بِالْحَقِّ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْفَاعِلِ، أَيْ: مُحِقِّينَ، أَوْ مِنَ المفعول، أي: محقا، أو:
نعت لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: إِرْسَالًا مُلْتَبِسًا بِالْحَقِّ، أَوْ هو متعلق ببشيرا، أَيْ: بَشِيرًا بِالْوَعْدِ الْحَقِّ، وَنَذِيرًا بِالْوَعْدِ الْحَقِّ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِلْمَصْدَرِ الْمَحْذُوفِ، وَيَكُونَ مَعْنَى بَشِيرًا: بَشِيرًا لِأَهْلِ الطَّاعَةِ، وَنَذِيرًا لِأَهْلِ الْمَعْصِيَةِ وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ أَيْ: مَا مِنْ أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ إِلَّا مَضَى فِيهَا نَذِيرٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ يُنْذِرُهَا، وَاقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ النَّذِيرِ دُونَ الْبَشِيرِ، لِأَنَّهُ أَلْصَقُ بِالْمَقَامِ، ثُمَّ سَلَّى نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم وَعَزَّاهُ، فَقَالَ:
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَيْ: كَذَّبَ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ أَنْبِيَاءَهُمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أَيْ: بِالْمُعْجِزَاتِ الْوَاضِحَةِ، وَالدَّلَالَاتِ الظَّاهِرَةِ وَبِالزُّبُرِ أَيِ: الْكُتُبِ الْمَكْتُوبَةِ كَصُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ كَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، قِيلَ: الْكِتَابُ الْمُنِيرُ دَاخِلٌ تَحْتَ الزُّبُرِ وتحت البينات، والعطف لتغاير المفهومات، وإن كنت مُتَّحِدَةً فِي الصِّدْقِ، وَالْأَوْلَى تَخْصِيصُ الْبَيِّنَاتِ بِالْمُعْجِزَاتِ، وَالزُّبُرِ بِالْكُتُبِ الَّتِي فِيهَا مَوَاعِظُ، وَالْكِتَابُ بِمَا فِيهِ شَرَائِعُ وَأَحْكَامٌ، ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَضْعُ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ يُفِيدُ التَّصْرِيحَ بِذَمِّهِمْ بِمَا فِي حَيِّزِ الصِّلَةِ، وَيُشْعِرُ بِعِلَّةِ الْأَخْذِ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أَيْ: فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِي عَلَيْهِمْ وَعُقُوبَتِي لَهُمْ، وَقَرَأَ وَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ، وشيبة بإثبات الياء في «نكير» وصلا لا وَقْفًا، وَقَدْ مَضَى بَيَانُ مَعْنَى هَذَا قَرِيبًا.
وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْأَحْوَصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ «أَلَا لَا يَجْنِي جَانٍ إِلَّا عَلَى نَفْسِهِ، لَا يَجْنِي وَالِدٌ عَلَى وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ عَلَى وَالِدِهِ» وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي رَمْثَةَ قَالَ: انْطَلَقْتُ مَعَ أَبِي نَحْوَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا رَأَيْتُهُ قَالَ لِأَبِي: ابْنُكَ هَذَا؟ قَالَ: أَيْ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، قَالَ: أَمَا أَنَّهُ لَا يَجْنِي عَلَيْكَ، وَلَا تَجْنِي عَلَيْهِ، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى