الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ قَالَ: الْجَوَارِي الضَّارِبَاتُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ أَبِي الصَّهْبَاءِ قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ عَنْ قَوْلِهِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ قَالَ: هُوَ وَاللَّهِ الْغِنَاءُ. وَلَفْظُ ابْنِ جَرِيرٍ: هُوَ الْغِنَاءُ وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، يُرَدِّدُهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَأَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا تَبِيعُوا الْقَيْنَاتِ وَلَا تَشْتَرُوهُنَّ، وَلَا خَيْرَ فِي تِجَارَةٍ فِيهِنَّ، وَثَمَنُهُنَّ حَرَامٌ» فِي مِثْلِ هَذَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ الْآيَةَ، وَفِي إسناده عبيد الله بْنُ زَحْرٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَفِيهِمْ ضَعْفٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي ذَمِّ الْمَلَاهِي، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْقَيْنَةَ وَبَيْعَهَا وَثَمَنَهَا وَتَعْلِيمَهَا وَالِاسْتِمَاعَ إِلَيْهَا، ثُمَّ قَرَأَ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الْغِنَاءُ يُنْبِتُ النِّفَاقَ كَمَا يُنْبِتُ الْمَاءُ الْبَقْلَ» وَرَوَيَاهُ عَنْهُ مَوْقُوفًا، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَا رَفَعَ أَحَدٌ صَوْتَهُ بِغِنَاءٍ إِلَّا بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِ شَيْطَانَيْنِ يَجْلِسَانِ عَلَى مَنْكِبَيْهِ يَضْرِبَانِ بِأَعْقَابِهِمَا عَلَى صَدْرِهِ حَتَّى يُمْسِكَ» .
وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ فِي كُلِّ حَدِيثٍ مِنْهَا مَقَالٌ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ قال: الرجل يشتري جارية تغنيه لَيْلًا وَنَهَارًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ في قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ:
إِنَّمَا ذَلِكَ شِرَاءُ الرَّجُلِ اللَّعِبَ وَالْبَاطِلَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: كُنْتُ أسير مع عبد الله ابن عُمَرَ فِي طَرِيقٍ، فَسَمِعَ زَمَّارَةً فَوَضَعَ إِصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ، ثُمَّ عَدَلَ عَنِ الطَّرِيقِ، فَلَمْ يَزَلْ يَقُولُ يَا نَافِعُ أَتَسْمَعُ؟ قُلْتُ: لَا. فَأَخْرَجَ أُصْبُعَيْهِ مِنْ أُذُنَيْهِ وَقَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَنَعَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: «نُهِيتُ عَنْ صَوْتَيْنِ أَحْمَقَيْنِ فَاجِرَيْنِ: صَوْتٍ عِنْدَ نَغَمَةِ لَهْوٍ، وَمَزَامِيرِ شَيْطَانٍ، وَصَوْتٍ عِنْدَ مُصِيبَةٍ، خمش وجوه، وشقّ جيوب، ورنّة شيطان» .
[سورة لقمان (31) : الآيات 12 الى 19]
وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يَا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)
يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى مَا أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)
اخْتُلِفَ فِي لُقْمَانَ: هَلْ هُوَ عَجَمِيٌّ، أَمْ عَرَبِيٌّ؟ مُشْتَقٌّ مِنَ اللُّقَمِ، فَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ عَجَمِيٌّ مَنَعَهُ لِلتَّعْرِيفِ وَالْعُجْمَةِ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ عَرَبِيٌّ مَنَعَهُ لِلتَّعْرِيفِ، وَلِزِيَادَةِ الْأَلِفِ وَالنُّونِ. وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا: هُوَ نَبِيٌّ، أَمْ رَجُلٌ صَالِحٌ؟ فَذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِنَبِيٍّ. وَحَكَى الْوَاحِدِيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ، وَالسُّدِّيِّ وَالشَّعْبِيِّ أَنَّهُ كَانَ نَبِيًّا، وَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ لِمَا سَيَأْتِي فِي آخِرِ الْبَحْثِ. وَقِيلَ: لَمْ يَقُلْ بِنُبُوَّتِهِ إِلَّا عِكْرِمَةُ فَقَطْ، مَعَ أَنَّ الرَّاوِيَ لِذَلِكَ عَنْهُ جَابِرٌ الْجُعْفِيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا. وَهُوَ لُقْمَانُ بن باعور ابن نَاحُورَ بْنِ تَارِخْ، وَهُوَ آزَرُ أَبُو إِبْرَاهِيمَ، وقيل: هو لقمان بن عنقا بن مرون، وَكَانَ نُوبِيًّا مِنْ أَهْلِ أَيْلَةَ، ذَكَرَهُ السُّهَيْلِيُّ. قَالَ وَهْبٌ: هُوَ ابْنُ أُخْتِ أَيُّوبَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ ابْنُ خَالَتِهِ، عَاشَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَأَخَذَ عَنْهُ الْعِلْمَ، وَكَانَ يُفْتِي قَبْلَ مَبْعَثِ دَاوُدَ، فَلَمَّا بُعِثَ دَاوُدُ قَطَعَ الْفَتْوَى، فَقِيلَ لَهُ، فَقَالَ: أَلَا أَكْتَفِي إِذْ كُفِيتُ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: كَانَ قَاضِيًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَالْحِكْمَةُ الَّتِي آتَاهُ اللَّهُ: هِيَ الْفِقْهُ، وَالْعَقْلُ، وَالْإِصَابَةُ فِي الْقَوْلِ، وَفَسَّرَ الْحِكْمَةَ مَنْ قَالَ بِنُبُوَّتِهِ: بِالنُّبُوَّةِ أَنِ اشْكُرْ لِي أَنْ هِيَ الْمُفَسِّرَةُ، لِأَنَّ فِي إِيتَاءِ الْحِكْمَةِ: مَعْنَى الْقَوْلِ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ قُلْنَا لَهُ: أَنِ اشْكُرْ لِي. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ لِأَنِ اشْكُرْ لِي. وَقِيلَ بِأَنِ اشْكُرْ لِي، فَشَكَرَ، فَكَانَ حَكِيمًا بِشُكْرِهِ، وَالشُّكْرُ لِلَّهِ الثَّنَاءُ عَلَيْهِ فِي مُقَابَلَةِ النِّعْمَةِ، وَطَاعَتِهِ فِيمَا أُمِرَ بِهِ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الشُّكْرَ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ إِلَّا الشَّاكِرُ، فَقَالَ: وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ لِأَنَّ نَفْعَ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَيْهِ، وَفَائِدَتَهُ حَاصِلَةٌ لَهُ، إِذْ بِهِ تُسْتَبْقَى النِّعْمَةُ، وَبِسَبَبِهِ يُسْتَجْلَبُ الْمَزِيدُ لَهَا مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ أَيْ:
مَنْ جَعَلَ كُفْرَ النِّعَمِ مَكَانَ شُكْرِهَا، فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ شُكْرِهِ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ حَمِيدٌ مُسْتَحِقٌّ لِلْحَمْدِ مِنْ خَلْقِهِ لِإِنْعَامِهِ عَلَيْهِمْ بِنِعَمِهِ الَّتِي لَا يُحَاطُ بِقَدْرِهَا، وَلَا يُحْصَرُ عَدَدُهَا، وَإِنْ لَمْ يَحْمَدْهُ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ، فَإِنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ نَاطِقٌ بِحَمْدِهِ بِلِسَانِ الْحَالِ. قَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ: غَنِيٌّ عَنْ خَلْقِهِ حَمِيدٌ فِي فِعْلِهِ وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ قَالَ السُّهَيْلِيُّ: اسْمُ ابْنِهِ ثَارَانَ فِي قَوْلِ ابن جرير والقتبي وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: مِشْكَمُ. وَقَالَ النَّقَاشُ: أَنْعَمُ. وَقِيلَ:
مَاتَانَ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: كَانَ ابْنُهُ وَامْرَأَتُهُ كَافِرَيْنِ، فَمَا زَالَ يَعِظُهُمَا حَتَّى أَسْلَمَا، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَالتَّقْدِيرُ: آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ حِينَ جَعَلْنَاهُ شَاكِرًا فِي نَفْسِهِ، وَحِينَ جَعَلْنَاهُ وَاعِظًا لِغَيْرِهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: إِذْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِآتَيْنَا. وَالْمَعْنَى: وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ إِذْ قَالَ: قَالَ النَّحَّاسُ: وَأَحْسَبُهُ غَلَطًا لِأَنَّ فِي الْكَلَامِ وَاوًا، وَهِيَ تَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَمَعْنَى: وَهُوَ يَعِظُهُ يُخَاطِبُهُ بِالْمَوَاعِظِ الَّتِي ترغّبه في التوحيد وتصدّه عن الشّرك يا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِكَسْرِ الْيَاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ بِإِسْكَانِهَا. وَقَرَأَ حَفْصٌ بِفَتْحِهَا، وَنَهْيُهُ عَنِ الشِّرْكِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ كَافِرًا كَمَا تَقَدَّمَ، وَجُمْلَةُ: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا، وَبَدَأَ فِي وَعْظِهِ بِنَهْيِهِ عَنِ الشِّرْكِ لِأَنَّهُ أَهَمُّ مِنْ غَيْرِهِ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ، فَقِيلَ: هِيَ مِنْ كَلَامِ لُقْمَانَ، وَقِيلَ: هِيَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ، فَتَكُونُ مُنْقَطِعَةً عَمَّا قَبْلَهَا. وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهَا لَمَّا نزلت: وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ «1» شق ذلك
(1) . الأنعام: 82.
عَلَى الصَّحَابَةِ، وَقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ فَطَابَتْ أَنْفُسُهُمْ.
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ هَذِهِ الْوَصِيَّةُ بِالْوَالِدَيْنِ، وَمَا بَعْدَهَا إِلَى قَوْلِهِ: بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ كَلَامِ لُقْمَانَ لِقَصْدِ التَّأْكِيدِ لِمَا فيها مِنَ النَّهْيِ عَنِ الشِّرْكِ بِاللَّهِ، وَتَفْسِيرُ التَّوْصِيَةِ هِيَ قَوْلُهُ: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ وَمَا بَيْنَهُمَا: اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْمُفَسِّرِ وَالْمُفَسَّرِ، وَفِي جَعْلِ الشُّكْرِ لَهُمَا مُقْتَرِنًا بِالشُّكْرِ لِلَّهِ: دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ حَقَّهُمَا مِنْ أَعْظَمِ الْحُقُوقِ عَلَى الْوَلَدِ، وَأَكْبَرِهَا، وَأَشَدِّهَا وُجُوبًا، وَمَعْنَى حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ أَنَّهَا حَمَلَتْهُ فِي بَطْنِهَا، وَهِيَ تَزْدَادُ كُلِّ يَوْمٍ ضَعْفًا عَلَى ضَعْفٍ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: إِنَّ الْمَرْأَةَ ضَعِيفَةُ الْخِلْقَةِ، ثُمَّ يُضْعِفُهَا الْحَمْلُ، وَانْتِصَابُ وَهْنًا: عَلَى الْمَصْدَرِ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ بِإِسْقَاطِ الْحَرْفِ، أَيْ:
حَمَلَتْهُ بِضَعْفٍ عَلَى ضَعْفٍ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى لَزِمَهَا بِحَمْلِهَا إِيَّاهُ أَنْ تَضْعُفَ، مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وَقِيلَ انْتِصَابُهُ عَلَى الْحَالِ مِنْ أُمِّهِ وَ «عَلَى وَهْنٍ» : صِفَةٌ لِوَهْنًا، أَيْ: وَهْنًا كَائِنًا عَلَى وَهْنٍ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِسُكُونِ الْهَاءِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. وَقَرَأَ عِيسَى الثَّقَفِيُّ وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي عَمْرٍو بِفَتْحِهِمَا وَهُمَا: لُغَتَانِ. قَالَ قَعْنَبٌ:
هَلْ لِلْعَوَاذِلِ مِنْ نَاهٍ فَيَزْجُرُهَا
…
إِنَّ الْعَوَاذِلَ فِيهَا الْأَيْنُ وَالْوَهْنُ
وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ الْفِصَالُ: الْفِطَامُ، وَهُوَ: أَنْ يُفْصَلَ الْوَلَدُ عَنِ الْأُمِّ، وَهُوَ: مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ:
الظَّرْفُ. وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَالْحَسَنُ، وَيَعْقُوبُ «وَفَصْلُهُ» وَهُمَا لُغَتَانِ، يُقَالُ انْفَصَلَ عَنْ كَذَا: أَيْ: تَمَيَّزَ، وبه سمي الفصيل. وقد قدّمنا أن أمه فِي قَوْلِهِ: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ هِيَ الْمُفَسِّرَةُ.
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هِيَ مَصْدَرِيَّةٌ. وَالْمَعْنَى: بِأَنِ اشْكُرْ لِي. قَالَ النَّحَّاسُ: وَأَجْوَدُ مِنْهُ أَنْ تَكُونَ أَنْ مُفَسِّرَةً، وَجُمْلَةُ:
إِلَيَّ الْمَصِيرُ تَعْلِيلٌ لِوُجُوبِ امْتِثَالِ الْأَمْرِ، أَيِ: الرُّجُوعِ إِلَيَّ لَا إِلَى غَيْرِي وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ أَيْ: مَا لَا عِلْمَ لَكَ بِشَرِكَتِهِ فَلا تُطِعْهُما فِي ذَلِكَ. وَقَدْ قَدَّمْنَا تَفْسِيرَ الْآيَةِ، وَسَبَبَ نُزُولِهَا فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ، وَانْتِصَابُ مَعْرُوفاً: عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: وَصَاحِبْهُمَا صِحَابًا مَعْرُوفًا، وَقِيلَ: هُوَ مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، وَالتَّقْدِيرُ بِمَعْرُوفٍ وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ أَيِ:
اتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ رَجَعَ إِلَيَّ مِنْ عِبَادِي الصَّالِحِينَ بِالتَّوْبَةِ وَالْإِخْلَاصِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا لَا إِلَى غَيْرِي فَأُنَبِّئُكُمْ أَيْ: أَخْبِرُكُمْ عِنْدَ رُجُوعِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، فَأُجَازِيَ كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ.
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذَا السِّيَاقَ مِنْ قَوْلِهِ: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ إِلَى هُنَا: مِنْ كَلَامِ لُقْمَانَ، فَلَا يَكُونُ اعْتِرَاضًا، وَفِيهِ بُعْدٌ. ثُمَّ شَرَعَ سُبْحَانَهُ فِي حِكَايَةِ بَقِيَّةِ كَلَامِ لُقْمَانَ فِي وَعْظِهِ لِابْنِهِ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ الضَّمِيرُ فِي إِنَّهَا: عَائِدٌ إِلَى الْخَطِيئَةِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ لُقْمَانَ قَالَ لِأَبِيهِ: يَا أَبَتِ إِنْ عَمِلْتُ الْخَطِيئَةَ حَيْثُ لَا يَرَانِي أَحَدٌ هَلْ يَعْلَمُهَا اللَّهُ؟ فَقَالَ إِنَّهَا: أَيِ الْخَطِيئَةُ، وَالْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ: مُفَسِّرَةٌ لِلضَّمِيرِ، أَيْ: إِنَّ الْخَطِيئَةَ إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: التَّقْدِيرُ إِنَّ الَّتِي سَأَلْتَنِي عَنْهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خردل، وعبر بالخردلة لأنها أَصْغَرُ الْحُبُوبِ، وَلَا يُدْرَكُ بِالْحِسِّ ثِقْلُهَا، وَلَا تُرَجِّحُ مِيزَانًا. وَقِيلَ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي «إِنَّهَا» رَاجِعٌ إِلَى الْخَصْلَةِ مِنَ الْإِسَاءَةِ، وَالْإِحْسَانِ، أَيْ: إِنَّ الْخَصْلَةَ مِنَ الْإِسَاءَةِ وَالْإِحْسَانِ إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ إِلَخْ، ثُمَّ زَادَ فِي بَيَانِ خَفَاءِ الْحَبَّةِ مَعَ خِفَّتِهَا فَقَالَ: فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ فَإِنَّ كَوْنَهَا فِي الصَّخْرَةِ قَدْ صَارَتْ
فِي أَخْفَى مَكَانٍ وَأَحْرَزِهِ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ أَيْ: أَوْ حَيْثُ كَانَتْ من بقاع السموات أَوْ مِنْ بِقَاعِ الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ أَيْ: يُحْضِرُهَا، وَيُحَاسِبُ فَاعِلَهَا عَلَيْهَا إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ. بَلْ يَصِلُ عِلْمُهُ إِلَى كُلِّ خَفِيٍّ خَبِيرٌ بِكُلِّ شَيْءٍ لَا يَغِيبُ عَنْهُ شَيْءٌ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «إِنْ تَكُ» بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى مَعْنَى إِنْ تَكُ الْخَطِيئَةُ أَوِ الْمَسْأَلَةُ أَوِ الْخَصْلَةُ أَوِ الْقِصَّةُ. وَقَرَءُوا «مِثْقَالَ» بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ.
وَاسْمُهَا هُوَ أَحَدُ تِلْكَ الْمُقَدَّرَاتِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ بِرَفْعِ مِثْقَالَ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ كَانَ، وَهِيَ تَامَّةٌ. وَأَنَّثَ الْفِعْلَ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ لِإِضَافَةِ مِثْقَالٍ إِلَى الْمُؤَنَّثِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ «فَتَكُنْ» بِضَمِّ الْكَافِ. وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ بِكَسْرِهَا وَتَشْدِيدِ النُّونِ، مِنَ الْكَنِّ الَّذِي هُوَ الشَّيْءُ الْمُغَطَّى. قَالَ السُّدِّيُّ: هَذِهِ الصخرة هي صخرة ليست في السموات وَلَا فِي الْأَرْضِ. ثُمَّ حَكَى سُبْحَانَهُ عَنْ لُقْمَانَ أَنَّهُ أَمَرَ ابْنَهُ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالصَّبْرِ عَلَى الْمُصِيبَةِ. وَوَجْهُ تَخْصِيصِ هَذِهِ الطَّاعَاتِ: أَنَّهَا أُمَّهَاتُ الْعِبَادَاتِ، وَعِمَادُ الْخَيْرِ كُلَّهِ. وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ ذلِكَ إِلَى الطَّاعَاتِ الْمَذْكُورَةِ، وَخَبَرُ إِنَّ: قَوْلُهُ: مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ أَيْ: مِمَّا جَعَلَهُ اللَّهُ عَزِيمَةً، وَأَوْجَبَهُ عَلَى عِبَادِهِ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: مِنْ حَقِّ الْأُمُورِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا. وَالْعَزْمُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْمَعْزُومِ، أَيْ: مِنْ مَعْزُومَاتِ الْأُمُورِ، أَوْ بِمَعْنَى الْعَازِمِ كَقَوْلِهِ: فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ «1» قَالَ الْمُبَرِّدُ: إِنَّ الْعَيْنَ تُبْدَلُ حَاءً. فَيُقَالُ عَزْمٌ وَحَزْمٌ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ مَكَارِمِ أَهْلِ الْأَخْلَاقِ، وَعَزَائِمِ أَهْلِ الْحَزْمِ السَّالِكِينَ طَرِيقَ النَّجَاةِ، وَصَوَّبَ هذا القرطبي وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ «تُصَعِّرْ» وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٍ «تُصَاعِرْ» ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ، وَالصَّعَرُ: الْمَيْلُ، يُقَالُ صَعَّرَ خَدَّهُ وَصَاعَرَ خَدَّهُ: إِذَا أَمَالَ وَجْهَهُ، وَأَعْرَضَ تَكَبُّرًا، وَالْمَعْنَى: لَا تُعْرِضْ عَنِ النَّاسِ تَكَبُّرًا عَلَيْهِمْ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَكُنَّا إِذَا الْجَبَّارُ صَعَّرَ خَدَّهُ
…
مَشَيْنَا إِلَيْهِ بِالسُّيُوفِ نُعَاتِبُهْ
وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ هَكَذَا:
وَكُنَّا إِذَا الْجَبَّارُ صَعَّرَ خَدَّهُ
…
أَقَمْنَا لَهُ مِنْ مَيْلِهِ فَتَقَوَّمَا «2»
قَالَ الْهَرَوِيُّ وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ أَيْ: لَا تُعْرِضْ عَنْهُمْ تَكَبُّرًا، يُقَالُ أَصَابَ الْبَعِيرَ صَعَرٌ: إِذَا أَصَابَهُ دَاءٌ يَلْوِي عُنُقَهُ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: وَلَا تَلْوِ شِدْقَكَ إِذَا ذُكِرَ الرَّجُلُ عِنْدَكَ كَأَنَّكَ تَحْتَقِرُهُ. وَقَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مِنْدَادَ: كَأَنَّهُ نَهَى أَنْ يُذِلَّ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، وَلَعَلَّهُ فَهِمَ مِنَ التَّصْعِيرِ التَّذَلُّلَ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً أَيْ: خُيَلَاءَ وَفَرِحًا، وَالْمَعْنَى: النَّهْيُ عَنِ التَّكَبُّرِ، وَالتَّجَبُّرِ، وَالْمُخْتَالُ يَمْرَحُ فِي مَشْيِهِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ، جملة إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ: تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ لِأَنَّ الِاخْتِيَالَ: هُوَ الْمَرَحُ، وَالْفَخُورُ: هو الذي يفتخر على الناس بماله مِنَ الْمَالِ، أَوِ الشَّرَفِ، أَوِ الْقُوَّةِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَلَيْسَ مِنْهُ: التَّحَدُّثُ بِنِعَمِ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ «3» وَاقْصِدْ فِي
(1) . محمّد: 21.
(2)
. قال ابن عطية: فتقوّم لأن قافية الشعر مخفوضة، والمعنى: فتقوّم أنت. القرطبي (14/ 69) .
(3)
. الضحى: 11.
مَشْيِكَ أَيْ: تَوَسَّطْ فِيهِ، وَالْقَصْدُ: مَا بَيْنَ الْإِسْرَاعِ وَالْبُطْءِ. يُقَالُ قَصَدَ فُلَانٌ فِي مِشْيَتِهِ إِذَا مَشَى مُسْتَوِيًا لَا يَدِبُّ دَبِيبَ الْمُتَمَاوِتِينَ، وَلَا يَثِبُ وُثُوبَ الشَّيَاطِينِ. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا مَشَى أَسْرَعَ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُحْمَلَ الْقَصْدُ هُنَا عَلَى مَا جَاوَزَ الْحَدَّ فِي السُّرْعَةِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: مَعْنَاهُ لَا تَخْتَلَّ فِي مِشْيَتِكَ. وَقَالَ عَطَاءٌ: امْشِ بِالْوَقَارِ والسكينة. كقوله: يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً «1» وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ أَيِ:
انْقُصْ مِنْهُ، وَاخْفِضْهُ، وَلَا تَتَكَلَّفْ رَفْعَهُ، فَإِنَّ الْجَهْرَ بِأَكْثَرَ مِنَ الْحَاجَةِ يُؤْذِي السَّامِعَ. وَجُمْلَةُ: إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِالْغَضِّ مِنَ الصَّوْتِ، أَيْ: أَوْحَشُهَا، وَأَقْبَحُهَا. قَالَ قَتَادَةُ: أَقْبَحُ الْأَصْوَاتِ صَوْتُ الْحَمِيرِ أَوَّلُهُ زَفِيرٌ، وَآخِرُهُ شَهِيقٌ قَالَ الْمُبَرِّدُ: تَأْوِيلُهُ إِنَّ الْجَهْرَ بِالصَّوْتِ لَيْسَ بِمَحْمُودٍ، وَإِنَّهُ دَاخِلٌ فِي بَابِ الصَّوْتِ الْمُنْكَرِ، وَاللَّامُ فِي لَصَوْتُ: لِلتَّأْكِيدِ، وَوَحَّدَ الصَّوْتَ مَعَ كَوْنِهِ مُضَافًا إِلَى الْجَمْعِ:
لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى الْكَثْرَةِ، وَهُوَ مَصْدَرُ صَاتَ يَصُوتُ صَوْتًا فَهُوَ صَائِتٌ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَتَدْرُونَ مَا كَانَ لُقْمَانُ؟ قَالُوا:
اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: كَانَ حَبَشِيًّا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الْمَمْلُوكِينَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ لُقْمَانُ عَبْدًا حَبَشِيًّا نَجَّارًا.
وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي الضُّعَفَاءِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «اتَّخِذُوا السُّودَانَ، فَإِنَّ ثَلَاثَةً مِنْهُمْ سَادَاتُ أَهْلِ الْجَنَّةِ: لُقْمَانَ الْحَكِيمَ، وَالنَّجَاشِيَّ، وَبِلَالَ الْمُؤَذِّنَ» . قَالَ الطَّبَرَانِيُّ:
أَرَادَ الْحَبَشَةَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ يَعْنِي: الْعَقْلَ، وَالْفَهْمَ، وَالْفِطْنَةَ فِي غَيْرِ نُبُوَّةٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ كَانَ نَبِيًّا، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الرَّاوِيَ عَنْهُ جَابِرُ الْجُعْفِيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ فِي الْكُنَى، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنَّ لُقْمَانَ الْحَكِيمَ كَانَ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ إِذَا اسْتُودِعَ شَيْئًا حَفِظَهُ» وَقَدْ ذَكَرَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ رِوَايَاتٍ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ تَتَضَمَّنُ كَلِمَاتٍ مِنْ مَوَاعِظِ لُقْمَانَ، وَحِكَمِهِ، وَلَمْ يَصِحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، وَلَا ثَبْتَ إِسْنَادٌ صَحِيحٌ إِلَى لُقْمَانَ بِشَيْءٍ مِنْهَا حَتَّى نَقْبَلَهُ. وقد حكى سُبْحَانَهُ مِنْ مَوَاعِظِهِ لِابْنِهِ مَا حَكَاهُ فِي هذا الوضع، وَفِيهِ كِفَايَةٌ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يَصِحَّ فَلَيْسَ فِي ذِكْرِهِ إِلَّا شَغْلَةٌ لِلْحَيِّزِ، وَقَطِيعَةٌ لِلْوَقْتِ، وَلَمْ يَكُنْ نَبِيًّا حَتَّى يَكُونَ مَا نُقِلَ عَنْهُ مِنْ شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا، وَلَا صَحَّ إِسْنَادُ مَا رُوِيَ عَنْهُ مِنَ الْكَلِمَاتِ حَتَّى يَكُونَ ذِكْرُ ذَلِكَ مِنْ تَدْوِينِ كَلِمَاتِ الْحِكْمَةِ الَّتِي هِيَ: ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ. وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: أُنْزِلَتْ فِيَّ هَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ هَذَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَهْناً عَلى وَهْنٍ قَالَ: شِدَّةً بَعْدَ شِدَّةٍ، وَخَلْقًا بَعْدَ خَلْقٍ: وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ عَدِيٍّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عن أبي أيوب الأنصاري
(1) . الفرقان: 63. [.....]