المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة الفرقان (25) : الآيات 45 الى 54] - فتح القدير للشوكاني - جـ ٤

[الشوكاني]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الرابع

- ‌سورة النّور

- ‌[سورة النور (24) : الآيات 1 الى 3]

- ‌[سورة النور (24) : الآيات 4 الى 10]

- ‌[سورة النور (24) : الآيات 11 الى 21]

- ‌[سورة النور (24) : الآيات 22 الى 26]

- ‌[سورة النور (24) : الآيات 27 الى 29]

- ‌[سورة النور (24) : الآيات 30 الى 31]

- ‌[سورة النور (24) : الآيات 32 الى 34]

- ‌[سورة النور (24) : الآيات 35 الى 38]

- ‌[سورة النور (24) : الآيات 39 الى 46]

- ‌[سورة النور (24) : الآيات 47 الى 57]

- ‌[سورة النور (24) : الآيات 58 الى 61]

- ‌[سورة النور (24) : الآيات 62 الى 64]

- ‌سورة الفرقان

- ‌[سورة الفرقان (25) : الآيات 1 الى 6]

- ‌[سورة الفرقان (25) : الآيات 7 الى 16]

- ‌[سورة الفرقان (25) : الآيات 17 الى 24]

- ‌[سورة الفرقان (25) : الآيات 25 الى 34]

- ‌[سورة الفرقان (25) : الآيات 35 الى 44]

- ‌[سورة الفرقان (25) : الآيات 45 الى 54]

- ‌[سورة الفرقان (25) : الآيات 55 الى 67]

- ‌[سورة الفرقان (25) : الآيات 68 الى 77]

- ‌سورة الشّعراء

- ‌[سورة الشعراء (26) : الآيات 1 الى 22]

- ‌[سورة الشعراء (26) : الآيات 23 الى 51]

- ‌[سورة الشعراء (26) : الآيات 52 الى 68]

- ‌[سورة الشعراء (26) : الآيات 69 الى 104]

- ‌[سورة الشعراء (26) : الآيات 105 الى 135]

- ‌[سورة الشعراء (26) : الآيات 136 الى 159]

- ‌[سورة الشعراء (26) : الآيات 160 الى 191]

- ‌[سورة الشعراء (26) : الآيات 192 الى 227]

- ‌سورة النّمل

- ‌[سورة النمل (27) : الآيات 1 الى 14]

- ‌[سورة النمل (27) : الآيات 15 الى 26]

- ‌[سورة النمل (27) : الآيات 27 الى 40]

- ‌[سورة النمل (27) : الآيات 41 الى 44]

- ‌[سورة النمل (27) : الآيات 45 الى 53]

- ‌[سورة النمل (27) : الآيات 54 الى 66]

- ‌[سورة النمل (27) : الآيات 67 الى 82]

- ‌[سورة النمل (27) : الآيات 83 الى 93]

- ‌سورة القصص

- ‌[سورة القصص (28) : الآيات 1 الى 13]

- ‌[سورة القصص (28) : الآيات 14 الى 24]

- ‌[سورة القصص (28) : الآيات 25 الى 32]

- ‌[سورة القصص (28) : الآيات 33 الى 43]

- ‌[سورة القصص (28) : الآيات 44 الى 57]

- ‌[سورة القصص (28) : الآيات 58 الى 70]

- ‌[سورة القصص (28) : الآيات 71 الى 88]

- ‌سورة العنكبوت

- ‌[سورة العنكبوت (29) : الآيات 1 الى 13]

- ‌[سورة العنكبوت (29) : الآيات 14 الى 27]

- ‌[سورة العنكبوت (29) : الآيات 28 الى 40]

- ‌[سورة العنكبوت (29) : الآيات 41 الى 46]

- ‌[سورة العنكبوت (29) : الآيات 47 الى 55]

- ‌[سورة العنكبوت (29) : الآيات 56 الى 69]

- ‌سورة الرّوم

- ‌[سورة الروم (30) : الآيات 1 الى 10]

- ‌[سورة الروم (30) : الآيات 11 الى 27]

- ‌[سورة الروم (30) : الآيات 28 الى 37]

- ‌[سورة الروم (30) : الآيات 38 الى 46]

- ‌[سورة الروم (30) : الآيات 47 الى 60]

- ‌سورة لقمان

- ‌[سورة لقمان (31) : الآيات 1 الى 11]

- ‌[سورة لقمان (31) : الآيات 12 الى 19]

- ‌[سورة لقمان (31) : الآيات 20 الى 28]

- ‌[سورة لقمان (31) : الآيات 29 الى 34]

- ‌سورة السّجدة

- ‌[سورة السجده (32) : الآيات 1 الى 11]

- ‌[سورة السجده (32) : الآيات 12 الى 22]

- ‌[سورة السجده (32) : الآيات 23 الى 30]

- ‌سُورَةِ الْأَحْزَابِ

- ‌[سورة الأحزاب (33) : الآيات 1 الى 6]

- ‌[سورة الأحزاب (33) : الآيات 7 الى 17]

- ‌[سورة الأحزاب (33) : الآيات 18 الى 25]

- ‌[سورة الأحزاب (33) : الآيات 26 الى 27]

- ‌[سورة الأحزاب (33) : الآيات 28 الى 34]

- ‌[سورة الأحزاب (33) : الآيات 35 الى 36]

- ‌[سورة الأحزاب (33) : الآيات 37 الى 40]

- ‌[سورة الأحزاب (33) : الآيات 41 الى 48]

- ‌[سورة الأحزاب (33) : الآيات 49 الى 52]

- ‌[سورة الأحزاب (33) : الآيات 53 الى 55]

- ‌[سورة الأحزاب (33) : الآيات 56 الى 58]

- ‌[سورة الأحزاب (33) : الآيات 59 الى 68]

- ‌[سورة الأحزاب (33) : الآيات 69 الى 73]

- ‌سُورَةِ سَبَأٍ

- ‌[سورة سبإ (34) : الآيات 1 الى 9]

- ‌[سورة سبإ (34) : الآيات 10 الى 14]

- ‌[سورة سبإ (34) : الآيات 15 الى 21]

- ‌[سورة سبإ (34) : الآيات 22 الى 27]

- ‌[سورة سبإ (34) : الآيات 28 الى 33]

- ‌[سورة سبإ (34) : الآيات 34 الى 42]

- ‌[سورة سبإ (34) : الآيات 43 الى 50]

- ‌[سورة سبإ (34) : الآيات 51 الى 54]

- ‌سُورَةِ فَاطِرٍ

- ‌[سورة فاطر (35) : الآيات 1 الى 8]

- ‌[سورة فاطر (35) : الآيات 9 الى 14]

- ‌[سورة فاطر (35) : الآيات 15 الى 26]

- ‌[سورة فاطر (35) : الآيات 27 الى 35]

- ‌[سورة فاطر (35) : الآيات 36 الى 45]

- ‌سُورَةِ يس

- ‌[سورة يس (36) : الآيات 1 الى 12]

- ‌[سورة يس (36) : الآيات 13 الى 27]

- ‌[سورة يس (36) : الآيات 28 الى 40]

- ‌[سورة يس (36) : الآيات 41 الى 54]

- ‌[سورة يس (36) : الآيات 55 الى 70]

- ‌[سورة يس (36) : الآيات 71 الى 83]

- ‌سُورَةِ الصَّافَّاتِ

- ‌[سورة الصافات (37) : الآيات 1 الى 19]

- ‌[سورة الصافات (37) : الآيات 20 الى 49]

- ‌[سورة الصافات (37) : الآيات 50 الى 74]

- ‌[سورة الصافات (37) : الآيات 75 الى 113]

- ‌[سورة الصافات (37) : الآيات 114 الى 148]

- ‌[سورة الصافات (37) : الآيات 149 الى 182]

- ‌سورة ص

- ‌[سورة ص (38) : الآيات 1 الى 11]

- ‌[سورة ص (38) : الآيات 12 الى 25]

- ‌[سورة ص (38) : الآيات 26 الى 33]

- ‌[سورة ص (38) : الآيات 34 الى 40]

- ‌[سورة ص (38) : الآيات 41 الى 54]

- ‌[سورة ص (38) : الآيات 55 الى 70]

- ‌[سورة ص (38) : الآيات 71 الى 88]

- ‌سورة الزّمر

- ‌[سورة الزمر (39) : الآيات 1 الى 6]

- ‌[سورة الزمر (39) : الآيات 7 الى 12]

- ‌[سورة الزمر (39) : الآيات 13 الى 20]

- ‌[سورة الزمر (39) : الآيات 21 الى 26]

- ‌[سورة الزمر (39) : الآيات 27 الى 35]

- ‌[سورة الزمر (39) : الآيات 36 الى 42]

- ‌[سورة الزمر (39) : الآيات 43 الى 48]

- ‌[سورة الزمر (39) : الآيات 49 الى 61]

- ‌[سورة الزمر (39) : الآيات 62 الى 72]

- ‌[سورة الزمر (39) : الآيات 73 الى 75]

- ‌سورة غافر

- ‌[سورة غافر (40) : الآيات 1 الى 9]

- ‌[سورة غافر (40) : الآيات 10 الى 20]

- ‌[سورة غافر (40) : الآيات 21 الى 29]

- ‌[سورة غافر (40) : الآيات 30 الى 40]

- ‌[سورة غافر (40) : الآيات 41 الى 52]

- ‌[سورة غافر (40) : الآيات 53 الى 65]

- ‌[سورة غافر (40) : الآيات 66 الى 85]

- ‌سورة فصّلت

- ‌[سورة فصلت (41) : الآيات 1 الى 14]

- ‌[سورة فصلت (41) : الآيات 15 الى 24]

- ‌[سورة فصلت (41) : الآيات 25 الى 36]

- ‌[سورة فصلت (41) : الآيات 37 الى 44]

- ‌[سورة فصلت (41) : الآيات 45 الى 54]

- ‌سورة الشّورى

- ‌[سورة الشورى (42) : الآيات 1 الى 12]

- ‌[سورة الشورى (42) : الآيات 13 الى 18]

- ‌[سورة الشورى (42) : الآيات 19 الى 28]

- ‌[سورة الشورى (42) : الآيات 29 الى 43]

- ‌[سورة الشورى (42) : الآيات 44 الى 53]

- ‌سورة الزّخرف

- ‌[سورة الزخرف (43) : الآيات 1 الى 20]

- ‌[سورة الزخرف (43) : الآيات 21 الى 35]

- ‌[سورة الزخرف (43) : الآيات 36 الى 45]

- ‌[سورة الزخرف (43) : الآيات 46 الى 56]

- ‌[سورة الزخرف (43) : الآيات 57 الى 73]

- ‌[سورة الزخرف (43) : الآيات 74 الى 89]

- ‌سورة الدّخان

- ‌[سورة الدخان (44) : الآيات 1 الى 16]

- ‌[سورة الدخان (44) : الآيات 17 الى 37]

- ‌[سورة الدخان (44) : الآيات 38 الى 59]

- ‌فهرس الموضوعات

- ‌سورة النور

- ‌سورة الفرقان (25)

- ‌سورة الشعراء (26)

- ‌سورة النمل (27)

- ‌سورة القصص (28)

- ‌سورة العنكبوت (29)

- ‌سورة الروم (30)

- ‌سورة لقمان (31)

- ‌سورة السجدة (32)

- ‌سورة الأحزاب (33)

- ‌سورة سبأ (34)

- ‌سورة فاطر (35)

- ‌سورة يس (36)

- ‌سورة الصافات (37)

- ‌سورة ص (38)

- ‌سورة الزمر (39)

- ‌سورة غافر (40)

- ‌سورة فصلت (41)

- ‌سورة الشورى (42)

- ‌سورة الزخرف (43)

- ‌سورة الدخان (44)

الفصل: ‌[سورة الفرقان (25) : الآيات 45 الى 54]

[سورة الفرقان (25) : الآيات 45 الى 54]

أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (45) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً طَهُوراً (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (49)

وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَاّ كُفُوراً (50) وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (51) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (52) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (54)

لِمَا فَرَغَ سُبْحَانَهُ مِنْ ذِكْرِ جَهَالَةِ الْجَاهِلِينَ وَضَلَالَتِهِمْ، أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ طَرَفٍ مِنْ دَلَائِلَ التَّوْحِيدِ مع ما فيها من عظم الْإِنْعَامِ، فَأَوَّلُهَا الِاسْتِدْلَالُ بِأَحْوَالِ الظِّلِّ فَقَالَ: أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ هَذِهِ الرُّؤْيَةُ إِمَّا بَصَرِيَّةٌ، وَالْمُرَادُ بِهَا: أَلَمْ تُبْصِرْ إِلَى صُنْعِ رَبِّكَ؟ أَوْ أَلَمْ تُبْصِرْ إِلَى الظِّلِّ كَيْفَ مَدَّهُ رَبُّكَ؟ وَإِمَّا قَلْبِيَّةٌ، بِمَعْنَى الْعِلْمِ، فَإِنَّ الظِّلَّ مُتَغَيِّرٌ، وَكُلُّ مُتَغَيِّرٍ حَادِثٌ، وَلِكُلِّ حَادِثٍ مُوجِدٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَلَمْ تَرَ أَلَمْ تَعْلَمْ؟

وَهَذَا مِنْ رُؤْيَةِ الْقَلْبِ، قَالَ: وَهَذَا الْكَلَامُ عَلَى الْقَلْبِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الظِّلِّ كَيْفَ مَدَّهُ رَبُّكَ؟ يَعْنِي:

الظِّلَّ مِنْ وَقْتِ الْإِسْفَارِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَهُوَ ظِلٌّ لَا شَمْسَ مَعَهُ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ غَيْبُوبَةِ الشَّمْسِ إِلَى طُلُوعِهَا. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الظِّلُّ بِالْغَدَاةِ وَالْفَيْءُ بِالْعَشِيِّ، لِأَنَّهُ يَرْجِعُ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ، سُمِّيَ فَيْئًا لِأَنَّهُ فَاءَ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى جَانِبِ الْمَغْرِبِ. قَالَ حُمَيْدُ بْنُ ثَوْرٍ يَصِفُ سَرْحَةً وَكَنَّى بِهَا عَنِ امْرَأَةٍ:

فَلَا الظِّلُّ مِنْ بَرْدِ الضُّحَى تَسْتَطِيعُهُ

وَلَا الْفَيْءُ مِنْ بَرْدِ الْعَشِيِّ تَذُوقُ

وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: الظِّلُّ: مَا نَسَخَتْهُ الشَّمْسُ، وَالْفَيْءُ: مَا نَسَخَ الشَّمْسَ. وَحَكَى أَبُو عُبَيْدَةَ عَنْ رُؤْبَةَ قَالَ: كُلُّ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ فزالت عنه فهو في فَيْءٌ وَظِلٌّ، وَمَا لَمْ تَكُنْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ، فَهُوَ ظِلٌّ، انْتَهَى.

وَحَقِيقَةُ الظِّلِّ أَنَّهُ أَمْرٌ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَ الضَّوْءِ الْخَالِصِ وَالظُّلْمَةِ الْخَالِصَةِ، وَهَذَا التوسط هُوَ أَعْدَلُ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، لِأَنَّ الظُّلْمَةَ الْخَالِصَةَ يَكْرَهُهَا الطَّبْعُ وَيَنْفِرُ عَنْهَا الْحِسُّ، وَالضَّوْءُ الْكَامِلُ لِقُوَّتِهِ يُبْهِرُ الْحِسَّ الْبَصَرِيَّ وَيُؤْذِي بِالتَّسْخِينِ، وَلِذَلِكَ وصفت الجنة به بقوله: وَظِلٍّ مَمْدُودٍ «1» وَجُمْلَةُ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ المعطوف والمعطوف عليه، أي: لو شاء سبحانه سكونه لجعله ساكنا ثابتا دائما مستقرا لا تنسخه الشمس.

وقيل المعنى: لَوْ شَاءَ لَمَنْعَ الشَّمْسَ الطُّلُوعَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَالتَّعْبِيرُ بِالسُّكُونِ عَنِ الْإِقَامَةِ وَالِاسْتِقْرَارِ سَائِغٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: سَكَنَ فُلَانٌ بَلَدَ كَذَا: إِذَا أَقَامَ بِهِ وَاسْتَقَرَّ فِيهِ: وَقَوْلُهُ: ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: مَدَّ الظِّلَّ دَاخِلٌ فِي حُكْمِهِ، أَيْ: جَعَلْنَاهَا عَلَامَةً يُسْتَدَلُّ بِهَا بِأَحْوَالِهَا عَلَى أَحْوَالِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الظِّلَّ يَتْبَعُهَا كَمَا يُتْبَعُ الدَّلِيلُ فِي الطَّرِيقِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يَزِيدُ بِهَا وَيَنْقُصُ وَيَمْتَدُّ وَيَتَقَلَّصُ، وقوله: ثُمَّ قَبَضْناهُ معطوف

(1) . الواقعة: 30.

ص: 92

أَيْضًا عَلَى مَدَّ دَاخِلٌ فِي حُكْمِهِ. وَالْمَعْنَى: ثُمَّ قَبَضْنَا ذَلِكَ الظِّلَّ الْمَمْدُودَ، وَمَحَوْنَاهُ عِنْدَ إِيقَاعِ شُعَاعِ الشَّمْسِ مَوْقِعَهُ بِالتَّدْرِيجِ، حَتَّى انْتَهَى ذَلِكَ الْإِظْلَالُ إِلَى الْعَدَمِ وَالِاضْمِحْلَالِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ في الآية قبضه عن قِيَامِ السَّاعَةِ بِقَبْضِ أَسْبَابِهِ، وَهِيَ الْأَجْرَامُ النَّيِّرَةُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الظِّلَّ يَبْقَى فِي هَذَا الْجَوِّ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَإِذَا طَلُعَتِ الشَّمْسُ صَارَ الظِّلُّ مَقْبُوضًا، وَخَلْفَهُ فِي هَذَا الْجَوِّ شُعَاعُ الشَّمْسِ، فَأَشْرَقَتْ عَلَى الْأَرْضِ وَعَلَى الْأَشْيَاءِ إِلَى وَقْتِ غُرُوبِهَا، فَإِذَا غَرَبَتْ فَلَيْسَ هُنَاكَ ظِلٌّ، إِنَّمَا فِيهِ بَقِيَّةُ نُورِ النَّهَارِ، وَقَالَ قَوْمٌ:

قَبَضَهُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ، لِأَنَّهَا إِذَا لَمْ تَغْرُبْ فَالظِّلُّ فِيهِ بَقِيَّةٌ، وَإِنَّمَا يَتِمُّ زَوَالُهُ بِمَجِيءِ اللَّيْلِ وَدُخُولِ الظَّلَمَةِ عَلَيْهِ.

وَقِيلَ: الْمَعْنَى: ثُمَّ قَبَضْنَا ضِيَاءَ الشَّمْسِ بِالْفَيْءِ قَبْضاً يَسِيراً وَمَعْنَى إِلَيْنَا: أَنَّ مَرْجِعَهُ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ كَمَا أَنَّ حُدُوثَهُ مِنْهُ. قَبْضًا يَسِيرًا، أَيْ عَلَى تَدْرِيجٍ قَلِيلًا قَلِيلًا بِقَدْرِ ارْتِفَاعِ الشَّمْسِ، وَقِيلَ: يَسِيرًا سَرِيعًا، وَقِيلَ:

الْمَعْنَى يَسِيرًا عَلَيْنَا، أَيْ: يَسِيرًا قَبْضُهُ عَلَيْنَا لَيْسَ بِعَسِيرٍ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً شَبَّهَ سُبْحَانَهُ مَا يُسْتَرُ مِنْ ظَلَامِ اللَّيْلِ بِاللِّبَاسِ السَّاتِرِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَصَفَ اللَّيْلَ بِاللِّبَاسِ تَشْبِيهًا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَسْتُرُ الأشياء ويغشاها، واللام متعلقة بجعل وَالنَّوْمَ سُباتاً أَيْ: وَجَعَلَ النَّوْمَ سُبَاتًا، أَيْ: رَاحَةً لَكُمْ لِأَنَّكُمْ تَنْقَطِعُونَ عَنِ الِاشْتِغَالِ، وَأَصْلُ السُّبَاتِ: التَّمَدُّدُ، يُقَالُ: سَبَتَتِ الْمَرْأَةُ شَعْرَهَا، أَيْ نَقَضَتْهُ وَأَرْسَلَتْهُ. وَرَجُلٌ مَسْبُوتٌ:

أَيْ مَمْدُودُ الْخِلْقَةِ. وقيل للنوم: ثبات، لِأَنَّهُ بِالتَّمَدُّدِ يَكُونُ، وَفِي التَّمَدُّدِ مَعْنَى الرَّاحَةِ. وَقِيلَ: السَّبْتُ: الْقَطْعُ، فَالنَّوْمُ انْقِطَاعٌ عَنِ الِاشْتِغَالِ، وَمِنْهُ سَبْتُ الْيَهُودِ لِانْقِطَاعِهِمْ عَنِ الِاشْتِغَالِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: السُّبَاتُ النَّوْمُ، وَهُوَ أَنْ يَنْقَطِعَ عَنِ الْحَرَكَةِ وَالرُّوحُ فِي بَدَنِهِ، أَيْ: جَعَلَنَا نَوْمَكُمْ رَاحَةً لَكُمْ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: السُّبَاتُ نَوْمٌ ثَقِيلٌ، أَيْ: جَعَلَنَا نَوْمَكُمْ ثَقِيلًا لِيَكْمُلَ الْإِجْمَامُ وَالرَّاحَةُ وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً أَيْ: زَمَانَ بَعْثٍ مِنْ ذَلِكَ السُّبَاتِ، شَبَّهَ الْيَقَظَةَ بِالْحَيَاةِ كَمَا شَبَّهَ النَّوْمَ بِالسُّبَاتِ الشَّبِيهِ بِالْمَمَاتِ. وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: إِنَّ السُّبَاتَ الْمَوْتُ، وَاسْتُدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بِكَوْنِ النُّشُورِ فِي مُقَابَلَتِهِ وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ قُرِئَ «الرِّيحُ» وَقُرِئَ «بُشْرًا» بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَبِالنُّونِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ مُسْتَوْفًى فِي الْأَعْرَافِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً طَهُوراً أَيْ: يُتَطَهَّرُ بِهِ كَمَا يُقَالُ وَضُوءٌ لِلْمَاءِ الَّذِي يُتَوَضَّأُ بِهِ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الطَّهُورُ فِي اللُّغَةِ الطَّاهِرُ الْمُطَهِّرُ، وَالطُّهُورُ مَا يُتَطَهَّرُ بِهِ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الطَّهُورُ بِفَتْحِ الطَّاءِ الِاسْمُ، وَكَذَلِكَ الْوَضُوءُ وَالْوَقُودُ، وَبِالضَّمِّ الْمَصْدَرُ، هَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي اللُّغَةِ، وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الطَّهُورَ هُوَ الطَّاهِرُ الْمُطَهِّرُ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ كَوْنُهُ بِنَاءَ مُبَالِغَةٍ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: الطَّهُورُ هُوَ الطَّاهِرُ، وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:

وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً «1» يَعْنِي: طَاهِرًا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

خَلِيلِيَّ هَلْ فِي نَظْرَةٍ بَعْدَ تَوْبَةٍ

أُدَاوِي بِهَا قَلْبِي عَلَيَّ فَجُورُ

إِلَى رُجَّحِ الْأَكْفَالِ غِيدٍ مِنَ الظّبا

عِذَابُ الثَّنَايَا رِيقُهُنَّ طَهُورُ

فَوَصَفَ الرِّيقَ بِأَنَّهُ طَهُورٌ وَلَيْسَ بِمُطَهَّرٍ، وَرَجَّحَ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ ثَعْلَبٌ، وهو راجع لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حِكَايَةِ الْأَزْهَرِيِّ لِذَلِكَ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ. وَأَمَّا وَصْفُ الشَّاعِرِ لِلرِّيقِ بِأَنَّهُ طَهُورٌ، فَهُوَ عَلَى طَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ، وَعَلَى كُلِّ حال

(1) . الإنسان: 21.

ص: 93

فَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِأَنَّ الْمَاءَ طَاهِرٌ فِي نَفْسِهِ مُطَهِّرٌ لِغَيْرِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ «1» وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «خُلِقَ الْمَاءُ طَهُورًا» ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ عِلَّةَ الْإِنْزَالِ فَقَالَ: لِنُحْيِيَ بِهِ أَيْ:

بِالْمَاءِ الْمُنَزَّلِ مِنَ السَّمَاءِ بَلْدَةً مَيْتاً وَصَفَ الْبَلْدَةَ بميتا، وهي صفة للمذكر لأنها بِمَعْنَى الْبَلَدِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ:

أَرَادَ بِالْبَلَدِ الْمَكَانَ، وَالْمُرَادُ بِالْإِحْيَاءِ هُنَا: إِخْرَاجُ النَّبَاتِ مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي لَا نَبَاتَ فِيهِ وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً أَيْ: نُسَقِي ذَلِكَ الْمَاءَ، قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُمَا وَأَبُو حَيَّانَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ بِفَتْحِ النُّونِ مِنْ «نَسْقِيهِ» وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِضَمِّهَا، وَ «مِنْ» فِي مِمَّا خَلَقْنَا لِلِابْتِدَاءِ، وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِنُسْقِيهِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِمَحْذُوفٍ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ، وَالْأَنْعَامُ: قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا، وَالْأَنَاسِيُّ: جَمْعُ إِنْسَانٍ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ سِيبَوَيْهِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالْمُبَرِّدُ وَالزَّجَّاجُ: إِنَّهُ جَمْعُ إِنْسِيٍّ، وَلِلْفَرَّاءِ قَوْلٌ آخَرُ: إِنَّهُ جَمْعُ إِنْسَانٍ، وَالْأَصْلُ أَنَاسِينَ، مِثْلُ سَرْحَانَ وَسَرَاحِينَ، وَبُسْتَانٍ وَبَسَاتِينَ، فَجَعَلُوا الْبَاءَ عِوَضًا مِنَ النُّونِ وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا ضَمِيرُ صَرَّفْنَاهُ: ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى مَا ذُكِرَ مِنَ الدَّلَائِلِ، أَيْ: كَرَّرْنَا أَحْوَالَ الْإِظْلَالِ، وَذِكْرُ إِنْشَاءِ السَّحَابِ وَإِنْزَالِ الْمَطَرِ فِي الْقُرْآنِ وَفِي سَائِرِ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ لِيَتَفَكَّرُوا ويعتبروا فَأَبى أَكْثَرُ هُمْ إِلَّا كُفْرَانَ النِّعْمَةِ وَجَحْدَهَا. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورَاتِ، وَهُوَ الْمَطَرُ، أَيْ:

صَرَّفْنَا الْمَطَرَ بَيْنَهُمْ فِي الْبُلْدَانِ الْمُخْتَلِفَةِ، فنزيد منه فِي بَعْضِ الْبُلْدَانِ، وَنُنْقِصُ فِي بَعْضٍ آخَرَ مِنْهَا، وَقِيلَ: الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْقُرْآنِ، وَقَدْ جَرَى ذِكْرُهُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ حَيْثُ قَالَ: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ وَقَوْلُهُ: لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وقوله: اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً وَالْمَعْنَى:

وَلَقَدْ كَرَّرْنَا هَذَا الْقُرْآنَ بِإِنْزَالِ آيَاتِهِ بَيْنَ النَّاسِ لِيَذَّكَّرُوا بِهِ وَيَعْتَبِرُوا بِمَا فِيهِ، فَأَبَى أَكْثَرُهُمْ إِلَّا كُفُوراً بِهِ، وَقِيلَ: هُوَ رَاجِعٌ إِلَى الرِّيحِ، وَعَلَى رُجُوعِ الضَّمِيرِ إِلَى الْمَطَرِ، فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهُ، فَقِيلَ: مَا ذَكَرْنَاهُ. وَقِيلَ:

صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ وَابِلًا، وَطَشًّا، وَطَلًّا، وَرَذَاذًا، وَقِيلَ: تَصْرِيفُهُ تَنْوِيعُ الِانْتِفَاعِ بِهِ فِي الشُّرْبِ وَالسَّقْيِ وَالزِّرَاعَاتِ بِهِ وَالطَّهَارَاتِ. قَالَ عِكْرِمَةُ: إِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً هُوَ قَوْلُهُمْ: فِي الْأَنْوَاءِ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كذا. قال النحاس: ولا نعلم بين أهل التفسير اختلافا أن الكفر هنا قولهم: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ «صَرَفْنَاهُ» مُخَفَّفًا، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّثْقِيلِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ «لِيَذْكُرُوا» مُخَفَّفَةُ الذَّالِ مِنَ الذِّكْرِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّثْقِيلِ مِنَ التَّذَكُّرِ وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً أَيْ: رَسُولًا يُنْذِرُهُمْ كَمَا قَسَّمْنَا الْمَطَرَ بَيْنَهُمْ، وَلَكِنَّا لَمْ نَفْعَلْ ذَلِكَ بَلْ جَعَلْنَا نَذِيرًا وَاحِدًا، وَهُوَ أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ، فَقَابِلْ ذَلِكَ بِشُكْرِ النِّعْمَةِ فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ فِيمَا يَدْعُونَكَ إِلَيْهِ مِنَ اتِّبَاعِ آلِهَتِهِمْ، بَلِ اجْتَهِدْ فِي الدَّعْوَةِ وَاثْبُتْ فِيهَا وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ:

وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً رَاجِعٌ إِلَى الْقُرْآنِ، أَيْ: جَاهِدْهُمْ بِالْقُرْآنِ، وَاتْلُ عَلَيْهِمْ مَا فِيهِ مِنَ الْقَوَارِعِ، وَالزَّوَاجِرِ وَالْأَوَامِرِ، وَالنَّوَاهِي. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ يَرْجِعُ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَقِيلَ: بِالسَّيْفِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَهَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، وَالْأَمْرُ بِالْقِتَالِ إِنَّمَا كَانَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى تَرْكِ الطَّاعَةِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ:

فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَقِيلَ: الضَّمِيرُ يَرْجِعُ إِلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً

(1) . الأنفال: 11.

ص: 94

لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَوْ بَعَثَ فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا لَمْ يَكُنْ عَلَى كُلِّ نَذِيرٍ إِلَّا مُجَاهَدَةُ الْقَرْيَةِ الَّتِي أُرْسِلَ إِلَيْهَا، وَحِينَ اقْتَصَرَ عَلَى نَذِيرٍ وَاحِدٍ لِكُلِّ الْقُرَى وَهُوَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم فَلَا جَرَمَ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ كُلُّ الْمُجَاهَدَاتِ، فَكَبُرَ جِهَادُهُ، وَعَظُمَ وَصَارَ جَامِعًا لِكُلِّ مُجَاهَدَةٍ، وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ مِنَ الْبُعْدِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ دَلِيلًا رَابِعًا عَلَى التَّوْحِيدِ فَقَالَ:

وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ مَرَجَ: خَلَّى وَخَلَطَ وَأَرْسَلَ، يُقَالُ مَرَجْتُ الدَّابَّةَ وَأَمْرَجْتُهَا: إِذَا أَرْسَلْتُهَا فِي الْمَرْعَى وَخَلَّيْتُهَا تَذْهَبُ حَيْثُ تَشَاءُ قَالَ مُجَاهِدٌ: أَرْسَلَهُمَا وَأَفَاضَ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ. وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: خَلَطَهُمَا فَهُمَا يَلْتَقِيَانِ، يُقَالُ مَرَجْتُهُ: إِذَا خَلَطْتُهُ، وَمَرَجَ الدِّينُ وَالْأَمْرُ: اخْتَلَطَ وَاضْطَرَبَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ «1» وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ خَلَّى بَيْنَهُمَا، يُقَالُ مَرَجَتِ الدَّابَّةُ: إِذَا خَلَّيْتُهَا تَرْعَى. وَقَالَ ثَعْلَبٌ: الْمَرْجُ الْإِجْرَاءُ، فَقَوْلُهُ: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ أَيْ أَجْرَاهُمَا. قَالَ الْأَخْفَشُ: وَيَقُولُ قَوْمٌ أَمْرَجَ الْبَحْرَيْنِ مِثْلُ مَرَجَ، فَعَلَ وَأَفْعَلَ بِمَعْنًى هَذَا عَذْبٌ فُراتٌ الْفُرَاتُ الْبَلِيغُ الْعُذُوبَةِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: كَيْفَ مَرَجَهُمَا؟ فَقِيلَ: هَذَا عَذْبٌ، وَهَذَا مِلْحٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. قِيلَ: سُمِّي الْمَاءُ الْحُلْوُ فُرَاتًا: لِأَنَّهُ يَفْرُتُ الْعَطَشُ، أَيْ: يَقْطَعُهُ وَيَكْسِرُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ أَيْ: بَلِيغُ الْمُلُوحَةِ هَذَا مَعْنَى الْأُجَاجِ، وَقِيلَ: الْأُجَاجُ الْبَلِيغُ فِي الْحَرَارَةِ، وَقِيلَ: الْبَلِيغُ فِي الْمَرَارَةِ، وَقَرَأَ طَلْحَةُ مِلْحٌ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ اللَّامِ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً الْبَرْزَخُ: الْحَاجِزُ، وَالْحَائِلُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ بَيْنَهُمَا مِنْ قُدْرَتِهِ، يَفْصِلُ بينهما، وبمنعهما التَّمَارُجَ، وَمَعْنَى حِجْراً مَحْجُوراً سَتْرًا مَسْتُورًا يَمْنَعُ أَحَدُهُمَا مِنَ الِاخْتِلَاطِ بِالْآخَرِ، فَالْبَرْزَخُ: الْحَاجِزُ، وَالْحَجْزُ: الْمَانِعُ. وَقِيلَ: مَعْنَى حِجْراً مَحْجُوراً هُوَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهَا كَلِمَةٌ يَقُولُهَا الْمُتَعَوِّذُ كَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ يَتَعَوَّذُ مِنْ صَاحِبِهِ، وَيَقُولُ لَهُ هَذَا الْقَوْلَ، وَقِيلَ: حَدًّا مَحْدُودًا. وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنَ الْبَحْرِ الْعَذْبِ: الْأَنْهَارُ الْعِظَامُ كَالنِّيلِ وَالْفُرَاتِ وَجَيْحُونَ، وَمِنَ الْبَحْرِ الْأُجَاجِ: الْبِحَارُ الْمَشْهُورَةُ، وَالْبَرْزَخُ بَيْنَهُمَا: الْحَائِلُ مِنَ الْأَرْضِ. وَقِيلَ: مَعْنَى حِجْراً مَحْجُوراً حَرَامًا مُحَرَّمًا أَنْ يَعْذُبَ هَذَا الْمَالِحُ بِالْعَذْبِ، أَوْ يُمَلَّحَ هَذَا الْعَذْبُ بِالْمَالِحِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ فِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيانِ «2» ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ حَالَةً مِنْ أَحْوَالِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ وَالْمَاءِ فَقَالَ: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَالْمُرَادُ بِالْمَاءِ هُنَا: مَاءُ النُّطْفَةِ، أَيْ: خَلَقَ مِنْ مَاءِ النُّطْفَةِ إِنْسَانًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْمَاءِ الْمَاءُ الْمُطْلَقُ الَّذِي يُرَادُ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ «3» وَالْمُرَادُ بِالنَّسَبِ: هُوَ الَّذِي لَا يَحِلُّ نِكَاحُهُ. قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: وَاشْتِقَاقُ الصِّهْرِ مِنْ صَهَرْتُ الشَّيْءَ: إِذَا خَلَطْتَهُ، وَسُمِّيَتِ الْمَنَاكِحُ صِهْرًا لِاخْتِلَاطِ النَّاسِ بِهَا. وَقِيلَ: الصِّهْرُ: قَرَابَةُ النِّكَاحِ فَقَرَابَةُ الزَّوْجَةِ: هُمُ الْأَخْتَانُ، وَقَرَابَةُ الزَّوْجِ: هُمُ الْأَحْمَاءُ، وَالْأَصْهَارُ: تَعُمُّهُمَا، قَالَهُ الْأَصْمَعِيُّ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ:

قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: النَّسَبُ سَبْعَةُ أَصْنَافٍ مِنَ الْقَرَابَةِ يَجْمَعُهَا قَوْلُهُ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ إِلَى قَوْلِهِ:

وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَمِنْ هُنَا إِلَى قَوْلِهِ: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ «4» تَحْرِيمٌ بِالصِّهْرِ، وَهُوَ الْخُلْطَةُ الَّتِي تُشْبِهُ الْقَرَابَةَ، حَرَّمَ اللَّهُ سَبْعَةَ أَصْنَافٍ مِنَ النَّسَبِ وَسَبْعَةً مِنْ جِهَةِ الصِّهْرِ، قَدِ اشْتَمَلَتِ الْآيَةُ الْمَذْكُورَةُ على

(1) . ق: 5.

(2)

. الرحمن: 19 و 20.

(3)

. الأنبياء: 30.

(4)

. النساء: 23.

ص: 95