الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إفساد المال لا يصدر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فإن هذا مجرّد استبعاد بِاعْتِبَارِ مَا هُوَ الْمُتَقَرِّرُ فِي شَرْعِنَا مَعَ جَوَازِ أَنْ يَكُونَ فِي شَرْعِ سُلَيْمَانَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا مُبَاحٌ عَلَى أَنَّ إِفْسَادَ الْمَالِ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ فِي شَرْعِنَا إِنَّمَا هُوَ مُجَرَّدُ إِضَاعَتِهِ لِغَيْرِ غَرَضٍ صَحِيحٍ، وَأَمَّا لِغَرَضٍ صَحِيحٍ فَقَدْ جَازَ مِثْلُهُ فِي شَرْعِنَا كَمَا وَقَعَ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ إِكْفَاءِ الْقُدُورِ الَّتِي طُبِخَتْ مِنَ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، وَلِهَذَا نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا وَقَعَ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْ إِحْرَاقِ طَعَامِ الْمُحْتَكِرِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ قَالَ: الَّذِينَ آمَنُوا: عَلِيٌّ، وَحَمْزَةُ، وَعُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ، وَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ: عُتْبَةُ، وَشَيْبَةُ، وَالْوَلِيدُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: الصَّافِناتُ الْجِيادُ خَيْلٌ خُلِقَتْ عَلَى مَا شَاءَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: الصَّافِناتُ قَالَ: صُفُونُ الْفَرَسِ رَفْعُ إِحْدَى يَدَيْهِ حَتَّى يَكُونَ عَلَى أَطْرَافِ الْحَافِرِ، وَفِي قَوْلِهِ: الْجِيادُ السِّرَاعُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: حُبَّ الْخَيْرِ قَالَ: الْمَاءُ، وَفِي قَوْلِهِ رُدُّوهَا عَلَيَّ قَالَ: الْخَيْلُ فَطَفِقَ مَسْحاً قَالَ: عَقْرًا بِالسَّيْفِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: الصَّلَاةُ الَّتِي فَرَّطَ فِيهَا سُلَيْمَانُ صَلَاةُ الْعَصْرِ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ فِي قَوْلِهِ:
إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ قَالَ: كَانَتْ عِشْرِينَ أَلْفَ فَرَسٍ ذَاتَ أَجْنِحَةٍ فَعَقَرَهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِقَوْلِهِ: حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ قَالَ: تَوَارَتْ مِنْ وَرَاءِ يَاقُوتَةٍ خَضْرَاءَ، فَخُضْرَةُ السَّمَاءِ مِنْهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ سُلَيْمَانُ لَا يُكَلَّمُ إِعْظَامًا لَهُ، فَلَقَدْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ وَمَا اسْتَطَاعَ أَحَدٌ أَنْ يُكَلِّمَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: عَنْ ذِكْرِ رَبِّي يَقُولُ: مِنْ ذِكْرِ رَبِّي فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ قَالَ:
قَطَعَ سُوقَهَا وأعناقها بالسيف.
[سورة ص (38) : الآيات 34 الى 40]
وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (34) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (36) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (38)
هَذَا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)
قَوْلُهُ: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ أَيِ: ابْتَلَيْنَاهُ وَاخْتَبَرْنَاهُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: تَزَوَّجَ سُلَيْمَانُ امْرَأَةً مِنْ بَنَاتِ الْمُلُوكِ، فَعَبَدَتِ الصَّنَمَ فِي دَارِهِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ سُلَيْمَانُ، فَامْتُحِنَ بِسَبَبِ غَفْلَتِهِ عَنْ ذَلِكَ. وَقِيلَ: إِنَّ سَبَبَ الْفِتْنَةِ أَنَّهُ تَزَوَّجَ سُلَيْمَانُ امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا جَرَادَةُ وَكَانَ يُحِبُّهَا حُبًّا شَدِيدًا، فَاخْتَصَمَ إِلَيْهِ فَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا مِنْ أَهْلِ جَرَادَةَ، فَأَحَبَّ أَنْ يَكُونَ الْقَضَاءُ لَهُمْ، ثُمَّ قَضَى بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ. وَقِيلَ: إِنَّ السَّبَبَ أَنَّهُ احْتَجَبَ عَنِ النَّاسِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا يَقْضِي بَيْنَ أَحَدٍ. وَقِيلَ: إِنَّهُ تَزَوَّجَ جَرَادَةَ هَذِهِ وَهِيَ مُشْرِكَةٌ لِأَنَّهُ عَرَضَ عَلَيْهَا الْإِسْلَامَ فَقَالَتِ: اقْتُلْنِي وَلَا أُسْلِمُ. وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: إِنَّهُ لَمَّا ظَلَمَ الْخَيْلَ بِالْقَتْلِ سُلِبَ مُلْكُهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنَّهُ قَارَبَ بَعْضَ نِسَائِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ حَيْضٍ أَوْ غَيْرِهِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ أُمِرَ أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً إِلَّا مِنْ بَنِي
إِسْرَائِيلَ فَتَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ غَيْرِهِمْ. وَقِيلَ: إِنَّ سَبَبَ فِتْنَتِهِ مَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى تِسْعِينَ امْرَأَةً تَأْتِي كُلُّ وَاحِدَةٍ بِفَارِسٍ يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَمْ يَقِلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ مَا عَاقَبَهُ بِهِ فَقَالَ: وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً انْتِصَابُ جَسَدًا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ أَلْقَيْنَا، وَقِيلَ:
انْتِصَابُهُ عَلَى الْحَالِ عَلَى تَأْوِيلِهِ بِالْمُشْتَقِّ، أَيْ: ضَعِيفًا أَوْ فَارِغًا، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: هَذَا الْجَسَدُ الَّذِي أَلْقَاهُ اللَّهُ عَلَى كُرْسِيِّ سُلَيْمَانَ هُوَ شَيْطَانٌ اسْمُهُ صَخْرٌ، وَكَانَ مُتَمَرِّدًا عَلَيْهِ غَيْرَ دَاخِلٍ فِي طَاعَتِهِ، أَلْقَى اللَّهُ شَبَهَ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ وَمَا زَالَ يَحْتَالُ حَتَّى ظَفِرَ بِخَاتَمِ سُلَيْمَانَ، وَذَلِكَ عِنْدَ دُخُولِ سُلَيْمَانَ الْكَنِيفَ لِأَنَّهُ كَانَ يُلْقِيهِ إِذَا دَخَلَ الْكَنِيفَ، فَجَاءَ صَخْرٌ فِي صُورَةِ سُلَيْمَانَ فَأَخَذَ الْخَاتَمَ مِنِ امْرَأَةٍ مِنْ نِسَاءِ سُلَيْمَانَ، فَقَعَدَ عَلَى سَرِيرِ سُلَيْمَانَ وَأَقَامَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا عَلَى مُلْكِهِ وَسُلَيْمَانُ هَارِبٌ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّ شَيْطَانًا قَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ:
كَيْفَ تَفْتِنُونَ النَّاسَ؟ قَالَ: أَرِنِي خَاتَمَكَ أُخْبِرْكَ، فَلَمَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ نَبَذَهُ فِي الْبَحْرِ، فَذَهَبَ مُلْكُهُ وَقَعَدَ الشَّيْطَانُ عَلَى كُرْسِيِّهِ وَمَنَعَهُ اللَّهُ نِسَاءَ سُلَيْمَانَ فَلَمْ يَقْرَبْهُنَّ، وَكَانَ سُلَيْمَانُ يَسْتَطْعِمُ فَيَقُولُ: أَتَعْرِفُونَنِي أَطْعِمُونِي؟ فَيُكَذِّبُوهُ حَتَّى أَعْطَتْهُ امْرَأَةٌ يَوْمًا حُوتًا فَشَقَّ بَطْنَهُ فَوَجَدَ خَاتَمَهُ فِي بَطْنِهِ فَرَجَعَ إِلَيْهِ مُلْكَهُ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: ثُمَّ أَنابَ أَيْ: رَجَعَ إِلَى مُلْكِهِ بَعْدَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا. وَقِيلَ مَعْنَى أَنَابَ: رَجَعَ إِلَى اللَّهِ بِالتَّوْبَةِ مِنْ ذَنْبِهِ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، وَتَكُونُ جُمْلَةُ: قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي بَدَلًا مِنْ جُمْلَةِ أَنَابَ وَتَفْسِيرًا لَهُ، أَيِ: اغْفِرْ لِي مَا صَدَرَ عَنِّي مِنَ الذَّنْبِ الَّذِي ابْتَلَيْتَنِي لِأَجْلِهِ. ثُمَّ لَمَّا قَدَّمَ التَّوْبَةَ وَالِاسْتِغْفَارَ جَعَلَهَا وَسِيلَةً إِلَى إِجَابَةِ طَلْبَتِهِ فَقَالَ: وَهَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَعْنَى لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي: لَا يَكُونُ لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي، وَقِيلَ الْمَعْنَى: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَسْلُبَهُ مِنِّي بَعْدَ هَذِهِ السُّلْبَةِ، أَوْ لا يصح لأحد من بعدي لِعَظَمَتِهِ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ سُؤَالِ نَبِيِّ اللَّهِ سُلَيْمَانَ عليه السلام لِلدُّنْيَا وَمُلْكِهَا وَالشَّرَفِ بَيْنَ أَهْلِهَا، بَلِ الْمُرَادُ بِسُؤَالِهِ الْمُلْكَ أَنْ يَتَمَكَّنَ بِهِ مِنْ إِنْفَاذِ أَحْكَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَالْأَخْذِ عَلَى يَدِ الْمُتَمَرِّدِينَ مِنْ عِبَادِهِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُقْتَضَيَاتِ لِهَذَا السُّؤَالِ مِنْهُ إِلَّا مَا رَآهُ عِنْدَ قُعُودِ الشَّيْطَانِ عَلَى كُرْسِيِّهِ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّيْطَانِيَّةِ الْجَارِيَةِ فِي عِبَادِ اللَّهِ «1» ، وَجُمْلَةُ إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا مِمَّا طَلَبَهُ مِنْ مَغْفِرَةِ اللَّهِ لَهُ وَهِبَةُ الْمَلِكِ الَّذِي لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ:
أَيْ فَإِنَّكَ كَثِيرُ الْهِبَاتِ عظيم الموهبات. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ إِجَابَتَهُ لِدَعْوَتِهِ وَإِعْطَاءَهُ لِمَسْأَلَتِهِ فَقَالَ: فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ أَيْ: ذَلَّلْنَاهَا لَهُ وَجَعَلْنَاهَا مُنْقَادَةً لِأَمْرِهِ. ثُمَّ بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ التَّسْخِيرِ لَهَا بِقَوْلِهِ: تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً أَيْ: لَيِّنَةَ الْهُبُوبِ لَيْسَتْ بِالْعَاصِفِ، مَأْخُوذٌ مِنَ الرَّخَاوَةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا رِيحٌ لَيِّنَةٌ لَا تُزَعْزِعُ وَلَا تَعْصِفُ مَعَ قُوَّةِ هُبُوبِهَا وَسُرْعَةِ جَرْيِهَا، وَلَا يُنَافِي هَذَا قَوْلَهُ فِي آيَةٍ أُخْرَى وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ «2» لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهَا فِي قُوَّةِ الْعَاصِفَةِ وَلَا تَعْصِفُ. وَقِيلَ: إِنَّهَا كَانَتْ تَارَةً رُخَاءً، وَتَارَةً عَاصِفَةً عَلَى مَا يُرِيدُهُ سُلَيْمَانُ وَيَشْتَهِيهِ، وَهَذَا أَوْلَى فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ حَيْثُ أَصابَ أَيْ: حَيْثُ أَرَادَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: إِجْمَاعُ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالْمُفَسِّرِينَ أَنَّ مَعْنَى حَيْثُ أَصَابَ: حَيْثُ أَرَادَ، وَحَقِيقَتُهُ حَيْثُ قَعَدَ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ وَابْنُ الأعرابي: العرب تقول:
(1) . ما جاء في تفسير فتنة سليمان غير الحديث الصحيح إنما هو من الإسرائيليات التي تنسب إلى الأنبياء ما لا يليق بهم، فلا يعتد بها.
(2)
. الأنبياء: 81. [.....]
.
أَصَابَ الصَّوَابَ، وَأَخْطَأَ الْجَوَابَ. وَقِيلَ: إِنَّ مَعْنَى أَصَابَ بِلُغَةِ حِمْيَرَ أَرَادَ، وَلَيْسَ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ، وَقِيلَ:
هُوَ بِلِسَانِ هَجَرَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ إِصَابَةِ السَّهْمِ لِلْغَرَضِ وَالشَّياطِينَ مَعْطُوفٌ عَلَى الرِّيحِ، أَيْ: وَسَخَّرْنَا لَهُ الشَّيَاطِينَ، وَقَوْلُهُ: كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ بَدَلٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ، أَيْ: كُلُّ بِنَّاءٍ مِنْهُمْ، وَغَوَّاصٍ مِنْهُمْ يَبْنُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنَ الْمَبَانِي، وَيَغُوصُونَ فِي الْبَحْرِ فَيَسْتَخْرِجُونَ لَهُ الدُّرَّ مِنْهُ، وَمِنْ هَذَا قَوْلُ الشَّاعِرِ «1» :
إِلَّا سُلَيْمَانَ إِذْ قَالَ الْجَلِيلُ لَهُ
…
قُمْ فِي الْبَرِيَّةِ فَاحْدُدْهَا عَنِ الْفَنَدِ
وخيّس الْجِنَّ أَنِّي قَدْ أَذِنْتُ لَهُمْ
…
يَبْنُونَ تَدْمُرَ بِالصِّفَاحِ وَالْعُمُدِ
وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ مَعْطُوفٌ عَلَى كُلَّ دَاخِلٌ فِي حُكْمِ الْبَدَلِ، وَهُمْ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ سُخِّرُوا لَهُ حَتَّى قَرَّنَهُمْ فِي الْأَصْفَادِ. يُقَالُ: قَرَّنَهُمْ فِي الْحِبَالِ إِذَا كَانُوا جماعة كثيرة، والأصفاد: الأغلال واحدها صفة.
قَالَ الزَّجَّاجُ: هِيَ السَّلَاسِلُ، فَكُلُّ مَا شَدَدْتَهُ شَدًّا وَثِيقًا بِالْحَدِيدِ وَغَيْرِهِ فَقَدْ صَفَدْتَهُ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: صَفَدْتُ الرَّجُلَ فَهُوَ مَصْفُودٌ، وَصَفَّدْتَهُ فَهُوَ مُصَفَّدٌ، وَمِنْ هَذَا قَوْلُ عَمْرِو بْنِ كُلْثُومٍ فِي مُعَلَّقَتِهِ:
فَآبُوا بِالنِّهَابِ وَبِالسَّبَايَا
…
وَأُبْنَا بِالْمُلُوكِ مُصَفَّدِينَا
قَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَامٍ: وَلَمْ يَكُنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ إِلَّا بِكُفَّارِهِمْ، فَإِذَا آمَنُوا أَطْلَقَهُمْ وَلَمْ يُسَخِّرْهُمْ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ:
«هَذَا» إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَسْخِيرِ الرِّيحِ وَالشَّيَاطِينِ لَهُ، وَهُوَ بِتَقْدِيرِ الْقَوْلِ: أَيْ وَقُلْنَا لَهُ هَذَا عَطاؤُنا الَّذِي أَعْطَيْنَاكَهُ مِنَ الْمُلْكِ الْعَظِيمِ الَّذِي طَلَبْتَهُ فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ قَالَ الْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُمَا: أَيْ فَأَعْطِ مَنْ شِئْتَ وَامْنَعْ مَنْ شِئْتَ بِغَيْرِ حِسابٍ لَا حِسَابَ عَلَيْكَ فِي ذَلِكَ الْإِعْطَاءِ أَوِ الْإِمْسَاكِ، أَوْ عَطَاؤُنَا لَكَ بِغَيْرِ حِسَابٍ لِكَثْرَتِهِ وَعَظَمَتِهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: إِنَّ قَوْلَهُ: هَذَا عَطاؤُنا إِشَارَةٌ إِلَى مَا أُعْطِيَهُ مِنْ قُوَّةِ الْجِمَاعِ، وَهَذَا لَا وَجْهَ لِقَصْرِ الْآيَةِ عَلَيْهِ لَوْ قَدَّرْنَا أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ جُمْلَةِ تِلْكَ الْمَذْكُورَاتِ، فَكَيْفَ يَدَّعِي اخْتِصَاصَ الْآيَةِ بِهِ مَعَ عَدَمِ ذِكْرِهِ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى أَيْ قُرْبَةً فِي الْآخِرَةِ وَحُسْنَ مَآبٍ وَحُسْنَ مَرْجِعٍ، وَهُوَ الْجَنَّةُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ، وَالْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً قَالَ: هُوَ الشَّيْطَانُ الَّذِي كَانَ عَلَى كُرْسِيِّهِ يَقْضِي بَيْنَ النَّاسِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَكَانَ لِسُلَيْمَانَ امْرَأَةٌ يُقَالُ لَهَا جَرَادَةُ، وَكَانَ بَيْنَ بَعْضِ أَهْلِهَا وَبَيْنَ قَوْمٍ خُصُومَةٌ، فَقَضَى بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ إِلَّا أَنَّهُ وَدَّ أَنَّ الْحَقَّ كَانَ لِأَهْلِهَا، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ سَيُصِيبُكَ بَلَاءٌ، فَكَانَ لَا يَدْرِي أَيَأْتِيهِ مِنَ السَّمَاءِ أَمْ مِنَ الْأَرْضِ؟
وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ قَالَ السُّيُوطِيُّ بِسَنَدٍ قَوِيٍّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَرَادَ سُلَيْمَانُ أَنْ يَدْخُلَ الْخَلَاءَ فَأَعْطَى لِجَرَادَةَ خَاتَمَهُ، وَكَانَتْ جَرَادَةُ امْرَأَتَهُ وَكَانَتْ أَحَبَّ نِسَائِهِ إِلَيْهِ، فَجَاءَ الشَّيْطَانُ فِي صُورَةِ سُلَيْمَانَ فَقَالَ لَهَا: هَاتِي خَاتَمِي فَأَعْطَتْهُ، فَلَمَّا لَبِسَهُ دَانَتْ لَهُ الإنس والجن والشياطين، فلما خرج سليمان
(1) . هو النابغة الذبياني.