الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بِمَعْنَى إِلَّا، أَيْ: مَا كَلُّ ذَلِكَ إِلَّا شَيْءٌ يُتَمَتَّعُ بِهِ فِي الدُّنْيَا. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ بِكَسْرِ اللَّامِ مِنْ «لَمَّا» عَلَى أَنَّ اللام للعلة وما موصولة والعائدة مَحْذُوفٌ، أَيْ: لِلَّذِي هُوَ مَتَاعٌ وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ أَيْ: لِمَنِ اتَّقَى الشِّرْكَ وَالْمَعَاصِيَ وَآمَنَ بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَعَمِلَ بِطَاعَتِهِ، فَإِنَّهَا الْبَاقِيَةُ الَّتِي لَا تَفْنَى، وَنَعِيمُهَا الدَّائِمُ الَّذِي لَا يَزُولُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ قَالَ: عَلَى دِينٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْهُ وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فِي عَقِبِهِ قَالَ: عَقِبُ إِبْرَاهِيمَ وَلَدُهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ مَا الْقَرْيَتَانِ؟ قَالَ: الطَّائِفُ وَمَكَّةُ، قِيلَ: فَمَنِ الرَّجُلَانِ؟ قَالَ: عُمَيْرُ بْنُ مَسْعُودٍ، وَخِيَارُ قُرَيْشٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: يَعْنِي بِالْقَرْيَتَيْنِ مَكَّةَ وَالطَّائِفَ، وَالْعَظِيمُ: الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ الْقُرَشِيُّ وَحَبِيبُ بْنُ عُمَيْرٍ الثَّقَفِيُّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ قال:
يعنون أشرف من محمد الوليد بْنِ الْمُغِيرَةِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَمَسْعُودِ بْنِ عَمْرٍو الثَّقَفِيِّ مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أيضا في قوله: لَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً الْآيَةَ يَقُولُ:
لولا أن أجعل النَّاسَ كُلَّهُمْ كُفَّارًا لَجَعَلْتُ لِبُيُوتِ الْكُفَّارِ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ مِنْ فِضَّةٍ، وَهِيَ دَرَجٌ عليها يصعدون إلى الغرف وسرر فضة، زُخْرُفًا: وَهُوَ الذَّهَبُ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ ماجة عن سهل ابن سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى مِنْهَا كَافِرًا شَرْبَةَ ماء» .
[سورة الزخرف (43) : الآيات 36 الى 45]
وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (40)
فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (44) وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)
قَوْلُهُ: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ يُقَالُ عَشَوْتُ إِلَى النَّارِ: قَصَدْتُهَا، وَعَشَوْتُ عَنْهَا: أَعْرَضْتُ عَنْهَا، كَمَا تَقُولُ: عَدَلْتُ إِلَى فُلَانٍ، وَعَدَلْتُ عَنْهُ، وَمِلْتُ إِلَيْهِ، وَمِلْتُ عَنْهُ، كَذَا قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ وَأَبُو الْهَيْثَمِ وَالْأَزْهَرِيُّ. فَالْمَعْنَى: وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ الْرَّحْمَنِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ مَنْ أَعْرَضَ عَنِ الْقُرْآنِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْحِكْمَةِ إِلَى أَبَاطِيلِ الْمُضِلِّينَ يُعَاقِبُهُ اللَّهُ بِشَيْطَانٍ يُقَيِّضُهُ لَهُ حَتَّى يُضِلَّهُ وَيُلَازِمَهُ قَرِينًا لَهُ، فَلَا يَهْتَدِي مُجَازَاةً لَهُ حِينَ آثَرَ الْبَاطِلَ عَلَى الْحَقِّ الْبَيِّنِ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: الْعَشْوُ النَّظَرُ الضعيف، ومنه:
لنعم الفتى يعشو إِلَى ضَوْءِ نَارِهِ
…
إِذَا الرِّيحُ هَبَّتْ وَالْمَكَانُ جديب
وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَى الْبَيْتِ الْقَصْدُ إِلَى النَّارِ لَا النَّظَرُ إِلَيْهَا بِبَصَرٍ ضَعِيفٍ كَمَا قَالَ الْخَلِيلُ، فَيَكُونُ دَلِيلًا عَلَى مَا قَدَّمْنَا مِنْ أنه بِمَعْنَى الْقَصْدِ، وَبِمَعْنَى الْإِعْرَاضِ وَهَكَذَا مَا أَنْشَدَهُ الْخَلِيلُ مُسْتَشْهِدًا بِهِ عَلَى مَا قَالَهُ مِنْ قَوْلِ الْحُطَيْئَةِ:
مَتَى تَأْتِهِ تَعْشُو إِلَى ضَوْءِ نَارِهِ
…
تَجِدْ خَيْرَ نَارٍ عِنْدَهَا خَيْرُ مَوْقِدِ
فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مَعْنَاهُ: تَقْصِدُ إِلَى ضَوْءِ نَارِهِ، لَا تَنْظُرُ إِلَيْهَا بِبَصَرٍ ضَعِيفٍ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْمَعْنَى فِي الْبَيْتَيْنِ الْمُبَالَغَةُ فِي ضَوْءِ النَّارِ وَسُطُوعِهَا، بِحَيْثُ لَا يَنْظُرُهَا النَّاظِرُ إِلَّا كَمَا يَنْظُرُ مَنْ هُوَ مُعَشَّى البصر لما يلحق بصره من الضعف عند ما يُشَاهِدُهُ مِنْ عِظَمِ وَقُودِهَا. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَخْفَشُ: إِنَّ مَعْنَى وَمَنْ يَعْشُ وَمَنْ تُظْلِمُ عَيْنُهُ، وَهُوَ نَحْوُ قَوْلِ الْخَلِيلِ، وَهَذَا عَلَى قراءة الجمهور وَمَنْ يَعْشُ بِضَمِّ الشِّينِ مِنْ عَشَا يَعْشُو.
وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَمَنْ يَعْشُ بِفَتْحِ الشِّينِ، يُقَالُ عَشَى الرَّجُلُ يَعْشَى عَشْيًا إِذَا عَمِيَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى:
رَأَتْ رَجُلًا غَائِبَ الْوَافِدَيْنِ
…
مُخْتَلِفَ الْخَلْقِ أَعْشَى ضَرِيرَا
وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَالْعَشَا مَقْصُورٌ مَصْدَرُ الْأَعْشَى: وَهُوَ الَّذِي لَا يُبْصِرُ بِاللَّيْلِ وَيُبْصِرُ بِالنَّهَارِ، وَالْمَرْأَةُ عَشْوَاءُ. وَقُرِئَ «يَعْشُو» بِالْوَاوِ عَلَى أَنَّ «مَنْ» مَوْصُولَةٌ غَيْرُ مُتَضَمِّنَةٍ مَعْنَى الشَّرْطِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً بِالنُّونِ وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَيَعْقُوبُ، وَعِصْمَةُ عَنْ عَاصِمٍ وَالْأَعْمَشِ بِالتَّحْتِيَّةِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِالتَّحْتِيَّةِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَرَفْعِ شَيْطَانٍ عَلَى النِّيَابَةِ فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ أَيْ:
مُلَازِمٌ لَهُ لَا يُفَارِقُهُ، أَوْ هُوَ مُلَازِمٌ لِلشَّيْطَانِ لَا يُفَارِقُهُ، بَلْ يَتْبَعُهُ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ وَيُطِيعُهُ فِي كُلِّ مَا يُوَسْوِسُ بِهِ إِلَيْهِ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ أَيْ: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ الَّذِينَ يُقَيِّضُهُمُ اللَّهُ لِكُلِّ أَحَدٍ مِمَّنْ يَعْشُو عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ كَمَا هُوَ مَعْنِيٌّ مِنْ لَيَصُدُّونَهُمْ: أَيْ يَحُولُونَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ سَبِيلِ الْحَقِّ وَيَمْنَعُونَهُمْ مِنْهُ، وَيُوَسْوِسُونَ لَهُمْ أَنَّهُمْ عَلَى الهدى حتى يظنون صِدْقَ مَا يُوَسْوِسُونَ بِهِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ أَيْ: يَحْسَبُ الْكُفَّارُ أَنَّ الشَّيَاطِينَ مُهْتَدُونَ فَيُطِيعُونَهُمْ، أَوْ يَحْسَبُ الْكُفَّارُ بِسَبَبِ تِلْكَ الْوَسْوَسَةِ أَنَّهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ مُهْتَدُونَ حَتَّى إِذا جاءَنا قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالتَّثْنِيَةِ، أَيِ: الْكَافِرُ، وَالشَّيْطَانُ الْمُقَارِنُ لَهُ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ بِالْإِفْرَادِ، أَيِ: الْكَافِرُ أَوْ جَاءَ كلّ واحد منهم قالَ الكافر مخاطبا للشيطان يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ أَيْ: بُعْدَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، فَغَلَبَ الْمَشْرِقُ عَلَى الْمَغْرِبِ.
قَالَ مُقَاتِلٌ: يَتَمَنَّى الْكَافِرُ أَنَّ بَيْنَهُمَا بُعْدَ مَشْرِقِ أَطْوَلِ يَوْمٍ فِي السَّنَةِ مِنْ مَشْرِقِ أَقْصَرِ يَوْمٍ فِي السَّنَةِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَبِهِ قَالَ الْفَرَّاءُ فَبِئْسَ الْقَرِينُ الْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ، أَيْ: أَنْتَ أَيُّهَا الشَّيْطَانُ وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ هَذَا حِكَايَةٌ لِمَا سَيُقَالُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَيْ: لِأَجْلِ ظُلْمِكُمْ أَنْفُسَكُمْ فِي الدُّنْيَا، وَقِيلَ إِنَّ: إِذْ بَدَلٌ مِنَ الْيَوْمِ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَنَّهُمْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الدُّنْيَا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ بِفَتْحِ أَنَّ عَلَى أَنَّهَا وَمَا بَعْدَهَا فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، أَيْ: لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ اشْتِرَاكُكُمْ فِي الْعَذَابِ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ بِسَبَبِ الِاشْتِرَاكِ شَيْءٌ مِنَ الْعَذَابِ لِأَنَّ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنَ الْكُفَّارِ
والشياطين الحظ الأوفر منه. وقيل: إنها لِنَفْيِ النَّفْعِ، أَيْ: لِأَنَّ حَقَّكُمْ أَنْ تَشْتَرِكُوا أَنْتُمْ وَقُرَنَاؤُكُمْ فِي الْعَذَابِ كَمَا كُنْتُمْ مُشْتَرِكِينَ فِي سَبَبِهِ فِي الدُّنْيَا، وَيُقَوِّي هَذَا الْمَعْنَى قِرَاءَةُ ابْنِ عَامِرٍ عَلَى اخْتِلَافٍ عَلَيْهِ فِيهَا بِكَسْرِ إِنَّ.
ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهَا لَا تَنْفَعُ الدَّعْوَةُ وَالْوَعْظُ مَنْ سَبَقَتْ لَهُ الشَّقَاوَةُ فَقَالَ: أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ الْهَمْزَةُ لِإِنْكَارِ التَّعَجُّبِ، أَيْ: لَيْسَ لَكَ ذَلِكَ فَلَا يَضِيقُ صَدْرُكَ إِنْ كَفَرُوا، وَفِيهِ تَسْلِيَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِخْبَارٌ لَهُ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا اللَّهُ عز وجل، وَقَوْلُهُ: وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ عَطْفٌ عَلَى الْعُمْيِ، أَيْ: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ كَانَ كَذَلِكَ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ بِمَنْزِلَةِ الصُّمِّ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ مَا جِئْتَ بِهِ، وَبِمَنْزِلَةِ الْعُمْيِ الَّذِينَ لَا يُبْصِرُونَهُ لِإِفْرَاطِهِمْ فِي الضَّلَالَةِ وَتَمَكُّنِهِمْ مِنَ الْجَهَالَةِ فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ بِالْمَوْتِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ الْعَذَابُ بِهِمْ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ إِمَّا فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: نُخْرِجَنَّكَ مِنْ مَكَّةَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ مِنَ الْعَذَابِ قَبْلَ مَوْتِكَ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ مَتَى شِئْنَا عَذَّبْنَاهُمْ. قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: قَدْ أَرَاهُ اللَّهُ ذَلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: هِيَ فِي أَهْلِ الْإِسْلَامِ يُرِيدُ مَا كَانَ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْفِتَنِ، وَقَدْ كَانَ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِتْنَةٌ شَدِيدَةٌ، فَأَكْرَمَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم وذهب به فَلَمْ يُرِهِ فِي أُمَّتِهِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ أَيْ: مِنَ الْقُرْآنِ وَإِنْ كَذَّبَ بِهِ مَنْ كَذَّبَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أَيْ: طَرِيقٍ وَاضِحٍ، وَالْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ:
فَاسْتَمْسِكْ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ أَيْ: وَإِنَّ الْقُرْآنَ لَشَرَفٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ مِنْ قُرَيْشٍ إِذْ نَزَلَ عَلَيْكَ وَأَنْتَ مِنْهُمْ بِلُغَتِكَ وَلُغَتِهِمْ وَمِثْلُهُ قَوْلِهِ: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ «1» وَقِيلَ: بَيَانٌ لَكَ وَلِأُمَّتِكَ فِيمَا لَكُمْ إِلَيْهِ حَاجَةٌ. وَقِيلَ: تَذْكِرَةٌ تَذْكُرُونَ بِهَا أَمْرَ الدِّينِ وتعملون به وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ عَمَّا جَعَلَهُ اللَّهُ لَكُمْ مِنَ الشَّرَفِ، كَذَا قال الزجاج والكلبي وغيرهما. وقيل: يسئلون عما يلزمهم من القيام بما فيه والعمل به وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ قَالَ الزُّهْرِيُّ، وسعيد ابن جُبَيْرٍ، وَابْنُ زَيْدٍ: إِنَّ جِبْرِيلَ قَالَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أُسْرِيَ بِهِ. فَالْمُرَادُ سُؤَالُ الْأَنْبِيَاءِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ عِنْدَ مُلَاقَاتِهِ لَهُمْ، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ، وَالزَّجَّاجُ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ الْمَعْنَى وَاسْأَلْ أُمَمَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا. وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ، وَالسُّدِّيُّ، وَالضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ، وَعَطَاءٌ، وَالْحَسَنُ وَمَعْنَى الْآيَةِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ:
سُؤَالُهُمْ هَلْ أَذِنَ اللَّهُ بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ فِي مِلَّةٍ مِنَ الْمِلَلِ وَهَلْ سَوَّغَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ؟ وَالْمَقْصُودُ تَقْرِيعُ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ بِأَنَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ لَمْ يَأْتِ فِي شَرِيعَةٍ مِنَ الشَّرَائِعِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ الْمَخْزُومِيِّ أَنَّ قُرَيْشًا قَالَتْ: قَيِّضُوا لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ رَجُلًا يَأْخُذُهُ، فَقَيَّضُوا لِأَبِي بَكْرٍ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ، فَأَتَاهُ وَهُوَ فِي الْقَوْمِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِلَامَ تَدْعُونِي؟
قَالَ: أَدْعُوكَ إِلَى عِبَادَةِ اللَّاتِ وَالْعُزَّى. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَا اللَّاتُ؟ قَالَ: أَوْلَادُ اللَّهِ. قَالَ: وَمَا الْعُزَّى. قَالَ:
بَنَاتُ اللَّهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَمَنْ أُمُّهُمْ؟ فَسَكَتَ طَلْحَةُ فَلَمْ يُجِبْهُ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: أجيبوا الرجل، فسكت
(1) . الأنبياء: 10.