الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سورة غافر (40) : الآيات 41 الى 52]
وَيا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (44) فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ مَا مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (45)
النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (46) وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (47) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (48) وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (49) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَاّ فِي ضَلالٍ (50)
إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52)
كَرَّرَ ذَلِكَ الرَّجُلُ الْمُؤْمِنُ دُعَاءَهُمْ إِلَى اللَّهِ وَصَرَّحَ بِإِيمَانِهِ، وَلَمْ يَسْلُكِ الْمَسَالِكَ الْمُتَقَدِّمَةَ مِنْ إِيهَامِهِ لَهُمْ أَنَّهُ مِنْهُمْ، وَأَنَّهُ إنما تصدّى للتذكير كَرَاهَةَ أَنْ يُصِيبَهُمْ بَعْضُ مَا تَوَعَّدَهُمْ بِهِ مُوسَى، كَمَا يَقُولُهُ الرَّجُلُ الْمُحِبُّ لِقَوْمِهِ مِنَ التَّحْذِيرِ عَنِ الْوُقُوعِ فِيمَا يَخَافُ عَلَيْهِمُ الْوُقُوعَ فِيهِ فَقَالَ: وَيا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ أَيْ: أَخْبِرُونِي عَنْكُمْ كَيْفَ هَذِهِ الْحَالُ: أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ مِنَ النَّارِ وَدُخُولِ الْجَنَّةِ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَإِجَابَةِ رُسُلِهِ، وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ بِمَا تُرِيدُونَهُ مِنِّي مِنَ الشِّرْكِ. قِيلَ: مَعْنَى مَا لِي أَدْعُوكُمْ
ما لكم أدعوكم كما تقول: مالي أراك حزينا أي مالك. ثُمَّ فَسَّرَ الدَّعْوَتَيْنِ فَقَالَ: تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ، فَقَوْلُهُ تَدْعُونَنِي بَدَلٌ مِنْ تَدْعُونَنِي الْأُولَى أَوْ بيان لها مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ أَيْ مَا لَا عِلْمَ لِي بِكَوْنِهِ شَرِيكًا لِلَّهِ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ أَيْ: إِلَى الْعَزِيزِ فِي انْتِقَامِهِ مِمَّنْ كَفَرَ «الْغَفَّارِ» لِذَنْبِ مَنْ آمَنَ بِهِ لَا جَرَمَ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا فِي سُورَةِ هُودٍ، وَجَرَمَ فِعْلٌ مَاضٍ بِمَعْنَى حَقَّ، وَلَا الدَّاخِلَةُ عَلَيْهِ لِنَفْيِ مَا ادَّعَوْهُ وَرَدِّ مَا زَعَمُوهُ، وَفَاعِلُ هَذَا الْفِعْلِ هُوَ قَوْلُهُ: أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ أَيْ: حَقَّ وَوَجَبَ بُطْلَانُ دَعْوَتِهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ لَيْسَ لَهُ اسْتِجَابَةُ دَعْوَةٍ تَنْفَعُ، وَقِيلَ:
لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ تُوجِبُ لَهُ الْأُلُوهِيَّةَ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: لَيْسَ لَهُ شَفَاعَةٌ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ أَيْ: مَرْجِعَنَا ومصيرنا إلى بِالْمَوْتِ أَوَّلًا، وَبِالْبَعْثِ آخِرًا، فَيُجَازِي كُلَّ أَحَدٍ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ أَيِ: الْمُسْتَكْثِرِينَ مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ. قَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ سِيرِينَ: يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالشَّعْبِيُّ: هُمُ السُّفَهَاءُ السَّفَّاكُونَ لِلدِّمَاءِ بِغَيْرِ حَقِّهَا. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الْجَبَّارُونَ، وَالْمُتَكَبِّرُونَ. وَقِيلَ: هم الذين تعدّوا حدود الله، «وأن» فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَطْفٌ عَلَى «أَنَّ» فِي قَوْلِهِ:
أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَالْمَعْنَى: وَحَقٌّ أَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ، وَحَقٌّ أَنَّ الْمُسْرِفِينَ إِلَخْ فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ إذا نزل بكم الْعَذَابُ وَتَعْلَمُونَ أَنِّي قَدْ بَالَغْتُ فِي نُصْحِكُمْ وَتَذْكِيرِكُمْ، وَفِي هَذَا الْإِبْهَامِ مِنَ التَّخْوِيفِ وَالتَّهْدِيدِ مَا لَا يَخْفَى وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ أَيْ: أَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ وَأُسَلِّمُ أَمْرِي إِلَيْهِ. قِيلَ: إِنَّهُ قَالَ هَذَا لَمَّا أَرَادُوا الْإِيقَاعَ بِهِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: هَرَبَ هَذَا الْمُؤْمِنُ إِلَى الْجَبَلِ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ. وَقِيلَ: الْقَائِلُ هُوَ مُوسَى، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ مَا مَكَرُوا أَيْ: وَقَاهُ اللَّهُ مَا أَرَادُوا بِهِ مِنَ المكر السيئ، وما أرادوه بِهِ مِنَ الشَّرِّ. قَالَ قَتَادَةُ:
نَجَّاهُ اللَّهُ مَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ أَيْ: أَحَاطَ بِهِمْ، وَنَزَلَ عَلَيْهِمْ سُوءُ الْعَذَابِ.
قَالَ الْكِسَائِيُّ: يُقَالُ حَاقَ يَحِيقُ حَيْقًا وَحُيُوقًا: إِذَا نَزَلَ وَلَزِمَ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: غَرِقُوا فِي الْبَحْرِ وَدَخَلُوا النَّارَ، وَالْمُرَادُ بِآلِ فِرْعَوْنَ: فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ، وَتَرَكَ التَّصْرِيحَ بِهِ لِلِاسْتِغْنَاءِ بِذِكْرِهِمْ عَنْ ذِكْرِهِ لِكَوْنِهِ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْهُمْ، أَوِ الْمُرَادُ بِآلِ فِرْعَوْنَ فِرْعَوْنُ نَفْسُهُ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّهُمْ قَدْ عُذِّبُوا فِي الدُّنْيَا جَمِيعًا بِالْغَرَقِ، وَسَيُعَذَّبُونَ فِي الْآخِرَةِ بِالنَّارِ ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ مَا أَجْمَلَهُ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ، فَقَالَ: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا فَارْتِفَاعُ النَّارِ عَلَى أَنَّهَا بَدَلٌ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ، وَقِيلَ: عَلَى أَنَّهَا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ: مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ: يُعْرَضُونَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَرَجَّحَهُ الزَّجَّاجُ وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ تَكُونُ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً جَوَابَ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ. وقريء بِالنَّصْبِ عَلَى تَقْدِيرِ فِعْلٍ يُفَسِّرُهُ يُعْرَضُونَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، أَيْ: يَصِلُونَ النَّارَ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا، أَوْ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ الْخَفْضَ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الْعَذَابِ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ أَنَّ هَذَا الْعَرْضَ هُوَ فِي الْبَرْزَخِ، وَقِيلَ: هُوَ فِي الْآخِرَةِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَيَكُونُ فِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، أَيْ: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا، وَلَا مُلْجِئَ إِلَى هَذَا التَّكَلُّفِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ يَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْعَرْضَ هُوَ فِي الْبَرْزَخِ، وَقَوْلُهُ: أَدْخِلُوا هُوَ بِتَقْدِيرِ الْقَوْلِ: أي يقال للملائكة أدخلوا آل فرعون، وأَشَدَّ الْعَذابِ هُوَ عَذَابُ النَّارِ. قَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَنَافِعٌ، وَحَفْصٌ «أَدْخِلُوا» بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْخَاءِ، وَهُوَ عَلَى تَقْدِيرِ الْقَوْلِ كَمَا ذُكِرَ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ «ادْخُلُوا» بِهَمْزَةِ وَصْلٍ مِنْ دَخَلَ يَدْخُلُ أَمْرًا لِآلِ فِرْعَوْنَ بِالدُّخُولِ بِتَقْدِيرِ حَرْفِ النِّدَاءِ، أَيِ: ادْخُلُوا يَا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ الظَّرْفُ مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ اذْكُرْ. وَالْمَعْنَى: اذْكُرْ لِقَوْمِكَ وَقْتَ تَخَاصُمِهِمْ فِي النَّارِ، ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ هَذَا التَّخَاصُمَ فَقَالَ: فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا عَنِ الِانْقِيَادِ لِلْأَنْبِيَاءِ وَالِاتِّبَاعِ لَهُمْ، وَهُمْ رُؤَسَاءُ الْكُفْرِ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً جَمْعٌ لِتَابِعٍ، كَخَدَمٍ وَخَادِمٍ، أَوْ مَصْدَرٌ وَاقِعٌ مَوْقِعَ اسْمِ الْفَاعِلِ، أَيْ: تَابِعِينَ أَوْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: ذَوِي تَبَعٍ. قَالَ الْبَصْرِيُّونَ:
التَّبَعُ يَكُونُ وَاحِدًا وَيَكُونُ جَمْعًا. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ هُوَ جَمْعٌ لَا وَاحِدَ لَهُ فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ أَيْ: هَلْ تَدْفَعُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنْهَا، أَوْ تِحْمِلُونَهُ مَعَنَا، وَانْتِصَابُ نَصِيبًا بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ مُغْنُونَ: أَيْ:
هَلْ تَدْفَعُونَ عَنَّا نَصِيبًا أَوْ تَمْنَعُونَ عَلَى تَضْمِينِهِ مَعْنَى حَامِلِينَ، أَيْ: هَلْ أَنْتُمْ حَامِلُونَ مَعَنَا نَصِيبًا، أَوْ عَلَى المصدرية هَلْ تَدْفَعُونَ عَنَّا نَصِيبًا أَوْ تَمْنَعُونَ عَلَى تَضْمِينِهِ مَعْنَى حَامِلِينَ، أَيْ: هَلْ أَنْتُمْ حَامِلُونَ مَعَنَا نَصِيبًا، أَوْ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ وَالْمَعْنَى: إِنَّا نَحْنُ وَأَنْتُمْ جَمِيعًا فِي جَهَنَّمَ، فَكَيْفَ نُغْنِي عَنْكُمْ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «كُلٌّ» ، بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ «فِيهَا» ، والجملة خبر
إن، قاله الأخفش. وقرأ ابن السميقع وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ «كُلًّا» بِالنَّصْبِ. قَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ عَلَى التَّأْكِيدِ لِاسْمِ إِنَّ بِمَعْنَى كُلِّنَا، وَتَنْوِينُهُ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَقِيلَ: عَلَى الْحَالِ وَرَجَّحَهُ ابْنُ مَالِكٍ إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ أَيْ: قَضَى بَيْنَهُمْ بِأَنَّ فَرِيقًا فِي الْجَنَّةِ، وَفَرِيقًا فِي السَّعِيرِ وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ مِنَ الْأُمَمِ الْكَافِرَةِ، مُسْتَكْبِرِهِمْ وَضَعِيفِهِمْ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ جَمْعُ خَازِنٍ، وَهُوَ الْقَوَّامُ بِتَعْذِيبِ أَهْلِ النَّارِ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ يوما ظرف ليخفف، وَمَفْعُولُ يُخَفِّفْ مَحْذُوفٌ، أَيْ: يُخَفِّفْ عَنَّا شَيْئًا مِنَ الْعَذَابِ مِقْدَارَ يَوْمٍ أَوْ فِي يَوْمٍ، وجملة قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ قالُوا بَلى أَيْ: أَتَوْنَا بِهَا فَكَذَّبْنَاهُمْ وَلَمْ نُؤْمِنْ بِهِمْ وَلَا بِمَا جَاءُوا بِهِ مِنَ الْحُجَجِ الْوَاضِحَةِ، فَلَمَّا اعْتَرَفُوا قالُوا أَيْ: قَالَ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ هُمْ خَزَنَةُ جَهَنَّمَ فَادْعُوا أَيْ: إِذَا كَانَ الأمر كذلك فادعوا أنتم، فإنا لا ندعو لِمَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ وَكَذَّبَ رُسُلَهُ بَعْدَ مَجِيئِهِمْ بِالْحُجَجِ الْوَاضِحَةِ.
ثُمَّ أَخْبَرُوهُمْ بِأَنَّ دُعَاءَهُمْ لَا يُفِيدُ شَيْئًا فَقَالُوا: وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ أَيْ: فِي ضَيَاعٍ وَبُطْلَانٍ وَخَسَارٍ وَتَبَارٍ، وَجُمْلَةُ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُسْتَأْنَفَةٌ مِنْ جِهَتِهِ سُبْحَانَهُ، أَيْ: نَجْعَلُهُمُ الْغَالِبِينَ لِأَعْدَائِهِمُ الْقَاهِرِينَ لَهُمْ، وَالْمَوْصُولُ: فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَطْفًا عَلَى رُسُلِنَا، أَيْ: لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا، وَنَنْصُرُ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا بِمَا عَوَّدَهُمُ اللَّهُ مِنَ الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ بِالْقَتْلِ، وَالسَّلْبِ، وَالْأَسْرِ، وَالْقَهْرِ وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: الْأَشْهَادُ هُمُ الْمَلَائِكَةُ وَالنَّبِيُّونَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ:
الْأَشْهَادُ الْمَلَائِكَةُ تَشْهَدُ لِلْأَنْبِيَاءِ بِالْإِبْلَاغِ، وَعَلَى الْأُمَمِ بِالتَّكْذِيبِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْأَشْهَادُ جَمْعُ شَاهِدٍ مِثْلُ صَاحِبٍ وَأَصْحَابٍ. قَالَ النَّحَّاسُ: لَيْسَ بَابُ فَاعِلٍ أَنْ يُجْمَعَ عَلَى أَفْعَالٍ وَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ مَا جَاءَ مِنْهُ مَسْمُوعًا أُدِّيَ عَلَى مَا يُسْمَعُ، فَهُوَ عَلَى هَذَا جَمْعُ شَهِيدٍ، مِثْلُ شَرِيفٍ وَأَشْرَافٌ، وَمَعْنَى نَصْرِهِمْ يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ: أَنَّ اللَّهَ يُجَازِيهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ، فَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، وَيُكْرِمُهُمْ بِكَرَامَاتِهِ، وَيُجَازِي الْكُفَّارَ بِأَعْمَالِهِمْ، فَيَلْعَنُهُمْ، وَيُدْخِلُهُمُ النَّارَ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ أَيِ: الْبُعْدُ عَنِ الرَّحْمَةِ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ أَيِ: النَّارُ وَيَوْمَ بَدَلٌ مِنْ يوم يقول الْأَشْهَادُ، وَإِنَّمَا لَمْ تَنْفَعْهُمُ الْمَعْذِرَةُ لِأَنَّهَا مَعْذِرَةٌ بَاطِلَةٌ، وَتَعِلَّةٌ دَاحِضَةٌ وَشُبْهَةٌ زَائِغَةٌ، قَرَأَ الْجُمْهُورُ «تَنْفَعُ» بِالْفَوْقِيَّةِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَالْكُوفِيُّونَ بِالتَّحْتِيَّةِ، وَالْكُلُّ جَائِزٌ فِي اللُّغَةِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ قَالَ: السَّفَّاكِينَ لِلدِّمَاءِ بِغَيْرِ حَقِّهَا. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
ثُمَّ قَرَأَ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا أَحْسَنَ مُحْسِنٌ مُسْلِمٌ أَوْ كَافِرٌ إِلَّا أَثَابَهُ اللَّهُ، قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا إِثَابَةُ الْكَافِرِ؟ قَالَ: الْمَالُ وَالْوَلَدُ وَالصِّحَّةُ وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ، قُلْنَا: وَمَا إِثَابَتُهُ فِي الآخرة؟