الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سورة سبإ (34) : الآيات 22 الى 27]
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَاّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا مَاذَا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26)
قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلَاّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
قَوْلُهُ: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ هَذَا أَمْرٌ للنبيّ صلى الله عليه وسلم بِأَنْ يَقُولَ لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ أَوْ لِلْكُفَّارِ عَلَى الْإِطْلَاقِ هَذَا الْقَوْلَ، وَمَفْعُولَا زَعَمْتُمْ مَحْذُوفَانِ، أَيْ: زَعَمْتُمُوهُمْ آلِهَةً لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِمَا. قَالَ مُقَاتِلٌ:
يَقُولُ ادْعُوهُمْ لِيَكْشِفُوا عَنْكُمُ الضُّرَّ الَّذِي نزل بكم في سنّي الْجُوعِ. ثُمَّ أَجَابَ سُبْحَانَهُ عَنْهُمْ فَقَالَ: لَا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ أَيْ: لَيْسَ لَهُمْ قُدْرَةٌ عَلَى خَيْرٍ وَلَا شَرٍّ، وَلَا عَلَى جَلْبِ نَفْعٍ وَلَا دَفْعِ ضَرَرٍ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ، وَذَكَرَ السموات وَالْأَرْضَ لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ لِكَوْنِهِمَا ظَرْفًا لِلْمَوْجُودَاتِ الْخَارِجِيَّةِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ أَيْ: لَيْسَ للآلهة في السموات وَالْأَرْضِ مُشَارَكَةٌ لَا بِالْخَلْقِ وَلَا بِالْمِلْكِ وَلَا بِالتَّصَرُّفِ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ أَيْ: وَمَا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ مِنْ تِلْكَ الْآلِهَةِ مِنْ معين يعينه على شيء من أمر السموات وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِمَا وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ أَيْ: شَفَاعَةُ مَنْ يَشْفَعُ عِنْدَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَقَوْلُهُ: إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ مِنْ أَعَمِّ الْأَحْوَالِ، أَيْ: لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا كَائِنَةً لِمَنْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يَشْفَعَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ وَنَحْوِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنْ يَسْتَحِقُّ الشَّفَاعَةَ، لَا لِلْكَافِرِينَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: لا تنفع الشفاعة من الشفاء الْمُتَأَهِّلِينَ لَهَا فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا كَائِنَةً لِمَنْ أَذِنَ لَهُ أَيْ: لِأَجْلِهِ وَفِي شَأْنِهِ مِنَ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلشَّفَاعَةِ لَهُمْ، لَا مَنْ عَدَاهُمْ مِنْ غَيْرِ الْمُسْتَحِقِّينَ لَهَا، وَاللَّامُ فِي لِمَنْ يَجُوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِنَفْسِ الشَّفَاعَةِ. قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ:
كَمَا تَقُولُ شَفَعْتُ لَهُ، وَيَجُوزُ أن تتعلق بتنفع، وَالْأَوْلَى أَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَحْذُوفِ كَمَا ذَكَرْنَا. قِيلَ: وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ:
لَا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ أَنَّهَا لَا تُوجَدُ أَصْلًا إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ، وَإِنَّمَا عَلَّقَ النَّفْيَ بِنَفْعِهَا لَا بِوُقُوعِهَا تَصْرِيحًا بِنَفْيِ مَا هُوَ غَرَضُهُمْ مِنْ وُقُوعِهَا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ أَذِنَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ: أَيْ أَذِنَ لَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، لِأَنَّ اسْمَهُ سُبْحَانَهُ مَذْكُورٌ قَبْلَ هَذَا، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ بِضَمِّهَا عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَالْآذِنُ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ «1» وقوله: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى «2» ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ خَوْفِ هَؤُلَاءِ الشُّفَعَاءِ وَالْمَشْفُوعِ لَهُمْ فَقَالَ: حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَرَأَ الْجُمْهُورُ: فُزِّعَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَالْفَاعِلُ: هُوَ اللَّهُ، وَالْقَائِمُ مَقَامَ الْفَاعِلِ: هُوَ الْجَارُّ والمجرور، وقرأ ابن عامر: فزّع مبنيا لِلْفَاعِلِ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ يَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وكلا القراءتين بتشديد الزاي، وفعّل:
(1) . البقرة: 255.
(2)
. الأنبياء: 28.
معناه السلب، فالتقريع إِزَالَةُ الْفَزَعِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ مِثْلَ قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ إِلَّا أَنَّهُ خَفَّفَ الزَّايَ. قَالَ قُطْرُبٌ: مَعْنَى فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ أُخْرِجَ مَا فِيهَا مِنَ الْفَزَعِ، وَهُوَ الْخَوْفُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كُشِفَ عَنْ قُلُوبِهِمُ الْغِطَاءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ الشَّفَاعَةَ لَا تَكُونُ مِنْ أَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَعْبُودِينَ من دون اللَّهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالْأَصْنَامِ، إِلَّا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَأْذَنُ لِلْمَلَائِكَةِ، وَالْأَنْبِيَاءِ، وَنَحْوِهِمْ فِي الشَّفَاعَةِ لِمَنْ يَسْتَحِقُّهَا، وَهُمْ عَلَى غَايَةِ الْفَزَعِ مِنَ اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ فَإِذَا أَذِنَ لَهُمْ فِي الشَّفَاعَةِ فَزِعُوا لِمَا يَقْتَرِنُ بِتِلْكَ الْحَالَةِ مِنَ الْأَمْرِ الْهَائِلِ، وَالْخَوْفِ الشَّدِيدِ مِنْ أَنْ يَحْدُثَ شَيْءٌ مِنْ أَقْدَارِ اللَّهِ، فَإِذَا سُرِّيَ عَلَيْهِمْ قالُوا لِلْمَلَائِكَةِ فَوْقَهُمْ، وَهُمُ الَّذِينَ يُورِدُونَ عَلَيْهِمُ الْوَحْيَ بِالْإِذْنِ مَاذَا قالَ رَبُّكُمْ أَيْ: مَاذَا أَمَرَ بِهِ، فَيَقُولُونَ لَهُمْ قَالَ: الْقَوْلَ الْحَقَّ وَهُوَ قَبُولُ شَفَاعَتِكُمْ لِلْمُسْتَحِقِّينَ لَهَا دُونَ غَيْرِهِمْ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ فَلَهُ أَنْ يَحْكُمَ فِي عِبَادِهِ بِمَا يَشَاءُ، وَيَفْعَلَ مَا يُرِيدُ، وَقِيلَ: هَذَا الْفَزَعُ يَكُونُ لِلْمَلَائِكَةِ فِي كُلِّ أَمْرٍ يَأْمُرُ بِهِ الرَّبُّ. وَالْمَعْنَى: لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مِنَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ هُمْ فَزِعُونَ الْيَوْمَ مُطِيعُونَ لِلَّهِ، دُونَ الْجَمَادَاتِ وَالشَّيَاطِينِ، وَقِيلَ: إِنَّ الَّذِينَ يَقُولُونَ: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ هُمُ الْمَشْفُوعُ لَهُمْ، وَالَّذِينَ أَجَابُوهُمْ: هُمُ الشُّفَعَاءُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَمُجَاهِدٌ: مَعْنَى الْآيَةِ: حَتَّى إِذَا كُشِفَ الْفَزَعُ عَنْ قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ فِي الْآخِرَةِ. قَالَتْ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ:
مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ فِي الدُّنْيَا؟ قَالُوا الْحَقَّ، فَأَقَرُّوا حِينَ لَا يَنْفَعُهُمُ الْإِقْرَارُ. وَقَرَأَ ابْنُ عُمَرَ وَقَتَادَةُ: فَرَّغَ بِالرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ مِنَ الْفَرَاغِ. وَالْمَعْنَى: فَرَّغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ، أَيْ: كَشَفَ عَنْهَا الْخَوْفَ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ (افْرُنْقِعَ) بَعْدَ الْفَاءِ رَاءٌ مُهْمَلَةٌ ثُمَّ نُونٌ ثُمَّ قَافٌ ثُمَّ عَيْنٌ مُهْمَلَةٌ مِنَ الِافْرِنْقَاعِ: وَهُوَ التَّفَرُّقُ. ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ أَنْ يُبَكِّتَ الْمُشْرِكِينَ وَيُوَبِّخَهُمْ فَقَالَ: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَيْ: مَنْ يُنْعِمُ عَلَيْكُمْ بِهَذِهِ الْأَرْزَاقِ الَّتِي تَتَمَتَّعُونَ بِهَا، فَإِنَّ آلِهَتَكُمْ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، وَالرِّزْقُ مِنَ السَّمَاءِ: هُوَ الْمَطَرُ وَمَا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْهَا: مِنَ الشَّمْسِ، وَالْقَمَرِ، وَالنُّجُومِ، وَالرِّزْقُ مِنَ الْأَرْضِ: هُوَ النَّبَاتُ، وَالْمَعَادِنُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَلَمَّا كَانَ الْكُفَّارُ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى جَوَابِ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ، وَلَمْ تَقْبَلْ عُقُولُهُمْ نِسْبَةَ هَذَا الرِّزْقِ إِلَى آلِهَتِهِمْ، وَرُبَّمَا يَتَوَقَّفُونَ فِي نِسْبَتِهِ إِلَى اللَّهِ مَخَافَةَ أَنْ تَقُومَ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ، فَأَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِأَنْ يُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: قُلِ اللَّهُ أَيْ:
هُوَ الَّذِي يَرْزُقُكُمْ من السموات وَالْأَرْضِ، ثُمَّ أَمَرَهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُخْبِرَهُمْ بِأَنَّهُمْ عَلَى ضَلَالَةٍ، لَكِنْ عَلَى وَجْهِ الْإِنْصَافِ فِي الْحُجَّةِ بَعْدَ مَا سَبَقَ تَقْرِيرُ مَنْ هُوَ عَلَى الْهُدَى وَمَنْ هُوَ عَلَى الضَّلَالَةِ، فَقَالَ: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وَالْمَعْنَى: أَنَّ أَحَدَ الْفَرِيقَيْنِ مِنَ الذين يوحدون الله الخالق الرّزاق وَيَخُصُّونَهُ بِالْعِبَادَةِ، وَالَّذِينَ يَعْبُدُونَ الْجَمَادَاتِ الَّتِي لَا تَقْدِرُ عَلَى خَلْقٍ، وَلَا رِزْقٍ، وَلَا نَفْعٍ، وَلَا ضُرٍّ لَعَلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْهُدَى وَالضَّلَالَةِ، وَمَعْلُومٌ لِكُلِّ عَاقِلٍ أَنَّ مَنْ عَبَدَ الَّذِي يَخْلُقُ وَيَرْزُقُ وَيَنْفَعُ وَيَضُرُّ: هُوَ الَّذِي عَلَى الْهُدَى، وَمَنْ عَبَدَ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى خَلْقٍ وَلَا رِزْقٍ وَلَا نَفْعٍ وَلَا ضُرٍّ: هُوَ الَّذِي عَلَى الضَّلَالَةِ، فَقَدْ تَضَمَّنَ هَذَا الْكَلَامُ بَيَانَ فَرِيقِ الْهُدَى، وَهُمُ الْمُسْلِمُونَ، وَفَرِيقِ الضَّلَالَةِ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ عَلَى وَجْهٍ أَبْلَغَ مِنَ التَّصْرِيحِ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ مَعْنَى قَوْلِ الْمُتَبَصِّرِ فِي الْحُجَّةِ لِصَاحِبِهِ: أَحَدُنَا كَاذِبٌ، وَقَدْ عَرَفَ أَنَّهُ الصَّادِقُ الْمُصِيبُ، وَصَاحِبَهُ الكاذب المخطئ. قال: وأو عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ عَلَى بَابِهَا وَلَيْسَتْ لِلشَّكِّ، لَكِنَّهَا عَلَى مَا تَسْتَعْمِلُهُ الْعَرَبُ فِي مِثْلِ هَذَا إذا
لَمْ يُرِدِ الْمُخْبِرُ أَنْ يُبَيِّنَ وَهُوَ عَالِمٌ بِالْمَعْنَى. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْفَرَّاءُ: هِيَ بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَتَقْدِيرُهُ: وَإِنَّا عَلَى هُدًى وَإِيَّاكُمْ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ جَرِيرٍ:
أَثَعْلَبَةَ الْفَوَارِسِ أو رياحا
…
عدلت بهم طهيّة والخشابا «1»
أي ثعلبة ورياحا، وَكَذَا قَوْلُ الْآخَرِ:
فَلَمَّا اشْتَدَّ بَأْسُ الْحَرْبِ فينا
…
تأمّلنا رياحا أَوْ رِزَامَا
أَيْ: وَرِزَامًا، وَقَوْلُهُ: أَوْ إِيَّاكُمْ مَعْطُوفٌ عَلَى اسْمِ إِنَّ، وَخَبَرُهَا: هُوَ الْمَذْكُورُ، وَحُذِفَ خَبَرُ الثَّانِي لِلدَّلَالَةِ عَلَيْهِ، أَيْ: إِنَّا لَعَلَى هُدًى، أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، وَإِنَّكُمْ لَعَلَى هُدًى، أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، وَيَجُوزُ الْعَكْسُ:
وَهُوَ كَوْنُ الْمَذْكُورِ خَبَرَ الثَّانِي، وَخَبَرِ الْأَوَّلِ مَحْذُوفًا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ «2» ثُمَّ أَرْدَفَ سُبْحَانَهُ هَذَا الْكَلَامَ الْمُنْصِفَ بِكَلَامٍ أَبْلَغَ مِنْهُ فِي الْإِنْصَافِ، وَأَبْعَدَ مِنَ الْجَدَلِ والمشاغبة فقال: قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ أَيْ: إِنَّمَا أَدْعُوكُمْ إِلَى مَا فِيهِ خَيْرٌ لَكُمْ وَنَفْعٌ، وَلَا يَنَالُنِي مِنْ كُفْرِكُمْ وَتَرْكِكُمْ لِإِجَابَتِي ضَرَرٌ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ «3» وَفِي إِسْنَادِ الْجُرْمِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ وَنِسْبَةِ مُطْلَقِ الْعَمَلِ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ، مَعَ كَوْنِ أَعْمَالِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْبِرِّ الْخَالِصِ وَالطَّاعَةِ الْمَحْضَةِ، وَأَعْمَالِ الْكُفَّارِ مِنَ الْمَعْصِيَةِ الْبَيِّنَةِ، وَالْإِثْمِ الْوَاضِحِ مِنَ الْإِنْصَافِ مَا لَا يُقَادَرُ قَدْرُهُ. وَالْمَقْصُودُ: الْمُهَادَنَةُ وَالْمُتَارَكَةُ، وَقَدْ نُسِخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَأَمْثَالُهَا بِآيَةِ السَّيْفِ. ثُمَّ أَمَرَهُ سُبْحَانَهُ بِأَنْ يُهَدِّدَهُمْ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ، لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ لَا تَصْرِيحَ فِيهِ فَقَالَ: قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ أَيْ: يَحْكُمُ وَيَقْضِي بَيْنَنَا بِالْحَقِّ، فَيُثِيبُ الْمُطِيعَ، وَيُعَاقِبُ الْعَاصِيَ وَهُوَ الْفَتَّاحُ أَيْ: الْحَاكِمُ بِالْحَقِّ الْقَاضِي بِالصَّوَابِ الْعَلِيمُ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِحُكْمِهِ وَقَضَائِهِ مِنَ الْمَصَالِحِ. وَهَذِهِ أَيْضًا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ. ثُمَّ أَمَرَهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُورِدَ عَلَيْهِمْ حُجَّةً أُخْرَى يُظْهِرُ بِهَا مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْخَطَأِ فَقَالَ: قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ أَيْ: أَرَوْنِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمُوهُمْ بِاللَّهِ شُرَكَاءَ لَهُ، وَهِذِهِ الرُّؤْيَةُ: هِيَ الْقَلْبِيَّةُ، فَيَكُونُ شُرَكَاءَ: هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّالِثُ، لِأَنَّ الْفِعْلَ تَعَدَّى بِالْهَمْزَةِ إِلَى ثَلَاثَةٍ. الْأَوَّلُ: الْيَاءُ فِي أَرَوْنِيَ، وَالثَّانِي: الْمَوْصُولُ، وَالثَّالِثُ: شُرَكَاءَ، وَعَائِدُ الْمَوْصُولِ:
مَحْذُوفٌ، أَيْ: أَلْحَقْتُمُوهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هِيَ الْبَصَرِيَّةُ، وَتَعَدَّى الْفِعْلُ بِالْهَمْزَةِ إِلَى اثْنَيْنِ: الْأَوَّلُ: الْيَاءُ، وَالثَّانِي: الْمَوْصُولُ، وَيَكُونُ شُرَكَاءَ مُنْتَصِبًا عَلَى الْحَالِ. ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِمْ مَا يَدَّعُونَهُ مِنَ الشُّرَكَاءِ وَأَبْطَلَ ذَلِكَ فَقَالَ:
كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أَيِ: ارْتَدِعُوا عَنْ دَعْوَى الْمُشَارَكَةِ، بَلِ الْمُنْفَرِدُ بِالْإِلَهِيَّةِ، هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، الْحَكِيمُ بِالْحِكْمَةِ الْبَاهِرَةِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالَ: جُلِّيَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا أَوْحَى الْجَبَّارُ إلى محمّد صلى الله عليه وسلم دَعَا الرَّسُولَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لِيَبْعَثَهُ بِالْوَحْيِ،
(1) . ثعلبة ورياح: ممدوحا جرير، وطهية والخشاب: مهجوا جرير. [ديوان جرير: 58] .
(2)
. التوبة: 62.
(3)
. الكافرون: 6.