الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فِي النَّارِ، وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ كَفَرُوا: هُمُ الْمَذْكُورُونَ سَابِقًا، وَالْإِظْهَارُ لِمَزِيدِ الذَّمِّ، أَوْ لِلْكُفَّارِ عَلَى الْعُمُومِ فَيَدْخُلُ هَؤُلَاءِ فِيهِمْ دُخُولًا أَوَّلِيًّا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كانُوا يَعْمَلُونَ أَيْ: إِلَّا جَزَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَهُ مِنَ الشِّرْكِ بِاللَّهِ، أَوْ إِلَّا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ عَلَى حَذْفِ الْخَافِضِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ قَالَ: إِلَى النَّاسِ جَمِيعًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: أَرْسَلَ اللَّهُ مُحَمَّدًا إِلَى الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، فَأَكْرَمُهُمْ عَلَى اللَّهِ أَطْوَعُهُمْ لَهُ. وَأَخْرَجَ هَؤُلَاءِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ قَالَ: هَذَا قَوْلُ مُشْرِكِي الْعَرَبِ كَفَرُوا بِالْقُرْآنِ وبالذي بين يديه من الكتب والأنبياء.
[سورة سبإ (34) : الآيات 34 الى 42]
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَاّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (34) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلَاّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (38)
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (40) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (42)
لَمَّا قَصَّ سُبْحَانَهُ حَالَ مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْكُفَّارِ أَتْبَعَهُ بِمَا فِيهِ التَّسْلِيَةُ لِرَسُولِهِ، وَبَيَانِ أَنَّ كُفْرَ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ بِمَنْ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ مِنَ الرُّسُلِ هُوَ كَائِنٌ مُسْتَمِرٌّ فِي الْأَعْصُرِ الْأُوَلِ فَقَالَ: وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنَ الْقُرَى مِنْ نَذِيرٍ يُنْذِرُهُمْ وَيُحَذِّرُهُمْ عِقَابَ اللَّهِ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها أَيْ: رُؤَسَاؤُهَا وَأَغْنِيَاؤُهَا وَجَبَابِرَتُهَا وَقَادَةُ الشَّرِّ لِرُسُلِهِمْ إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ أَيْ: بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ، وَجُمْلَةُ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. ثُمَّ ذَكَرَ مَا افْتَخَرُوا بِهِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَقَاسُوا حَالَهُمْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ عَلَى حَالِهِمْ فِي هَذِهِ الدَّارِ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ مَا أَنْذَرَهُمْ بِهِ الرُّسُلُ فَقَالَ: وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ فَضَّلَنَا عَلَيْكُمْ بِالْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ فِي الدُّنْيَا، وَذَلِكَ يدل على أنه قد رضي ما نَحْنُ عَلَيْهِ مِنَ الدِّينِ، وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ فِي الْآخِرَةِ بَعْدَ إِحْسَانِهِ إِلَيْنَا فِي الدُّنْيَا، وَرِضَاهُ عَنَّا، فَأَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم بِأَنْ يُجِيبَ عَنْهُمْ وَقَالَ: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ أَنْ يَبْسُطَهُ لَهُ وَيَقْدِرُ أَيْ: يُضَيِّقُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ أَنْ يُضَيِّقَهُ عَلَيْهِ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ يَرْزُقُ الْكَافِرَ وَالْعَاصِيَ اسْتِدْرَاجًا لَهُ، وَقَدْ يَمْتَحِنُ الْمُؤْمِنَ بِالتَّقْتِيرِ تَوْفِيرًا لِأَجْرِهِ، وَلَيْسَ مُجَرَّدُ بَسْطِ الرِّزْقِ لمن لَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ رَضِيَ عَنْهُ ورضي عمله، ولا قَبَضَهُ عَنْهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَرْضَهُ، وَلَا رَضِيَ عَمَلَهُ، فَقِيَاسُ الدَّارِ الْآخِرَةِ عَلَى الدَّارِ الْأُولَى فِي مِثْلِ هَذَا مِنَ الْغَلَطِ البين أو المغالطة لواضحة وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ هَذَا، وَمِنْ جُمْلَةِ هَؤُلَاءِ الْأَكْثَرِ مَنْ قَاسَ أَمْرَ الْآخِرَةِ على الأولى،
ثُمَّ زَادَ هَذَا الْجَوَابَ تَأْيِيدًا وَتَأْكِيدًا وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى أَيْ: لَيْسُوا بِالْخَصْلَةِ الَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا قُرْبَى. قَالَ مُجَاهِدٌ: الزُّلْفَى: الْقُرْبَى، وَالزُّلْفَةُ: الْقُرْبَةُ. قَالَ الْأَخْفَشُ: زُلْفَى اسْمُ مَصْدَرٍ كَأَنَّهُ قَالَ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا تَقْرِيبًا فَتَكُونُ زُلْفَى مَنْصُوبَةَ الْمَحَلِّ. قَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّ الَّتِي تَكُونُ لِلْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ جَمِيعًا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ الْمَعْنَى وَمَا أَمْوَالُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى، وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالشَّيْءِ يُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى، ثُمَّ حُذِفَ خَبَرُ الْأَوَّلِ لِدَلَالَةِ الثَّانِي عَلَيْهِ وَأَنْشَدَ:
نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنْتَ بِمَا
…
عِنْدَكَ رَاضٍ وَالرَّأْيُ مُخْتَلِفٌ
وَيَجُوزُ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ بِاللَّتَيْنِ وَبِاللَّاتِي وَبِاللَّوَاتِي وَبِالَّذِي لِلْأَوْلَادِ خَاصَّةً أَيْ: لَا تَزِيدُكُمُ الْأَمْوَالُ عِنْدَنَا دَرَجَةً وَرِفْعَةً وَلَا تُقَرِّبُكُمْ تَقْرِيبًا إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ فَيَكُونُ مَحَلَّهُ النَّصْبُ، أَيْ: لَكِنْ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا، أَوْ فِي مَحَلِّ جَرٍّ بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي تُقَرِّبُكُمْ، كَذَا قَالَ الزَّجَّاجُ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا الْقَوْلُ غَلَطٌ، لِأَنَّ الْكَافَ وَالْمِيمَ لِلْمُخَاطَبِ فَلَا يَجُوزُ الْبَدَلُ وَلَوْ جَازَ هَذَا لَجَازَ رَأَيْتُكَ زَيْدًا. وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الْأَخْفَشَ وَالْكُوفِيِّينَ يُجَوِّزُونَ ذَلِكَ، وقد قال بمثل قول الزجاج الفراء وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِمَعْنَى مَا هُوَ إِلَّا مَنْ آمَنَ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: فَأُولئِكَ إِلَى مَنْ، وَالْجَمْعُ بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهَا وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ أَيْ: جَزَاءُ الزِّيَادَةِ، وَهِيَ الْمُرَادَةُ بِقَوْلِهِ: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها «1» .
وَهُوَ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى الْمَفْعُولِ، أَيْ: جَزَاءُ التَّضْعِيفِ لِلْحَسَنَاتِ، وَقِيلَ: لَهُمْ جَزَاءُ الْإِضْعَافِ لِأَنَّ الضِّعْفَ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ، وَالْبَاءُ فِي بِما عَمِلُوا لِلسَّبَبِيَّةِ وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ مِنْ جَمِيعِ مَا يَكْرَهُونَ، وَالْمُرَادُ غُرُفَاتُ الْجَنَّةِ، قَرَأَ الْجُمْهُورُ جَزاءُ الضِّعْفِ بِالْإِضَافَةِ، وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ وَيَعْقُوبُ وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ وَقَتَادَةُ بِرَفْعِهِمَا عَلَى أَنَّ الضِّعْفِ بَدَلٌ مِنْ جَزَاءُ. وَرُوِيَ عَنْ يَعْقُوبَ أَنَّهُ قَرَأَ «جَزَاءً» بِالنَّصْبِ مُنَوَّنًا، وَ «الضعف» بالرفع على تقدير: فَأُولَئِكَ لَهُمُ الضِّعْفُ جَزَاءً، أَيْ: حَالَ كَوْنِهِ جَزَاءً. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فِي الْغُرُفاتِ بِالْجَمْعِ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدٍ لِقَوْلِهِ: لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً «2» وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَحَمْزَةُ وَخَلَفٌ «فِي الْغُرْفَةِ» بِالْإِفْرَادِ لِقَوْلِهِ: أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ «3» وَلَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ ذَكَرَ حَالَ الْكَافِرِينَ فَقَالَ: وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا بِالرَّدِّ لَهَا وَالطَّعْنِ فِيهَا حَالَ كَوْنِهِمْ مُعاجِزِينَ مُسَابِقِينَ لَنَا زَاعِمِينَ أَنَّهُمْ يَفُوتُونَنَا بِأَنْفُسِهِمْ، أَوْ مُعَانِدِينَ لَنَا بِكُفْرِهِمْ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ أَيْ: فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ تُحْضِرُهُمُ الزَّبَانِيَةُ إِلَيْهَا لَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا. ثُمَّ كَرَّرَ سُبْحَانَهُ مَا تَقَدَّمَ لِقَصْدِ التَّأْكِيدِ لِلْحُجَّةِ، وَالدَّفْعِ لِمَا قَالَهُ الْكَفَرَةُ فَقَالَ: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ أَيْ: يُوَسِّعُهُ لِمَنْ يَشَاءُ، وَيُضَيِّقُهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى سَعَادَةٍ وَلَا شَقَاوَةٍ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ أَيْ يُخْلِفُهُ عَلَيْكُمْ، يُقَالُ أَخْلَفَ لَهُ وَأَخْلَفَ عَلَيْهِ: إِذَا أَعْطَاهُ عِوَضَهُ وَبَدَلَهُ، وَذَلِكَ الْبَدَلُ إِمَّا فِي الدُّنْيَا وَإِمَّا فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ فَإِنَّ رِزْقَ الْعِبَادِ لِبَعْضِهِمُ الْبَعْضَ إِنَّمَا هُوَ بِتَيْسِيرِ اللَّهِ وَتَقْدِيرِهِ، وَلَيْسُوا بِرَازِقِينَ عَلَى الْحَقِيقَةِ بَلْ عَلَى طَرِيقِ الْمَجَازِ، كَمَا يقال في الرجل إنه يرزق عياله،
(1) . الأنعام: 160.
(2)
. العنكبوت: 58.
(3)
. الفرقان: 75. [.....]
وفي الأمير إنه يرزق جنده، والرزاق لِلْأَمِيرِ وَالْمَأْمُورِ وَالْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ هُوَ الْخَالِقُ لَهُمْ، وَمَنْ أَخْرَجَ مِنَ الْعِبَادِ إِلَى غَيْرِهِ شَيْئًا مِمَّا رَزَقَهُ اللَّهُ فَهُوَ إِنَّمَا تَصَرَّفَ فِي رزق الله فاستحق بما خرج من الثَّوَابَ عَلَيْهِ الْمُضَاعَفَ لِامْتِثَالِهِ لِأَمْرِ اللَّهِ وَإِنْفَاقِهِ فيما أمره الله وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً الظَّرْفُ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ نَحْوِ اذْكُرْ، أو هو متصل بقول: وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ أَيْ: وَلَوْ تَرَاهُمْ أَيْضًا يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا للحساب العابد والمعبود، والمستكبر والمستضعف، ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ تَقْرِيعًا لِلْمُشْرِكِينَ وَتَوْبِيخًا لِمَنْ عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ عز وجل كَمَا فِي قَوْلِهِ لِعِيسَى: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ «1» وَإِنَّمَا خَصَّصَ الْمَلَائِكَةَ بِالذِّكْرِ مَعَ أَنَّ بَعْضَ الْكُفَّارِ قَدْ عَبَدَ غَيْرَهُمْ مِنَ الشَّيَاطِينِ وَالْأَصْنَامِ لِأَنَّهُمْ أَشْرَفُ مَعْبُودَاتِ الْمُشْرِكِينَ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ إِذَا أَكْذَبَتْهُمْ كَانَ فِي ذَلِكَ تَبْكِيتٌ لِلْمُشْرِكِينَ، وَجُمْلَةُ: قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابَ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: تَنْزِيهًا لَكَ أَنْتَ الَّذِي نَتَوَلَّاهُ وَنُطِيعُهُ وَنَعْبُدُهُ مِنْ دُونِهِمْ، مَا اتَّخَذْنَاهُمْ عَابِدِينَ وَلَا تَوَلَّيْنَاهُمْ وَلَيْسَ لَنَا غَيْرُكَ وَلِيًّا، ثُمَّ صَرَّحُوا بِمَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَعْبُدُونَهُ فَقَالُوا: بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَيِ: الشَّيَاطِينَ وَهُمْ إِبْلِيسُ وَجُنُودُهُ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَرَوْنَهُمْ، وَأَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ، وَأَنَّهُمْ بَنَاتُ اللَّهِ، وَقِيلَ: كَانُوا يَدْخُلُونَ أَجْوَافَ الْأَصْنَامِ وَيُخَاطِبُونَهُمْ مِنْهَا أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ أَيْ: أَكْثَرُ الْمُشْرِكِينَ بِالْجِنِّ مُؤْمِنُونَ بِهِمْ مُصَدِّقُونَ لَهُمْ، قِيلَ: وَالْأَكْثَرُ فِي مَعْنَى الْكُلِّ فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا يَعْنِي الْعَابِدِينَ وَالْمَعْبُودِينَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُهُمْ وَهُمُ الْمَعْبُودُونَ لِبَعْضٍ، وَهُمُ الْعَابِدُونَ نَفْعاً أَيْ: شَفَاعَةً وَنَجَاةً وَلا ضَرًّا أَيْ: عذابا وهلاكا، إنما قِيلَ لَهُمْ هَذَا الْقَوْلُ إِظْهَارًا لِعَجْزِهِمْ وَقُصُورِهِمْ وَتَبْكِيتًا لِعَابِدِيهِمْ، وَقَوْلُهُ: وَلا ضَرًّا هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: لَا يَمْلِكُونَ لَهُمْ دَفْعَ ضَرٍّ، وَقَوْلُهُ: وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَيْ: لِلَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِعِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ فِي الدُّنْيَا.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي رَزِينٍ قَالَ: كَانَ رَجُلَانِ شَرِيكَيْنِ، خَرَجَ أَحَدُهُمَا إِلَى السَّاحِلِ وَبَقِيَ الْآخَرُ، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ النبيّ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إِلَى صَاحِبِهِ يَسْأَلُهُ مَا فَعَلَ؟ فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يَتْبَعْهُ أَحَدٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَّا رُذَالَةُ النَّاسِ وَمَسَاكِينُهُمْ، فَتَرَكَ تِجَارَتَهُ ثُمَّ أَتَى صَاحِبَهُ فَقَالَ: دُلَّنِي عَلَيْهِ، وَكَانَ يَقْرَأُ الْكُتُبَ، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إلى ما تَدْعُو؟ قَالَ: إِلَى كَذَا وَكَذَا، قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ: وَمَا عِلْمُكَ بِذَلِكَ؟
قَالَ: إِنَّهُ لَمْ يُبْعَثْ نَبِيٌّ إِلَّا اتَّبَعَهُ رَذَالَةُ النَّاسِ وَمَسَاكِينُهُمْ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها الْآيَاتِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَنْزَلَ تَصْدِيقَ مَا قُلْتَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: جَزاءُ الضِّعْفِ قَالَ: تَضْعِيفُ الْحَسَنَةِ. وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: إِذَا كَانَ الرَّجُلُ غَنِيًّا تَقِيًّا آتَاهُ اللَّهُ أَجْرَهُ مَرَّتَيْنِ، وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ قَالَ: تَضْعِيفُ
(1) . المائدة:.