الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الذَّبِيحُ إِسْحَاقُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ قَالَ: أَكَبَّهُ عَلَى وَجْهِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: صَرَعَهُ لِلذَّبْحِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي قَوْلِهِ: وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ قَالَ: كَبْشٌ أَعْيَنُ أَبْيَضُ أَقْرَنُ قَدْ رُبِطَ بِسَمُرَةٍ فِي أَصْلِ ثَبِيرٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ قَالَ: كَبْشٌ قَدْ رَعَى فِي الْجَنَّةِ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا، وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْهُ قَالَ: فُدِيَ إِسْمَاعِيلُ بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ أَعْيَنَيْنِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: نَذَرْتُ لِأَنْحَرَ نَفْسِي، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، ثُمَّ تَلَا وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ، فَأَمَرَهُ بِكَبْشٍ فَذَبَحَهُ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْهُ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ قَالَ: إِنَّمَا بُشِّرَ بِهِ نَبِيًّا حِينَ فَدَاهُ اللَّهُ مِنَ الذَّبْحِ وَلَمْ تَكُنِ الْبِشَارَةُ بِالنُّبُوَّةِ عِنْدَ مَوْلِدِهِ.
وَبِمَا سُقْنَاهُ مِنَ الِاخْتِلَافِ فِي الذَّبِيحِ هَلْ هُوَ إِسْحَاقُ أَوْ إِسْمَاعِيلُ، وَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْمُخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَقَامِ مَا يُوجِبُ الْقَطْعَ، أَوْ يَتَعَيَّنُ رُجْحَانُهُ تَعَيُّنًا ظَاهِرًا، وَقَدْ رَجَّحَ كُلُّ قَوْلٍ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ الْمُنْصِفِينَ كَابْنِ جَرِيرٍ فَإِنَّهُ رَجَّحَ أَنَّهُ إِسْحَاقُ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَسْتَدِلْ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا بِبَعْضٍ مِمَّا سُقْنَاهُ هَاهُنَا، وَكَابْنِ كَثِيرٍ فَإِنَّهُ رَجَّحَ أَنَّهُ إِسْمَاعِيلُ، وَجَعَلَ الْأَدِلَّةَ عَلَى ذَلِكَ أَقْوَى وَأَصَحَّ، وَلَيْسَ الأمر كما ذكره، فإنها لَمْ تَكُنْ دُونَ أَدِلَّةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الذَّبِيحَ إِسْحَاقُ لَمْ تَكُنْ فَوْقَهَا وَلَا أَرْجَحَ مِنْهَا، وَلَمْ يَصِحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ شَيْءٌ، وَمَا رُوِيَ عَنْهُ فَهُوَ إِمَّا مَوْضُوعٌ أَوْ ضَعِيفٌ جِدًّا، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا مُجَرَّدُ اسْتِنْبَاطَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ كَمَا أشرنا إلى ذلك فيما سبق، هي مُحْتَمَلَةٌ وَلَا تَقُومُ حُجَّةٌ بِمُحْتَمَلٍ، فَالْوَقْفُ هُوَ الذي لا ينبغي مجاوزته، وفيه السَّلَامَةِ مِنَ التَّرْجِيحِ، بِلَا مُرَجَّحٍ، وَمِنَ الِاسْتِدْلَالِ بما هو محتمل.
[سورة الصافات (37) : الآيات 114 الى 148]
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (114) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (116) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (118)
وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (119) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (120) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123)
إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَاّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128)
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (130) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132) وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133)
إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَاّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (138)
وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143)
لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (148)
لَمَّا فَرَغَ سُبْحَانَهُ مِنْ ذِكْرِ إِنْجَاءِ الذَّبِيحِ مِنَ الذَّبْحِ، وَمَا مَنَّ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ النُّبُوَّةِ ذَكَرَ مَا مَنَّ بِهِ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ، فَقَالَ: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ يَعْنِي بِالنُّبُوَّةِ وَغَيْرِهَا مِنَ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْهِمَا وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ الْمُرَادُ بِقَوْمِهِمَا: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَالْمُرَادُ بِالْكَرْبِ الْعَظِيمِ: هُوَ مَا كَانُوا فِيهِ مِنِ اسْتِعْبَادِ فِرْعَوْنَ إِيَّاهُمْ، وَمَا كَانَ نَصِيبَهُمْ مِنْ جِهَتِهِ مِنَ الْبَلَاءِ، وَقِيلَ: هُوَ الْغَرَقُ الَّذِي أَهْلَكَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَنَصَرْناهُمْ جَاءَ بِضَمِيرِ الْجَمَاعَةِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الضَّمِيرُ لِمُوسَى وَهَارُونَ وَقَوْمِهِمَا، لِأَنَّ قَبْلَهُ وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا، وَالْمُرَادُ بِالنَّصْرِ التَّأْيِيدُ لَهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ فَكانُوا بِسَبَبِ ذَلِكَ هُمُ الْغالِبِينَ عَلَى عَدُوِّهِمْ بَعْدَ أَنْ كَانُوا تَحْتَ أَسْرِهِمْ وَقَهْرِهِمْ، وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي نَصَرْنَاهُمْ عَائِدٌ عَلَى الِاثْنَيْنِ مُوسَى وَهَارُونَ تَعْظِيمًا لَهُمَا، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ التَّوْرَاةُ: وَالْمُسْتَبِينُ: الْبَيِّنُ الظَّاهِرُ، يُقَالُ: اسْتَبَانَ كَذَا. أَيْ: صَارَ بَيِّنًا وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ أَيِ: الْقَيِّمَ لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ، وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ الطَّرِيقُ الْمُوَصِّلَةُ إِلَى الْمَطْلُوبِ وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ أَيْ: أَبْقَيْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْأُمَمِ الْمُتَأَخِّرَةِ الثَّنَاءَ الْجَمِيلَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ فِي السَّلَامِ وَفِي وَجْهِ إِعْرَابِهِ بِالرَّفْعِ، وَكَذَلِكَ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هُوَ نَبِيٌّ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقِصَّتُهُ مَشْهُورَةٌ مَعَ قَوْمِهِ، قِيلَ: وَهُوَ إِلْيَاسُ بْنُ يس مِنْ سِبْطِ هَارُونَ أَخِي مُوسَى. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ:
كَانَ إِلْيَاسُ هُوَ الْقَيِّمُ بِأَمْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ يُوشَعَ، وَقِيلَ: هُوَ إِدْرِيسُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. قَرَأَ الْجُمْهُورُ إِلْياسَ بِهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ مَقْطُوعَةٍ، وَقَرَأَ ابْنُ ذَكْوَانَ بِوَصْلِهَا، وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ، وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَالْأَعْمَشُ، وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ «وَإِنَّ إِدْرِيسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ» وقرأ أبيّ «وإنّ إبليس» بِهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ ثُمَّ تَحْتِيَّةٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ لَامٍ مَكْسُورَةٍ ثُمَّ تَحْتِيَّةٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ سِينٍ مُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَةٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ هُوَ ظَرْفٌ لِقَوْلِهِ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، أَيِ: اذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ إِذْ قَالَ، وَالْمَعْنَى: أَلَا تَتَّقُونَ عَذَابَ اللَّهِ، ثُمَّ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: أَتَدْعُونَ بَعْلًا هُوَ اسْمٌ لِصَنَمٍ كَانُوا يَعْبُدُونَهُ، أَيْ: أَتَعْبُدُونَ صَنَمًا وَتَطْلُبُونَ الْخَيْرَ مِنْهُ.
قَالَ ثَعْلَبٌ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: بَعْلًا فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْبَعْلُ هُنَا الصَّنَمُ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ:
الْبَعْلُ هُنَا مَلَكٌ، وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: امْرَأَةٌ كَانُوا يَعْبُدُونَهَا. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَالْمُفَسِّرُونَ يَقُولُونَ رَبًّا، وَهُوَ بِلُغَةِ الْيَمَنِ، يَقُولُونَ لِلسَّيِّدِ وَالرَّبِّ الْبَعْلَ. قَالَ النَّحَّاسُ: الْقَوْلَانِ صَحِيحَانِ، أَيْ: أَتَدْعُونَ صنما عملتموه رَبًّا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ أَيْ: وَتَتْرُكُونَ عِبَادَةَ أَحْسَنِ مَنْ يُقَالُ لَهُ خَالِقٌ، وَانْتِصَابُ الِاسْمِ الشَّرِيفِ فِي قَوْلِهِ: اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ أَحْسَنَ، هَذَا على قراءة حمزة والكسائي والربيع
ابن خُثَيْمٍ وَابْنِ أَبِي إِسْحَاقَ وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشِ، فَإِنَّهُمْ قَرَءُوا بِنَصْبِ الثَّلَاثَةِ الْأَسْمَاءِ وَقِيلَ: النَّصْبُ عَلَى الْمَدْحِ، وَقِيلَ: عَلَى عَطْفِ الْبَيَانِ، وَحَكَى أَبُو عُبَيْدٍ أَنَّ النَّصْبَ عَلَى النَّعْتِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهُوَ غَلَطٌ وَإِنَّمَا هُوَ بَدَلٌ، وَلَا يَجُوزُ النَّعْتُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَحْلِيَةٍ وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو حَاتِمٍ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَعَاصِمٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَشَيْبَةُ، وَنَافِعٌ بِالرَّفْعِ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: بِمَعْنَى هُوَ اللَّهُ رَبُّكُمْ. قَالَ النَّحَّاسُ:
وَأَوْلَى مَا قِيلَ: إِنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ بِغَيْرِ إِضْمَارٍ وَلَا حَذْفٍ. وَحُكِيَ عَنِ الْأَخْفَشِ أَنَّ الرَّفْعَ أَوْلَى وَأَحْسَنُ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: مَنْ رَفَعَ أَوْ نَصَبَ لَمْ يَقِفْ عَلَى أَحْسَنِ الْخَالِقِينَ عَلَى جِهَةِ التَّمَامِ لِأَنَّ اللَّهَ مُتَرْجَمٌ عَنْ أَحْسَنِ الْخَالِقِينَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، وَالْمَعْنَى، أَنَّهُ خَالِقُكُمْ وخالق ومن قَبْلَكُمْ فَهُوَ الَّذِي تَحِقُّ لَهُ الْعِبَادَةُ فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ أي: فإنهم بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِ لَمُحْضَرُونَ فِي الْعَذَابِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْإِحْضَارَ الْمُطْلَقَ مَخْصُوصٌ بِالشَّرِّ إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أَيْ: مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا بِهِ من قومه، وقرئ بِكَسْرِ اللَّامِ وَفَتْحِهَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْمَعْنَى عَلَى قِرَاءَةِ الْكَسْرِ: أَنَّهُمْ أَخْلَصُوا لِلَّهِ وَعَلَى قِرَاءَةِ الْفَتْحِ: أَنَّ اللَّهَ اسْتَخْلَصَهُمْ مِنْ عِبَادِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ والأعرج عَلَى آلِ يَاسِينَ بِإِضَافَةِ آلٍ بِمَعْنَى آلِ يَاسِينَ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ موصولة بياسين إِلَّا الْحَسَنَ، فَإِنَّهُ قَرَأَ «الْيَاسِينَ» بِإِدْخَالِ آلَةِ التَّعْرِيفِ عَلَى يَاسِينَ، قِيلَ: الْمُرَادُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ كُلِّهَا إِلْيَاسُ، وَعَلَيْهِ وَقَعَ التَّسْلِيمُ، وَلَكِنَّهُ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ، وَالْعَرَبُ تَضْطَرِبُ فِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ الْأَعْجَمِيَّةِ وَيَكْثُرُ تَغْيِيرُهُمْ لَهَا. قَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: العرب تتلاعب بالأسماء الأعجمية تلاعبا فياسين، وَإِلْيَاسُ، وَإِلْيَاسِينُ شَيْءٌ وَاحِدٌ. قَالَ الْأَخْفَشُ: الْعَرَبُ تُسَمِّي قَوْمَ الرَّجُلِ بِاسْمِ الرَّجُلِ الْجَلِيلِ مِنْهُمْ، فَيَقُولُونَ الْمَهَالِبَةُ عَلَى أَنَّهُمْ سَمَّوْا كُلَّ رَجُلٍ مِنْهُمْ بِالْمُهَلَّبِ. قَالَ: فَعَلَى هَذَا إِنَّهُ سَمَّى كُلَّ رَجُلٍ مِنْهُمْ بِالْيَاسِينِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: يُذْهَبُ بِالْيَاسِينِ إِلَى أَنْ يَجْعَلَهُ جَمْعًا فَيُجْعَلُ أَصْحَابُهُ دَاخِلِينَ مَعَهُ فِي اسْمِهِ.
قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الفارسي: تقديره الياسيين إلا أَنَّ الْيَاءَيْنِ لِلنِّسْبَةِ حُذِفَتَا كَمَا حُذِفَتَا فِي الْأَشْعَرِينَ وَالْأَعْجَمِينَ.
وَرَجَّحَ الْفَرَّاءُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ قِرَاءَةَ الْجُمْهُورِ قَالَا: لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ فِي شَيْءٍ مِنَ السُّوَرِ عَلَى آلِ فُلَانٍ، إِنَّمَا جَاءَ بِالِاسْمِ كَذَلِكَ الْيَاسِينُ لِأَنَّهُ إِنَّمَا هُوَ بِمَعْنَى إِلْيَاسَ أَوْ بِمَعْنَى إِلْيَاسَ وَأَتْبَاعِهِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: الْمُرَادُ بِآلِ يَاسِينَ آلُ مُحَمَّدٍ.
قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ مَا بَعْدَهُ مِنَ الْكَلَامِ وَمَا قَبْلُهُ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ مُسْتَوْفًى وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ قِصَّةِ لُوطٍ مُسْتَوْفَاةً إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ الظَّرْفُ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ هُوَ اذكر ولا يصح تعلقه بالمرسلين، لِأَنَّهُ لَمْ يُرْسَلْ وَقْتَ تَنْجِيَتِهِ إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْغَابِرَ يَكُونُ بِمَعْنَى الْمَاضِي، وَيَكُونُ بِمَعْنَى الْبَاقِي، فَالْمَعْنَى: إِلَّا عَجُوزًا فِي الْبَاقِينَ فِي الْعَذَابِ، أَوِ الْمَاضِينَ الَّذِينَ قَدْ هَلَكُوا ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ
أَيْ: أَهْلَكْنَاهُمْ بِالْعُقُوبَةِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ فِي نَجَاتِهِ وَأَهْلِهِ جَمِيعًا إِلَّا الْعَجُوزَ وَتَدْمِيرَ الْبَاقِينَ مِنْ قَوْمِهِ الذين لم يُؤْمِنُوا بِهِ دَلَالَةٌ بَيِّنَةٌ عَلَى ثُبُوتِ كَوْنِهِ مِنَ الْمُرْسَلِينَ وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ
خَاطَبَ بِهَذَا الْعَرَبَ أَوْ أَهْلَ مَكَّةَ عَلَى الْخُصُوصِ: أَيْ تَمُرُّونَ عَلَى مَنَازِلِهِمُ الَّتِي فِيهَا آثَارُ الْعَذَابِ وَقْتَ الصَّبَاحِ وَبِاللَّيْلِ
وَالْمَعْنَى تَمُرُّونَ عَلَى مَنَازِلِهِمْ فِي ذَهَابِكُمْ إِلَى الشَّامِ وَرُجُوعِكُمْ مِنْهُ نَهَارًا وَلَيْلًا أَفَلا تَعْقِلُونَ
مَا تُشَاهِدُونَهُ فِي دِيَارِهِمْ مِنْ آثَارِ عُقُوبَةِ
اللَّهِ النَّازِلَةِ بِهِمْ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ عِبْرَةً لِلْمُعْتَبِرِينَ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَدَبِّرِينَ وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ
يُونُسُ هُوَ ذُو النُّونِ، وَهُوَ ابْنُ مَتَّى. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: وَكَانَ يُونُسُ قَدْ وَعَدَ قَوْمَهُ الْعَذَابَ، فَلَمَّا تَأَخَّرَ عَنْهُمُ الْعَذَابُ خَرَجَ عَنْهُمْ وَقَصَدَ الْبَحْرَ وَرَكِبَ السَّفِينَةَ، فَكَانَ بِذَهَابِهِ إِلَى الْبَحْرِ كَالْفَارِّ مِنْ مَوْلَاهُ فَوُصِفَ بِالْإِبَاقِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ
وَأَصْلُ الْإِبَاقِ الْهَرَبُ مِنَ السَّيِّدِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ هَرَبُهُ مِنْ قَوْمِهِ بِغَيْرِ إِذْنِ رَبِّهِ وصف به. وقال المبرد. تأويل أبق تباعد: أَيْ ذَهَبَ إِلَيْهِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ عَبْدٌ آبِقٌ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ هَلْ كَانَتْ رِسَالَتُهُ قَبْلَ الْتِقَامِ الْحُوتِ إِيَّاهُ أَوْ بَعْدَهُ؟ وَمَعْنَى الْمَشْحُونِ: الْمَمْلُوءُ فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ
الْمُسَاهَمَةُ أَصْلُهَا الْمُغَالَبَةُ، وَهِيَ الِاقْتِرَاعُ، وَهُوَ أَنْ يَخْرُجَ السَّهْمُ عَلَى مَنْ غَلَبَ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: أَيْ فَقَارَعَ. قَالَ: وَأَصْلُهُ مِنَ السِّهَامِ الَّتِي تُجَالُ، وَمَعْنَى فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ
فَصَارَ مِنَ المغلوبين. قال: يقال دحضت حجته وأدحضها اللَّهُ، وَأَصْلُهُ مِنَ الزَّلَقِ عَنْ مَقَامِ الظُّفْرِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
قَتَلْنَا الْمُدْحَضِينَ بِكُلِّ فَجٍّ
…
فَقَدْ قَرَّتْ بِقَتْلِهِمُ الْعُيُونُ
أَيِ: الْمَغْلُوبِينَ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ يُقَالُ: لَقِمْتُ اللُّقْمَةَ وَالْتَقَمْتُهَا: إِذَا ابْتَلَعْتُهَا، أَيْ: فَابْتَلَعَهُ الْحُوتُ، وَمَعْنَى وَهُوَ مُلِيمٌ وَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلَّوْمِ، يُقَالُ: رَجُلٌ مُلِيمٌ إِذَا أَتَى بِمَا يُلَامُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْمَلُومُ:
فَهُوَ الَّذِي يُلَامُ سَوَاءٌ أَتَى بِمَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُلَامَ عَلَيْهِ أَمْ لَا، وَقِيلَ: الْمُلِيمُ الْمَعِيبُ، يُقَالُ أَلَامَ الرَّجُلُ إِذَا عَمِلَ شَيْئًا صَارَ بِهِ مَعِيبًا. وَمَعْنَى هَذِهِ الْمُسَاهَمَةِ: أَنَّ يُونُسَ لَمَّا رَكِبَ السَّفِينَةَ احْتُبِسَتْ، فَقَالَ الْمَلَّاحُونَ: هَاهُنَا عَبْدٌ أَبَقَ مِنْ سَيِّدِهِ، وَهَذَا رَسْمُ السَّفِينَةِ إِذَا كَانَ فِيهَا آبِقٌ لَا تَجْرِي، فَاقْتَرَعُوا فَوَقَعَتِ الْقُرْعَةُ عَلَى يُونُسَ، فَقَالَ أَنَا الْآبِقُ وَزَجَّ نَفْسَهُ فِي الْمَاءِ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: لَمَّا اسْتَهَمُوا جَاءَ حُوتٌ إِلَى السَّفِينَةِ فَاغِرًا فَاهُ يَنْتَظِرُ أَمْرَ رَبِّهِ حَتَّى إِذَا أَلْقَى نَفْسَهُ فِي الْمَاءِ أَخَذَهُ الْحُوتُ فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ أَيِ: الذَّاكِرِينَ لِلَّهِ، أَوِ الْمُصَلِّينَ لَهُ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أَيْ: لَصَارَ بَطْنُ الْحُوتِ لَهُ قَبْرًا إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ، وَقِيلَ: لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ حَيًّا.
وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ كَمْ أَقَامَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ؟ فَقَالَ: السُّدِّيُّ، وَالْكَلْبِيُّ، وَمُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ: أَرْبَعِينَ يَوْمًا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: عِشْرِينَ يَوْمًا. وَقَالَ عَطَاءٌ: سَبْعَةَ أَيَّامٍ. وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حِبَّانَ: ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَقِيلَ:
سَاعَةً وَاحِدَةً. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ تَرْغِيبٌ فِي ذِكْرِ اللَّهِ، وَتَنْشِيطٌ لِلذَّاكِرِينَ لَهُ فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ النبذ الطرح. قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: هُوَ الصَّحْرَاءُ، وَقَالَ الْأَخْفَشُ: الْفَضَاءُ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْوَاسِعُ مِنَ الْأَرْضِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَكَانُ الْخَالِي. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: هُوَ وَجْهُ الْأَرْضِ، وَأَنْشَدَ لِرَجُلٍ مِنْ خُزَاعَةَ:
وَرَفَعْتُ رِجْلًا لَا أَخَافُ عِثَارَهَا
…
وَنَبَذْتُ بِالْبَلَدِ الْعَرَاءِ ثِيَابِي
وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ طَرَحَهُ مِنْ بَطْنِ الْحُوتِ فِي الصَّحْرَاءِ الْوَاسِعَةِ الَّتِي لَا نَبَاتَ فِيهَا، وَهُوَ عِنْدَ إِلْقَائِهِ سَقِيمٌ
لِمَا نَالَهُ فِي بَطْنِ الْحُوتِ مِنَ الضَّرَرِ، قِيلَ صَارَ بَدَنُهُ كَبَدَنِ الطِّفْلِ حِينَ يُولَدُ.
وَقَدِ اسْتَشْكَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْجَمْعَ بَيْنَ مَا وَقَعَ هُنَا مِنْ قَوْلِهِ: فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ، وَقَوْلُهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ «1» فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُنْبَذْ بِالْعَرَاءِ.
وَأَجَابَ النَّحَّاسُ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ هَاهُنَا أَنَّهُ نُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ غَيْرُ مَذْمُومٍ، وَلَوْلَا رَحْمَتُهُ عز وجل لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ أَيْ: شَجَرَةً فَوْقَهُ تُظَلِّلُ عَلَيْهِ، وَقِيلَ مَعْنَى عَلَيْهِ:
عِنْدَهُ، وَقِيلَ مَعْنَى عَلَيْهِ: لَهُ. وَالْيَقْطِينُ: هِيَ شَجَرَةُ الدُّبَّاءِ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: الْيَقْطِينُ يُقَالُ لِكُلِّ شَجَرَةٍ لَيْسَ لَهَا سَاقٌ، بَلْ تَمْتَدُّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ نَحْوَ الدُّبَّاءِ، وَالْبِطِّيخِ، وَالْحَنْظَلِ، فَإِنْ كَانَ لَهَا سَاقٌ يُقِلُّهَا فَيُقَالُ لَهَا شَجَرَةٌ فَقَطْ، وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ، وَمُقَاتِلٌ وَغَيْرِهِمَا. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ كُلُّ شَيْءٍ يَنْبُتُ ثُمَّ يَمُوتُ مِنْ عَامِهِ.
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْيَقْطِينُ مَا لَا سَاقَ لَهُ مِنْ شَجَرٍ كَشَجَرِ الْقَرْعِ وَنَحْوِهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: اشْتِقَاقُ الْيَقْطِينِ مِنْ قَطَنَ بِالْمَكَانِ: أَيْ: أَقَامَ بِهِ فَهُوَ يَفْعِيلٌ، وَقِيلَ: هُوَ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: كَانَ يُسْتَظَلُّ بِظِلِّهَا مِنَ الشَّمْسِ، وَقَيَّضَ اللَّهُ لَهُ أَرْوِيَّةً مِنَ الْوَحْشِ تَرُوحُ عَلَيْهِ بَكْرَةً وَعَشِيَّةً، فَكَانَ يَشْرَبُ مِنْ لَبَنِهَا حَتَّى اشْتَدَّ لَحْمُهُ وَنَبَتَ شَعْرُهُ ثُمَّ أَرْسَلَهُ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ هُمْ قَوْمُهُ الَّذِينَ هَرَبَ مِنْهُمْ إِلَى الْبَحْرِ وَجَرَى لَهُ مَا جَرَى بَعْدَ هَرَبِهِ كَمَا قَصَّهُ اللَّهُ عَلَيْنَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَهُمْ أَهْلُ نِينَوَى.
قَالَ قَتَادَةُ: أُرْسِلَ إِلَى أَهْلِ نِينَوَى مِنْ أَرْضِ الْمُوصِلِ، وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ عَلَى قِصَّتِهِ فِي سورة يونس مستوفى، «وأو» فِي أَوْ يَزِيدُونَ، قِيلَ: هِيَ بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَالْمَعْنَى: وَيَزِيدُونَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَوْ هَاهُنَا بِمَعْنَى بَلْ، وَهُوَ قَوْلُ مُقَاتِلٍ، وَالْكَلْبِيِّ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ، وَالزَّجَّاجُ، وَالْأَخْفَشُ: أَوْ هُنَا عَلَى أَصْلِهِ، وَالْمَعْنَى: أَوْ يَزِيدُونَ فِي تَقْدِيرِكُمْ إِذَا رَآهُمُ الرَّائِي قَالَ: هَؤُلَاءِ مِائَةُ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ، فَالشَّكُّ إِنَّمَا دَخَلَ عَلَى حِكَايَةِ قَوْلِ الْمَخْلُوقِينَ. قَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: كَانُوا يَزِيدُونَ عِشْرِينَ أَلْفًا. وَقَالَ الْحَسَنُ: بِضْعًا وَثَلَاثِينَ أَلْفًا. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: سَبْعِينَ أَلْفًا.
وَقَرَأَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ: وَيَزِيدُونَ بِدُونِ أَلِفِ الشَّكِّ.
وَقَدْ وَقَعَ الْخِلَافُ بَيْنَ الْمُفَسِّرِينَ هَلْ هَذَا الْإِرْسَالُ الْمَذْكُورُ هُوَ الَّذِي كَانَ قَبْلَ الْتِقَامِ الْحُوتِ لَهُ، وَتَكُونُ الْوَاوُ فِي وَأَرْسَلْنَاهُ لِمُجَرَّدِ الْجَمْعِ بَيْنَ مَا وَقَعَ لَهُ مَعَ الْحُوتِ وَبَيْنَ إِرْسَالِهِ إِلَى قَوْمِهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ تَقْدِيمِ مَا تَقَدَّمَ فِي السِّيَاقِ، وَتَأْخِيرِ مَا تَأَخَّرَ، أَوْ هُوَ إرسال له بعد ما وَقَعَ لَهُ مَعَ الْحُوتِ مَا وَقَعَ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَقَدْ قَدَّمَنَا الْإِشَارَةَ إِلَى الِاخْتِلَافِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ هَلْ كَانَ قَدْ أُرْسِلَ قَبْلَ أَنْ يَهْرُبَ مِنْ قَوْمِهِ إِلَى الْبَحْرِ أَوْ لَمْ يُرْسَلْ إِلَّا بَعْدَ ذَلِكَ؟
وَالرَّاجِحُ أَنَّهُ كَانَ رَسُولًا قَبْلَ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى الْبَحْرِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ يُونُسَ، وَبَقِيَ مُسْتَمِرًّا عَلَى الرِّسَالَةِ، وَهَذَا الْإِرْسَالُ الْمَذْكُورُ هُنَا هُوَ بَعْدَ تَقَدُّمِ نُبُوَّتِهِ وَرِسَالَتِهِ فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ أَيْ:
وَقَعَ مِنْهُمُ الإيمان بعد ما شَاهَدُوا أَعْلَامَ نُبُوَّتِهِ فَمَتَّعَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا إِلَى حِينِ انْقِضَاءِ آجَالِهِمْ وَمُنْتَهَى أَعْمَارِهِمْ.
وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ:
إِلْيَاسُ هُوَ إِدْرِيسُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
(1) . القلم: 49.
قال: قال صلى الله عليه وسلم: «الْخَضِرُ هُوَ إِلْيَاسُ» وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ وَضَعَّفَهُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ:
«كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، فَنَزَلَ مَنْزِلًا فَإِذَا رَجُلٌ فِي الْوَادِي يَقُولُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم الْمَرْحُومَةِ الْمَغْفُورِ الْمُثَابِ لَهَا فَأَشْرَفْتُ عَلَى الْوَادِي فَإِذَا طُولُهُ ثَمَانُونَ ذِرَاعًا وَأَكْثَرُ، فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ؟
فَقُلْتُ: أَنَسٌ خَادِمُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: أَيْنَ هُوَ؟ فَقُلْتُ: هُوَ ذَا يسمع كلامك، قال: فأته وأقرئه السَّلَامَ وَقُلْ لَهُ أَخُوكَ إِلْيَاسُ يُقْرِئُكَ السَّلَامَ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ، فَجَاءَ حَتَّى عَانَقَهُ وَقَعَدَا يَتَحَدَّثَانِ، فَقَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي إِنَّمَا آكُلُ فِي كُلِّ سَنَةٍ يَوْمًا وَهَذَا يَوْمُ فِطْرِي فَآكُلُ أَنَا وَأَنْتَ، فَنَزَلَتْ عَلَيْهِمَا الْمَائِدَةُ مِنَ السَّمَاءِ خُبْزٌ وَحُوتٌ وَكَرَفْسٌ، فَأَكَلَا وَأَطْعَمَانِي وَصَلَّيَا الْعَصْرَ ثُمَّ وَدَّعَهُ، ثُمَّ رَأَيْتُهُ مَرَّ عَلَى السَّحَابِ نَحْوَ السَّمَاءِ» . قَالَ الذَّهَبِيُّ مُتَعَقِّبًا لِتَصْحِيحِ الْحَاكِمِ لَهُ: بَلْ مَوْضُوعٌ قَبَّحَ اللَّهُ مَنْ وَضَعَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَتَدْعُونَ بَعْلًا قَالَ: صَنَمًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ قَالَ: نَحْنُ آلُ مُحَمَّدٍ آلُ يَاسِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَعَثَ اللَّهُ يُونُسَ إِلَى أَهْلِ قَرْيَتِهِ فَرَدُّوا عَلَيْهِ مَا جَاءَهُمْ بِهِ فَامْتَنَعُوا مِنْهُ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِمْ إِنِّي مُرْسِلٌ عَلَيْهِمُ الْعَذَابَ فِي يَوْمِ كَذَا وَكَذَا، فَأُخْرِجَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، فَأَعْلَمَ قَوْمَهُ الَّذِي وَعَدَ اللَّهُ مِنْ عَذَابِهِ إِيَّاهُمْ، فَقَالُوا ارْمُقُوهُ فَإِنْ خَرَجَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِكُمْ فَهُوَ وَاللَّهِ كَائِنٌ مَا وَعَدَكُمْ، فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي وُعِدُوا بِالْعَذَابِ فِي صَبِيحَتِهَا أَدْلَجَ فَرَآهُ الْقَوْمُ فَحَذِرُوا، فَخَرَجُوا مِنَ الْقَرْيَةِ إِلَى بَرَازٍ مِنْ أَرْضِهِمْ وَفَرَّقُوا بَيْنَ كُلِّ دَابَّةٍ وَوَلَدِهَا، ثُمَّ عَجُّوا إِلَى اللَّهِ وَأَنَابُوا وَاسْتَقَالُوا فَأَقَالَهُمُ اللَّهُ، وَانْتَظَرَ يُونُسُ الْخَبَرَ عَنِ الْقَرْيَةِ وَأَهْلِهَا حَتَّى مَرَّ بِهِ مَارٌّ، فَقَالَ مَا فَعَلَ أَهْلُ الْقَرْيَةِ، قَالَ: إِنَّ نبيهم لما خرج من بني أَظْهُرِهِمْ عَرَفُوا أَنَّهُ قَدْ صَدَقَهُمْ مَا وَعَدَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ، فَخَرَجُوا مِنْ قَرْيَتِهِمْ إِلَى بَرَازٍ مِنَ الْأَرْضِ، ثُمَّ فَرَّقُوا بَيْنَ كُلِّ ذَاتِ وَلَدٍ وَوَلَدِهَا ثُمَّ عَجُّوا إِلَى اللَّهِ وَتَابُوا إِلَيْهِ، فَتَقَبَّلَ مِنْهُمْ وَأَخَّرَ عَنْهُمُ الْعَذَابَ، فَقَالَ يُونُسُ عِنْدَ ذَلِكَ: لَا أَرْجِعُ إِلَيْهِمْ كَذَّابًا أَبَدًا وَمَضَى عَلَى وَجْهِهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ على قصته وما روي فيها في سُورَةِ يُونُسَ فَلَا نُكَرِّرُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَساهَمَ
قَالَ: اقْتَرَعَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ
قَالَ:
الْمَقْرُوعِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ مُلِيمٌ قَالَ: مُسِيءٌ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَالْفِرْيَابِيُّ، وَأَحْمَدُ، فِي الزُّهْدِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ قَالَ: مِنَ الْمُصَلِّينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ قَالَ: أَلْقَيْنَاهُ بِالسَّاحِلِ. وَأَخْرَجَ هَؤُلَاءِ عَنْهُ أَيْضًا شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ قَالَ: الْقَرْعُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: الْيَقْطِينُ كُلُّ شَيْءٍ يَذْهَبُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: إنما كانت رسالة يونس بعد ما نَبَذَهُ الْحُوتُ، ثُمَّ تَلَا: فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ إِلَى قَوْلِهِ: وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رِسَالَتَهُ كَانَتْ مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ: وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرَهُ كَمَا قَدَّمْنَا. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ