الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الفرقان
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ الضَّرِيسِ وَالنَّحَّاسُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: إِلَّا ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْهَا نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ. وَهِيَ: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ الْآيَاتِ. وَأَخْرَجَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَابْنُ حيان وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَاسْتَمَعْتُ لِقِرَاءَتِهِ، فَإِذَا هُوَ يَقْرَأُ عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَكِدْتُ أَسَاوِرُهُ فِي الصَّلَاةِ فَتَصَبَّرْتُ حَتَّى سَلَّمَ فَلَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ، فَقُلْتُ: مَنْ أَقْرَأَكَ هَذِهِ السُّورَةَ الَّتِي سَمِعْتُكَ تُقْرَأُ؟
قَالَ: أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: كَذَبْتَ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَقْرَأَنِيهَا عَلَى غَيْرِ مَا قَرَأَتْ، فَانْطَلَقْتُ بِهِ أَقُودُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى حُرُوفٍ لَمْ تُقْرِئْنِيهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«أَرْسِلْهُ، أَقْرِئْنَا هِشَامُ» فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ» : ثُمَّ قَالَ: «أَقْرِئْنَا عُمَرُ» ، فَقَرَأْتُ الْقِرَاءَةَ الَّتِي أَقْرَأَنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ. إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ على سبعة أحرف، فاقرؤوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ» .
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة الفرقان (25) : الآيات 1 الى 6]
بسم الله الرحمن الرحيم
تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (3) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَاّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (4)
وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (6)
تَكَلَّمَ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى التَّوْحِيدِ لِأَنَّهُ أَقْدَمُ وَأَهَمُّ، ثُمَّ فِي النُّبُوَّةِ لِأَنَّهَا الْوَاسِطَةُ، ثُمَّ فِي الْمَعَادِ، لِأَنَّهُ الْخَاتِمَةُ. وَأَصْلُ تَبَارَكَ: مَأْخُوذٌ مِنَ الْبَرَكَةِ، وَهِيَ النَّمَاءُ وَالزِّيَادَةُ، حِسِّيَّةً كَانَتْ أَوْ عَقْلِيَّةً. قَالَ الزَّجَّاجُ:
تَبَارَكَ تَفَاعَلَ، مِنَ الْبَرَكَةِ. قَالَ: وَمَعْنَى الْبَرَكَةِ: الْكَثْرَةُ مِنْ كُلِّ ذِي خَيْرٍ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّ تَبَارَكَ وَتَقَدَّسَ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَاحِدٌ، وَمَعْنَاهُمَا: الْعَظَمَةُ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: تَبَارَكَ عَطَاؤُهُ، أَيْ: زَادَ وَكَثُرَ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: دَامَ وَثَبَتَ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا أَوْلَاهَا فِي اللُّغَةِ، وَالِاشْتِقَاقُ مِنْ بَرَكَ الشَّيْءُ: إِذَا ثَبَتَ، وَمِنْهُ: بَرَكَ الْجَمَلُ، أَيْ: دَامَ وَثَبَتَ. وَاعْتَرَضَ مَا قَالَهُ الْفَرَّاءُ بِأَنَّ التَّقْدِيسَ إِنَّمَا هُوَ مِنَ الطَّهَارَةِ، وَلَيْسَ مِنْ ذَا فِي شَيْءٍ. قَالَ الْعُلَمَاءُ:
هَذِهِ اللَّفْظَةُ لَا تُسْتَعْمَلُ إِلَّا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، وَلَا تُسْتَعْمَلُ إِلَّا بِلَفْظِ الْمَاضِي، وَالْفَرْقَانُ: الْقُرْآنُ، وسمى فرقانا، لأنه يفرق بني الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ بِأَحْكَامِهِ، أَوْ بَيْنَ الْمُحِقِّ وَالْمُبْطِلِ، والمراد بعبده نبينا صلى الله عليه وسلم. ثُمَّ عَلَّلَ التَّنْزِيلَ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً فَإِنَّ النِّذَارَةَ هِيَ الْغَرَضُ الْمَقْصُودُ مِنَ الْإِنْزَالِ، والمراد: محمد صلى الله عليه وسلم أَوِ الْفَرْقَانُ، وَالْمُرَادُ بِالْعَالَمِينَ هُنَا: الْإِنْسُ والجنّ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم مُرْسَلٌ إِلَيْهِمَا، وَلَمْ يَكُنْ غَيْرُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مُرْسَلًا إِلَى الثَّقَلَيْنِ، وَالنَّذِيرُ:
الْمُنْذِرُ، أَيْ: لِيَكُونَ مُحَمَّدٌ مُنْذِرًا، أَوْ لِيَكُونَ إِنْزَالُ الْقُرْآنِ مُنْذِرًا، وَيَجُوزَ أَنْ يَكُونَ النَّذِيرُ هُنَا بِمَعْنَى المصدر للمبالغة، أي: ليكون إنزاله إِنْذَارًا، وَجَعْلُ الضَّمِيرِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْلَى، لِأَنَّ صُدُورَ الْإِنْذَارِ مِنْهُ حَقِيقَةٌ، وَمِنَ الْقُرْآنِ مَجَازٌ، وَالْحَمْلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوْلَى وَلِكَوْنِهِ أَقْرَبَ مَذْكُورٍ. وَقِيلَ: إِنَّ رُجُوعَ الضَّمِيرِ إِلَى الْفُرْقَانِ أَوْلَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ «1» ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَصَفَ نَفْسَهُ بِصِفَاتٍ أَرْبَعٍ: الْأُولَى:
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ دُونَ غَيْرِهِ فَهُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِيهِمَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْصُولُ الْآخَرُ بَدَلًا، أو بيانا للموصول الأوّل، والوصف أولى، وفيه تَنْبِيهٍ عَلَى افْتِقَارِ الْكُلِّ إِلَيْهِ فِي الْوُجُودِ وتوابعه من البقاء وَغَيْرِهِ.
وَالصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى النَّصَارَى وَالْيَهُودِ. وَالصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى طَوَائِفِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْوَثَنِيَّةِ، وَالثَّنَوِيَّةِ، وَأَهْلِ الشِّرْكِ الْخَفِيِّ. وَالصِّفَةُ الرَّابِعَةُ:
وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً أَيْ: قَدَّرَ كُلَّ شَيْءٍ مِمَّا خَلَقَ بِحِكْمَتِهِ عَلَى مَا أَرَادَ، وَهَيَّأَهُ لِمَا يَصْلُحُ لَهُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ المفسرون: قدر له تقديرا مِنَ الْأَجَلِ وَالرِّزْقِ، فَجَرَتِ الْمَقَادِيرُ عَلَى مَا خَلَقَ. وَقِيلَ: أُرِيدَ بِالْخَلْقِ هُنَا مُجَرَّدُ الْإِحْدَاثِ، والإيجاد مجازا مِنْ غَيْرِ مُلَاحَظَةِ مَعْنَى التَّقْدِيرِ وَإِنْ لَمْ يَخْلُ عَنْهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: أَوْجَدَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ لِئَلَّا يَلْزَمَ التَّكْرَارُ، ثُمَّ صَرَّحَ سُبْحَانَهُ بِتَزْيِيفِ مَذَاهِبِ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ فَقَالَ: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً وَالضَّمِيرُ فِي اتَّخَذُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُمْ ذِكْرٌ، لِدَلَالَةِ نَفْيِ الشَّرِيكِ عَلَيْهِمْ، أَيِ: اتَّخَذَ الْمُشْرِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ- مُتَجَاوِزِينَ اللَّهَ- آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ: صِفَةٌ لِآلِهَةٍ، أَيْ: لَا يَقْدِرُونَ عَلَى خَلْقِ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ، وَغَلَّبَ الْعُقَلَاءَ عَلَى غَيْرِهِمْ، لِأَنَّ فِي مَعْبُودَاتِ الكفار: الملائكة، وعزير، وَالْمَسِيحَ وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَيْ: يَخْلُقُهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ. وَقِيلَ:
عَبَّرَ عَنِ الْآلِهَةِ بِضَمِيرِ الْعُقَلَاءِ جَرْيًا عَلَى اعْتِقَادِ الْكُفَّارِ أَنَّهَا تَضُرُّ وَتَنْفَعُ. وَقِيلَ: مَعْنَى وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَنَّ عَبَدَتَهُمْ يُصَوِّرُونَهُمْ. ثُمَّ لَمَّا وَصَفَ سُبْحَانَهُ نَفْسَهُ بِالْقُدْرَةِ الْبَاهِرَةِ، وَصَفَ آلِهَةَ الْمُشْرِكِينَ بِالْعَجْزِ الْبَالِغِ فَقَالَ:
وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً أَيْ: لَا يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يَجْلِبُوا لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا يَدْفَعُوا عَنْهَا ضَرَرًا، وَقَدَّمَ ذِكْرَ الضُّرِّ لِأَنَّ دَفْعَهُ أَهَمُّ مِنْ جَلْبِ النَّفْعِ وَإِذَا كَانُوا بِحَيْثُ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الدَّفْعِ وَالنَّفْعِ، فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَنْفُسِهِمْ، فَكَيْفَ يَمْلِكُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَعْبُدُهُمْ. ثُمَّ زَادَ فِي بَيَانِ عَجْزِهِمْ فَنَصَّصَ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ فَقَالَ: وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً أَيْ: لَا يَقْدِرُونَ عَلَى إِمَاتَةِ الْأَحْيَاءِ، وَلَا إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَلَا بَعْثِهِمْ مِنَ الْقُبُورِ، لِأَنَّ النُّشُورَ: الْإِحْيَاءُ بَعْدَ الْمَوْتِ، يُقَالُ أَنْشَرَ اللَّهُ الْمَوْتَى فَنُشِرُوا، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى:
حَتَّى يَقُولَ النَّاسُ مِمَّا رَأَوْا
…
يَا عَجَبًا للميّت الناشر
(1) . الإسراء: 9. [.....]
وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ التَّوْحِيدِ، وَتَزْيِيفِ مَذَاهِبِ الْمُشْرِكِينَ، شَرَعَ فِي ذِكْرِ شُبَهِ مُنْكِرِي النُّبُوَّةِ. فَالشُّبْهَةُ الْأُولَى: مَا حَكَاهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ أَيْ: كَذِبٌ افْتَراهُ أَيِ:
اخْتَلَقَهُ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ هَذَا: إِلَى الْقُرْآنِ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ أَيْ: عَلَى الِاخْتِلَاقِ قَوْمٌ آخَرُونَ يَعْنُونَ مِنَ الْيَهُودِ. قِيلَ وَهُمْ: أَبُو فُكَيْهَةَ يَسَارٌ مَوْلَى الْحَضْرَمِيِّ، وَعَدَّاسٌ مَوْلَى حُوَيْطِبِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، وَجَبْرٌ مَوْلَى ابْنِ عَامِرٍ، وَكَانَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ مِنَ الْيَهُودِ، وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ عَلَى مِثْلِ هَذَا فِي النَّحْلِ. ثُمَّ رَدَّ اللَّهُ سبحانه عليهم فقال: فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً أَيْ: فَقَدْ قَالُوا ظُلْمًا هَائِلًا عظيما وكذبا ظاهرا، وانتصاب ظلما بجاؤوا، فَإِنَّ جَاءَ: قَدْ يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ أَتَى، وَيُعَدَّى تَعْدِيَتَهُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّهُ مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، وَالْأَصْلُ، جَاءُوا بِظُلْمٍ. وَقِيلَ: هُوَ مُنْتَصِبٌ عَلَى الْحَالِ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ ظُلْمًا لِأَنَّهُمْ نَسَبُوا الْقَبِيحَ إِلَى مَنْ هُوَ مُبَرَّأٌ مِنْهُ، فَقَدْ وَضَعُوا الشَّيْءَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَهَذَا هُوَ الظُّلْمُ، وَأَمَّا كَوْنُ ذَلِكَ مِنْهُمْ زُورًا فظاهر، لأنهم قد كذبوا في هَذِهِ الْمَقَالَةَ. ثُمَّ ذَكَرَ الشُّبْهَةَ الثَّانِيَةَ فَقَالَ: وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أَيْ:
أَحَادِيثُ الْأَوَّلِينَ، وَمَا سَطَّرُوهُ مِنَ الْأَخْبَارِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَاحِدُ الْأَسَاطِيرِ: أُسْطُورَةٌ، مِثْلُ: أَحَادِيثَ، وَأُحْدُوثَةٍ، وَقَالَ غَيْرُهُ: أَسَاطِيرُ جَمْعُ أَسْطَارٍ مِثْلُ أَقَاوِيلَ وَأَقْوَالٍ اكْتَتَبَها
أَيِ: اسْتَكْتَبَهَا أَوْ كَتَبَهَا لِنَفْسِهِ، وَمَحَلُّ اكْتَتَبَهَا: النَّصْبُ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنْ أَسَاطِيرَ، أَوْ مَحَلُّهُ الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ ثَانٍ، لِأَنَّ أَسَاطِيرَ مُرْتَفِعٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هَذِهِ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَسَاطِيرُ مُبْتَدَأً، وَاكْتَتَبَهَا خَبَرَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى اكْتَتَبَهَا جَمَعَهَا مِنَ الْكُتُبِ، وَهُوَ الْجَمْعُ، لَا مِنَ الْكِتَابَةِ بِالْقَلَمِ. وَالْأَوَّلُ: أَوْلَى. وَقَرَأَ طَلْحَةُ اكْتَتَبَها مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَالْمَعْنَى: اكْتَتَبَهَا لَهُ كَاتِبٌ، لِأَنَّهُ كَانَ أُمِّيًّا لَا يَكْتُبُ، ثُمَّ حذفت اللام فأفضى الفعل إلى ضمير فَصَارَ اكْتَتَبَهَا إِيَّاهُ، ثُمَّ بَنَى الْفِعْلَ لِلضَّمِيرِ الَّذِي هُوَ إِيَّاهُ، فَانْقَلَبَ مَرْفُوعًا مُسْتَتِرًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مَنْصُوبًا بَارِزًا، كَذَا قَالَ فِي الْكَشَّافِ، وَاعْتَرَضَهُ أَبُو حَيَّانَ فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ أَيْ: تُلْقَى عَلَيْهِ تِلْكَ الْأَسَاطِيرُ بَعْدَ مَا اكتتبها ليحفظها من أفواه من يمليها مِنْ ذَلِكَ الْمُكْتَتَبِ لِكَوْنِهِ أُمِيًّا لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَقْرَأَهَا مِنْ ذَلِكَ الْمَكْتُوبِ بِنَفْسِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى اكْتَتَبَهَا أَرَادَ اكْتِتَابَهَا فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يُقَالُ: أُمْلِيَتْ عَلَيْهِ فَهُوَ يَكْتُبُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا غَدْوَةً وَعَشِيًّا كَأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ هَؤُلَاءِ يُعَلِّمُونَ مُحَمَّدًا طَرَفَيِ النَّهَارِ، وَقِيلَ: مَعْنَى بُكَرَةً وَأَصِيلًا: دَائِمًا فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ، فَأَجَابَ سُبْحَانَهُ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ بِقَوْلِهِ: قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَيْ: لَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا يُفْتَرَى وَيُفْتَعَلُ بِإِعَانَةِ قَوْمٍ، وَكِتَابَةِ آخَرِينَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمُلَفَّقَةِ وَأَخْبَارِ الْأَوَّلِينَ، بَلْ هُوَ أَمْرٌ سَمَاوِيٌّ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ لَا يَغِيبُ عَنْهُ شَيْءٌ مِنَ الْأَشْيَاءِ، فَلِهَذَا عَجَزْتُمْ عَنْ مُعَارَضَتِهِ وَلَمْ تَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْهُ، وَخُصَّ السِّرُّ لِلْإِشَارَةِ إِلَى انْطِوَاءِ مَا أَنْزَلَهُ سُبْحَانَهُ عَلَى أَسْرَارٍ بَدِيعَةٍ لَا تَبْلُغُ إِلَيْهَا عُقُولُ الْبَشَرِ، وَالسِّرُّ: الْغَيْبُ، أَيْ: يَعْلَمُ الْغَيْبَ الْكَائِنَ فِيهِمَا، وَجُمْلَةُ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً تَعْلِيلٌ لِتَأْخِيرِ الْعُقُوبَةِ، أَيْ: إِنَّكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مُسْتَحِقِّينَ لِتَعْجِيلِ الْعُقُوبَةِ بما تَفْعَلُونَهُ مِنَ الْكَذِبِ عَلَى رَسُولِهِ وَالظُّلْمِ لَهُ، فَإِنَّهُ لَا يُعَجِّلُ عَلَيْكُمْ بِذَلِكَ، لِأَنَّهُ كَثِيرُ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَبارَكَ تَفَاعَلَ مِنَ الْبَرَكَةِ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ