الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مَنْ عَقَدَ لِوَاءً فِي غَيْرِ حَقٍّ، أَوْ عَقَّ وَالِدَيْهِ، أَوْ مَشَى مَعَ ظَالِمٍ لِيَنْصُرَهُ فَقَدْ أَجْرَمَ، يَقُولُ اللَّهُ: إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ» . قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ: هَذَا حَدِيثٌ غريب.
[سورة السجده (32) : الآيات 23 الى 30]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (23) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (27)
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
قَوْلُهُ: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ أَيْ: التَّوْرَاةَ فَلا تَكُنْ يَا مُحَمَّدُ فِي مِرْيَةٍ أَيْ: شَكٍّ وَرِيبَةٍ مِنْ لِقائِهِ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: وُعِدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ سَيَلْقَى مُوسَى قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ، ثُمَّ لَقِيَهُ فِي السَّمَاءِ أَوْ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ حِينَ أُسْرِيَ بِهِ. وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالْكَلْبِيِّ وَالسُّدِّيِّ. وَقِيلَ: فَلَا تَكُنْ فِي شَكٍّ مِنْ لِقَاءِ مُوسَى فِي الْقِيَامَةِ وَسَتَلْقَاهُ فِيهَا. وَقِيلَ: فَلَا تَكُنْ فِي شَكٍّ مِنْ لِقَاءِ مُوسَى لِلْكِتَابِ قَالَهُ الزَّجَّاجُ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ مَعْنَاهُ: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَكُذِّبَ وَأُوذِيَ، فَلَا تَكُنْ فِي شَكٍّ مِنْ أَنَّهُ سَيَلْقَاكَ مَا لَقِيَهُ مِنَ التَّكْذِيبِ وَالْأَذَى، فَيَكُونُ الضَّمِيرُ فِي لِقَائِهِ عَلَى هَذَا عَائِدًا عَلَى مَحْذُوفٍ، وَالْمَعْنَى: مِنْ لِقَاءِ مَا لَاقَى مُوسَى.
قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا قَوْلٌ غَرِيبٌ. وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ تقديم وَتَأْخِيرٌ، وَالْمَعْنَى: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ، فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ، فَجَاءَ مُعْتَرِضًا بَيْنَ وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَبَيْنَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ وَقِيلَ: الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْكِتَابِ الَّذِي هُوَ الْفُرْقَانُ كقوله: وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ «1» وَالْمَعْنَى: إِنَّا آتَيْنَا مُوسَى مِثْلَ مَا آتَيْنَاكَ مِنَ الْكِتَابِ، وَلَقَّيْنَاهُ مِثْلَ مَا لَقَّيْنَاكَ مِنَ الْوَحْيِ فَلَا تَكُنْ فِي شَكٍّ مِنْ أَنَّكَ لُقِّيتَ مِثْلَهُ وَنَظِيرَهُ، وَمَا أَبْعَدَ هَذَا، وَلَعَلَّ الْحَامِلَ لِقَائِلِهِ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ فَإِنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إِلَى الْكِتَابِ، وَقِيلَ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي لِقَائِهِ عَائِدٌ إِلَى الرُّجُوعِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ أَيْ: لَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ الرجوع، وهذا بعيد أيضا.
واختلف فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْناهُ فَقِيلَ: هُوَ رَاجِعٌ إِلَى الْكِتَابِ، أَيْ: جَعَلْنَا التَّوْرَاةَ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: إِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى مُوسَى، أَيْ: وَجَعَلْنَا مُوسَى هُدًى لِبَنِي إسرائيل وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً أي: قتادة يَقْتَدُونَ بِهِ فِي دِينِهِمْ، وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ «أَئِمَّةً» قَالَ النَّحَّاسُ: وَهُوَ لَحْنٌ عِنْدَ جَمِيعِ النَّحْوِيِّينَ، لِأَنَّهُ جَمْعٌ بَيْنَ هَمْزَتَيْنِ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَمَعْنَى يَهْدُونَ بِأَمْرِنا أَيْ: يَدْعُونَهُمْ إِلَى الْهِدَايَةِ بِمَا يُلْقُونَهُ إِلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ وَمَوَاعِظِهَا بِأَمْرِنَا، أَيْ: بِأَمْرِنَا لَهُمْ بِذَلِكَ، أَوْ لِأَجْلِ أمرنا. وقال قتادة: المراد
(1) . النمل: 6.
بِالْأَئِمَّةِ: الْأَنْبِيَاءُ مِنْهُمْ. وَقِيلَ: الْعُلَمَاءُ لَمَّا صَبَرُوا قَرَأَ الْجُمْهُورُ «لَمَّا» بِفَتْحِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ، أَيْ:
حِينَ صَبَرُوا، وَالضَّمِيرُ: لِلْأَئِمَّةِ، وَفِي: لَمَّا، مَعْنَى الْجَزَاءِ، وَالتَّقْدِيرُ: لَمَّا صَبَرُوا جَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ، وَوَرْشٌ عَنْ يَعْقُوبَ وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ بِكَسْرِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ: أَيْ جَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً لِصَبْرِهِمْ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدٍ مُسْتَدِلًّا بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ «بِمَا صَبَرُوا» بِالْبَاءِ، وَهَذَا الصَّبْرُ هُوَ صَبْرُهُمْ عَلَى مَشَاقِّ التَّكْلِيفِ، وَالْهِدَايَةِ لِلنَّاسِ، وَقِيلَ: صَبَرُوا عَنِ الدُّنْيَا وَكانُوا بِآياتِنا التَّنْزِيلِيَّةِ يُوقِنُونَ أَيْ: يُصَدِّقُونَهَا، وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا حَقٌّ، وَأَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِمَزِيدِ تَفَكُّرِهِمْ، وَكَثْرَةِ تَدَبُّرِهِمْ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ أَيْ: يَقْضِي بَيْنَهُمْ، وَيَحْكُمُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ وَقِيلَ:
يَقْضِي بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ وَأُمَمِهِمْ، حَكَاهُ النقاش أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ أي: أو لم يُبَيَّنْ لَهُمْ، وَالْهَمْزَةُ لِلْإِنْكَارِ، وَالْفَاعِلُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ أي: أو لم نُبَيِّنْ لَهُمْ كَثْرَةَ إِهْلَاكِنَا مَنْ قَبْلَهُمْ. قَالَ الْفَرَّاءُ:
كَمْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِيَهْدِ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: إِنَّ الْفَاعِلَ الْهُدَى الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِيَهْدِ: أي: أو لم يَهْدِ لَهُمُ الْهُدَى. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: كَمْ فِي موضع نصب بأهلكنا، قرأ الجمهور «أو لم يَهْدِ» بِالتَّحْتِيَّةِ، وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو زَيْدٍ عَنْ يَعْقُوبَ بِالنُّونِ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ وَاضِحَةٌ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَالْقِرَاءَةُ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ فِيهَا إِشْكَالٌ لِأَنَّهُ يُقَالُ:
الْفِعْلُ لَا يَخْلُو مِنْ فَاعِلٍ فَأَيْنَ الْفَاعِلُ لِيَهْدِ؟ وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الْفَاعِلَ هُوَ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ، وَالْمُرَادُ بِالْقُرُونِ: عَادٌ وَثَمُودُ وَنَحْوُهُمْ، وَجُمْلَةُ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ لَهُمْ، أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُمْ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِ الْمُهْلَكِينَ وَيُشَاهِدُونَهَا، وَيَنْظُرُونَ مَا فِيهَا مِنَ الْعِبَرِ وَآثَارِ الْعَذَابِ، وَلَا يَعْتَبِرُونَ بِذَلِكَ، وَقِيلَ: يَعُودُ إِلَى الْمُهْلَكِينَ، وَالْمَعْنَى: أَهْلَكْنَاهُمْ حَالَ كَوْنِهِمْ مَاشِينَ فِي مَسَاكِنِهِمْ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى إِنَّ فِي ذلِكَ الْمَذْكُورِ لَآياتٍ عظيمات أَفَلا يَسْمَعُونَ ها وَيَتَّعِظُونَ بِهَا أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ أي: أو لم يَعْلَمُوا بِسَوْقِنَا الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي لَا تَنْبُتُ إِلَّا بِسَوْقِ الْمَاءِ إِلَيْهَا؟ وَقِيلَ:
هِيَ الْيَابِسَةُ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْجَرْزِ: وَهُوَ الْقَطْعُ، أَيِ: الَّتِي قُطِعَ نَبَاتُهَا لِعَدَمِ الْمَاءِ، وَلَا يُقَالُ لِلَّتِي لَا تُنْبِتُ أَصْلًا كَالسِّبَاخِ جُرُزٌ لِقَوْلِهِ: فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً قِيلَ: هِيَ أَرْضُ الْيَمَنِ، وَقِيلَ: أَرْضُ عَدَنٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ:
هِيَ الْأَرْضُ الْعَطْشَى، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هِيَ الْأَرْضُ الَّتِي لَا نَبَاتَ فِيهَا. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: هِيَ الْأَرْضُ الَّتِي لَا تُنْبِتُ شَيْئًا. قَالَ الْمُبَرِّدُ: يَبْعُدُ أَنْ تكن لأرض بِعَيْنِهَا لِدُخُولِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَقِيلَ: هِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ قَوْلِهِمْ رَجُلٌ جَرُوزٌ: إِذَا كَانَ لَا يُبْقِي شَيْئًا إِلَّا أَكَلَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ:
خِبٌّ جَرُوزٌ وَإِذَا جَاعَ بَكَى
…
وَيَأْكُلُ التَّمْرَ وَلَا يُلْقِي النَّوَى
وَكَذَلِكَ نَاقَةٌ جَرُوزٌ: إِذَا كَانَتْ تَأْكُلُ كُلَّ شَيْءٍ تَجِدُهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّهَا أَرْضُ النِّيلِ، لِأَنَّ الْمَاءَ إِنَّمَا يَأْتِيهَا فِي كُلِّ عَامٍ فَنُخْرِجُ بِهِ أَيْ: بِالْمَاءِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ أَيْ: مِنَ الزَّرْعِ كَالتِّبْنِ، وَالْوَرَقِ، وَنَحْوِهِمَا مِمَّا لَا يَأْكُلُهُ النَّاسُ وَأَنْفُسُهُمْ أَيْ: يَأْكُلُونَ الْحُبُوبَ الْخَارِجَةَ فِي الزَّرْعِ مِمَّا يَقْتَاتُونَهُ، وَجُمْلَةُ تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ أَفَلا يُبْصِرُونَ هَذِهِ النِّعَمَ وَيَشْكُرُونَ الْمُنْعِمَ، وَيُوَحِّدُونَهُ لِكَوْنِهِ الْمُنْفَرِدَ بِإِيجَادِ ذَلِكَ وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ الْقَائِلُونَ: هُمُ الْكُفَّارُ عَلَى الْعُمُومِ،
أَوْ كُفَّارُ مَكَّةَ عَلَى الْخُصُوصِ، أَيْ: مَتَى الفتح الذي تعدونا بِهِ، يَعْنُونَ بِالْفَتْحِ: الْقَضَاءَ، وَالْفَصْلَ بَيْنَ الْعِبَادِ، وَهُوَ يَوْمُ الْبَعْثِ الَّذِي يَقْضِي اللَّهُ فِيهِ بَيْنَ عِبَادِهِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ والقتبي: هُوَ فَتْحُ مَكَّةَ. قَالَ قَتَادَةُ: قَالَ أَصْحَابُ النبيّ صلى الله عليه وسلم لِلْكُفَّارِ: إِنَّ لَنَا يَوْمًا نَنْعَمُ فِيهِ، وَنَسْتَرِيحُ، وَيَحْكُمُ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ، يَعْنُونَ:
يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَقَالَ الْكُفَّارُ: مَتَى هَذَا الْفَتْحُ؟ وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ يَوْمُ بَدْرٍ، لِأَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانُوا يَقُولُونَ لِلْكُفَّارِ: إِنَّ اللَّهَ نَاصِرُنَا وَمُظْهِرُنَا عَلَيْكُمْ، وَمَتَى فِي قَوْلِهِ: مَتى هذَا الْفَتْحُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، أَوْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ. ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُجِيبَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ يَوْمَ الْفَتْحِ هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، لِأَنَّ يَوْمَ فتح مكة ويوم بدرهما مِمَّا يَنْفَعُ فِيهِ الْإِيمَانُ، وَقَدْ أَسْلَمَ أَهْلُ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَقَبِلَ ذَلِكَ مِنْهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَمَعْنَى: وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ لَا يُمْهَلُونَ، وَلَا يُؤَخَّرُونَ، وَيَوْمَ فِي يَوْمَ الْفَتْحِ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ الرَّفْعَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أَيْ: عَنْ سَفَهِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ وَلَا تُجِبْهُمْ إِلَّا بِمَا أُمِرْتَ بِهِ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ أَيْ:
وَانْتَظِرْ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، أَوْ يَوْمُ إِهْلَاكِهِمْ بِالْقَتْلِ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ بِكَ حَوَادِثَ الزَّمَانِ مِنْ مَوْتٍ، أَوْ قَتْلٍ، أَوْ غَلَبَةٍ كقوله: فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ «1» وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ: إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ لِإِهْلَاكِهِمْ، وَالْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَقِيلَ: غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، إِذْ قَدْ يَقَعُ الْإِعْرَاضُ مَعَ الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ. وَقَرَأَ ابن السميقع «إِنَّهُمْ مُنْتَظَرُونَ» بِفَتْحِ الظَّاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ مُجَاهِدٍ وَابْنِ مُحَيْصِنٍ. قَالَ الْفَرَّاءُ: لَا يَصِحُّ هَذَا إِلَّا بِإِضْمَارٍ، أَيْ: إِنَّهُمْ مُنْتَظَرٌ بِهِمْ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: الصَّحِيحُ الْكَسْرُ، أَيِ: انْتَظِرْ عَذَابَهُمْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ هَلَاكَكَ.
وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسَرِيَ بِي مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ رَجُلًا طَوِيلًا جَعْدًا كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَرَأَيْتُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ مَرْبُوعَ الْخَلْقِ إِلَى الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ، سَبْطَ الرَّأْسِ، وَرَأَيْتُ مَالِكًا خَازِنَ جَهَنَّمَ وَالدَّجَّالَ» فِي آيَاتٍ أَرَاهُنَّ اللَّهُ إِيَّاهُ.
قَالَ: فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ فَكَانَ قَتَادَةُ يُفَسِّرُهَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ لَقِيَ مُوسَى وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ قَالَ: جَعَلَ اللَّهُ مُوسَى هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ بِسَنَدٍ قَالَ السُّيُوطِيُّ: صَحِيحٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ قَالَ: مِنْ لِقَاءِ مُوسَى، قِيلَ أَوَ لَقِيَ مُوسَى؟ قَالَ: نَعَمْ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا «2» وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ قَالَ: الْجُرُزُ الَّتِي لَا تُمْطَرُ إِلَّا مَطَرًا لَا يُغْنِي عَنْهَا شَيْئًا إِلَّا مَا يَأْتِيهَا مِنَ السُّيُولِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ قَالَ:
أَرْضٌ بِالْيَمَنِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: وَالْإِسْنَادُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ صَحِيحٌ لَا مَطْعَنَ فِيهِ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قَالَ: يَوْمُ بَدْرٍ فُتِحَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَنْفَعِ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ بَعْدَ الموت.
(1) . التوبة: 52.
(2)
. الزخرف: 45.