المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة سبإ (34) : الآيات 15 الى 21] - فتح القدير للشوكاني - جـ ٤

[الشوكاني]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الرابع

- ‌سورة النّور

- ‌[سورة النور (24) : الآيات 1 الى 3]

- ‌[سورة النور (24) : الآيات 4 الى 10]

- ‌[سورة النور (24) : الآيات 11 الى 21]

- ‌[سورة النور (24) : الآيات 22 الى 26]

- ‌[سورة النور (24) : الآيات 27 الى 29]

- ‌[سورة النور (24) : الآيات 30 الى 31]

- ‌[سورة النور (24) : الآيات 32 الى 34]

- ‌[سورة النور (24) : الآيات 35 الى 38]

- ‌[سورة النور (24) : الآيات 39 الى 46]

- ‌[سورة النور (24) : الآيات 47 الى 57]

- ‌[سورة النور (24) : الآيات 58 الى 61]

- ‌[سورة النور (24) : الآيات 62 الى 64]

- ‌سورة الفرقان

- ‌[سورة الفرقان (25) : الآيات 1 الى 6]

- ‌[سورة الفرقان (25) : الآيات 7 الى 16]

- ‌[سورة الفرقان (25) : الآيات 17 الى 24]

- ‌[سورة الفرقان (25) : الآيات 25 الى 34]

- ‌[سورة الفرقان (25) : الآيات 35 الى 44]

- ‌[سورة الفرقان (25) : الآيات 45 الى 54]

- ‌[سورة الفرقان (25) : الآيات 55 الى 67]

- ‌[سورة الفرقان (25) : الآيات 68 الى 77]

- ‌سورة الشّعراء

- ‌[سورة الشعراء (26) : الآيات 1 الى 22]

- ‌[سورة الشعراء (26) : الآيات 23 الى 51]

- ‌[سورة الشعراء (26) : الآيات 52 الى 68]

- ‌[سورة الشعراء (26) : الآيات 69 الى 104]

- ‌[سورة الشعراء (26) : الآيات 105 الى 135]

- ‌[سورة الشعراء (26) : الآيات 136 الى 159]

- ‌[سورة الشعراء (26) : الآيات 160 الى 191]

- ‌[سورة الشعراء (26) : الآيات 192 الى 227]

- ‌سورة النّمل

- ‌[سورة النمل (27) : الآيات 1 الى 14]

- ‌[سورة النمل (27) : الآيات 15 الى 26]

- ‌[سورة النمل (27) : الآيات 27 الى 40]

- ‌[سورة النمل (27) : الآيات 41 الى 44]

- ‌[سورة النمل (27) : الآيات 45 الى 53]

- ‌[سورة النمل (27) : الآيات 54 الى 66]

- ‌[سورة النمل (27) : الآيات 67 الى 82]

- ‌[سورة النمل (27) : الآيات 83 الى 93]

- ‌سورة القصص

- ‌[سورة القصص (28) : الآيات 1 الى 13]

- ‌[سورة القصص (28) : الآيات 14 الى 24]

- ‌[سورة القصص (28) : الآيات 25 الى 32]

- ‌[سورة القصص (28) : الآيات 33 الى 43]

- ‌[سورة القصص (28) : الآيات 44 الى 57]

- ‌[سورة القصص (28) : الآيات 58 الى 70]

- ‌[سورة القصص (28) : الآيات 71 الى 88]

- ‌سورة العنكبوت

- ‌[سورة العنكبوت (29) : الآيات 1 الى 13]

- ‌[سورة العنكبوت (29) : الآيات 14 الى 27]

- ‌[سورة العنكبوت (29) : الآيات 28 الى 40]

- ‌[سورة العنكبوت (29) : الآيات 41 الى 46]

- ‌[سورة العنكبوت (29) : الآيات 47 الى 55]

- ‌[سورة العنكبوت (29) : الآيات 56 الى 69]

- ‌سورة الرّوم

- ‌[سورة الروم (30) : الآيات 1 الى 10]

- ‌[سورة الروم (30) : الآيات 11 الى 27]

- ‌[سورة الروم (30) : الآيات 28 الى 37]

- ‌[سورة الروم (30) : الآيات 38 الى 46]

- ‌[سورة الروم (30) : الآيات 47 الى 60]

- ‌سورة لقمان

- ‌[سورة لقمان (31) : الآيات 1 الى 11]

- ‌[سورة لقمان (31) : الآيات 12 الى 19]

- ‌[سورة لقمان (31) : الآيات 20 الى 28]

- ‌[سورة لقمان (31) : الآيات 29 الى 34]

- ‌سورة السّجدة

- ‌[سورة السجده (32) : الآيات 1 الى 11]

- ‌[سورة السجده (32) : الآيات 12 الى 22]

- ‌[سورة السجده (32) : الآيات 23 الى 30]

- ‌سُورَةِ الْأَحْزَابِ

- ‌[سورة الأحزاب (33) : الآيات 1 الى 6]

- ‌[سورة الأحزاب (33) : الآيات 7 الى 17]

- ‌[سورة الأحزاب (33) : الآيات 18 الى 25]

- ‌[سورة الأحزاب (33) : الآيات 26 الى 27]

- ‌[سورة الأحزاب (33) : الآيات 28 الى 34]

- ‌[سورة الأحزاب (33) : الآيات 35 الى 36]

- ‌[سورة الأحزاب (33) : الآيات 37 الى 40]

- ‌[سورة الأحزاب (33) : الآيات 41 الى 48]

- ‌[سورة الأحزاب (33) : الآيات 49 الى 52]

- ‌[سورة الأحزاب (33) : الآيات 53 الى 55]

- ‌[سورة الأحزاب (33) : الآيات 56 الى 58]

- ‌[سورة الأحزاب (33) : الآيات 59 الى 68]

- ‌[سورة الأحزاب (33) : الآيات 69 الى 73]

- ‌سُورَةِ سَبَأٍ

- ‌[سورة سبإ (34) : الآيات 1 الى 9]

- ‌[سورة سبإ (34) : الآيات 10 الى 14]

- ‌[سورة سبإ (34) : الآيات 15 الى 21]

- ‌[سورة سبإ (34) : الآيات 22 الى 27]

- ‌[سورة سبإ (34) : الآيات 28 الى 33]

- ‌[سورة سبإ (34) : الآيات 34 الى 42]

- ‌[سورة سبإ (34) : الآيات 43 الى 50]

- ‌[سورة سبإ (34) : الآيات 51 الى 54]

- ‌سُورَةِ فَاطِرٍ

- ‌[سورة فاطر (35) : الآيات 1 الى 8]

- ‌[سورة فاطر (35) : الآيات 9 الى 14]

- ‌[سورة فاطر (35) : الآيات 15 الى 26]

- ‌[سورة فاطر (35) : الآيات 27 الى 35]

- ‌[سورة فاطر (35) : الآيات 36 الى 45]

- ‌سُورَةِ يس

- ‌[سورة يس (36) : الآيات 1 الى 12]

- ‌[سورة يس (36) : الآيات 13 الى 27]

- ‌[سورة يس (36) : الآيات 28 الى 40]

- ‌[سورة يس (36) : الآيات 41 الى 54]

- ‌[سورة يس (36) : الآيات 55 الى 70]

- ‌[سورة يس (36) : الآيات 71 الى 83]

- ‌سُورَةِ الصَّافَّاتِ

- ‌[سورة الصافات (37) : الآيات 1 الى 19]

- ‌[سورة الصافات (37) : الآيات 20 الى 49]

- ‌[سورة الصافات (37) : الآيات 50 الى 74]

- ‌[سورة الصافات (37) : الآيات 75 الى 113]

- ‌[سورة الصافات (37) : الآيات 114 الى 148]

- ‌[سورة الصافات (37) : الآيات 149 الى 182]

- ‌سورة ص

- ‌[سورة ص (38) : الآيات 1 الى 11]

- ‌[سورة ص (38) : الآيات 12 الى 25]

- ‌[سورة ص (38) : الآيات 26 الى 33]

- ‌[سورة ص (38) : الآيات 34 الى 40]

- ‌[سورة ص (38) : الآيات 41 الى 54]

- ‌[سورة ص (38) : الآيات 55 الى 70]

- ‌[سورة ص (38) : الآيات 71 الى 88]

- ‌سورة الزّمر

- ‌[سورة الزمر (39) : الآيات 1 الى 6]

- ‌[سورة الزمر (39) : الآيات 7 الى 12]

- ‌[سورة الزمر (39) : الآيات 13 الى 20]

- ‌[سورة الزمر (39) : الآيات 21 الى 26]

- ‌[سورة الزمر (39) : الآيات 27 الى 35]

- ‌[سورة الزمر (39) : الآيات 36 الى 42]

- ‌[سورة الزمر (39) : الآيات 43 الى 48]

- ‌[سورة الزمر (39) : الآيات 49 الى 61]

- ‌[سورة الزمر (39) : الآيات 62 الى 72]

- ‌[سورة الزمر (39) : الآيات 73 الى 75]

- ‌سورة غافر

- ‌[سورة غافر (40) : الآيات 1 الى 9]

- ‌[سورة غافر (40) : الآيات 10 الى 20]

- ‌[سورة غافر (40) : الآيات 21 الى 29]

- ‌[سورة غافر (40) : الآيات 30 الى 40]

- ‌[سورة غافر (40) : الآيات 41 الى 52]

- ‌[سورة غافر (40) : الآيات 53 الى 65]

- ‌[سورة غافر (40) : الآيات 66 الى 85]

- ‌سورة فصّلت

- ‌[سورة فصلت (41) : الآيات 1 الى 14]

- ‌[سورة فصلت (41) : الآيات 15 الى 24]

- ‌[سورة فصلت (41) : الآيات 25 الى 36]

- ‌[سورة فصلت (41) : الآيات 37 الى 44]

- ‌[سورة فصلت (41) : الآيات 45 الى 54]

- ‌سورة الشّورى

- ‌[سورة الشورى (42) : الآيات 1 الى 12]

- ‌[سورة الشورى (42) : الآيات 13 الى 18]

- ‌[سورة الشورى (42) : الآيات 19 الى 28]

- ‌[سورة الشورى (42) : الآيات 29 الى 43]

- ‌[سورة الشورى (42) : الآيات 44 الى 53]

- ‌سورة الزّخرف

- ‌[سورة الزخرف (43) : الآيات 1 الى 20]

- ‌[سورة الزخرف (43) : الآيات 21 الى 35]

- ‌[سورة الزخرف (43) : الآيات 36 الى 45]

- ‌[سورة الزخرف (43) : الآيات 46 الى 56]

- ‌[سورة الزخرف (43) : الآيات 57 الى 73]

- ‌[سورة الزخرف (43) : الآيات 74 الى 89]

- ‌سورة الدّخان

- ‌[سورة الدخان (44) : الآيات 1 الى 16]

- ‌[سورة الدخان (44) : الآيات 17 الى 37]

- ‌[سورة الدخان (44) : الآيات 38 الى 59]

- ‌فهرس الموضوعات

- ‌سورة النور

- ‌سورة الفرقان (25)

- ‌سورة الشعراء (26)

- ‌سورة النمل (27)

- ‌سورة القصص (28)

- ‌سورة العنكبوت (29)

- ‌سورة الروم (30)

- ‌سورة لقمان (31)

- ‌سورة السجدة (32)

- ‌سورة الأحزاب (33)

- ‌سورة سبأ (34)

- ‌سورة فاطر (35)

- ‌سورة يس (36)

- ‌سورة الصافات (37)

- ‌سورة ص (38)

- ‌سورة الزمر (39)

- ‌سورة غافر (40)

- ‌سورة فصلت (41)

- ‌سورة الشورى (42)

- ‌سورة الزخرف (43)

- ‌سورة الدخان (44)

الفصل: ‌[سورة سبإ (34) : الآيات 15 الى 21]

وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «كَانَ سُلَيْمَانُ إِذَا صَلَّى رَأَى شَجَرَةً نَابِتَةً بَيْنَ يَدَيْهِ، فَيَقُولُ لَهَا مَا اسمك؟ فتقول كذا وكذا، فيقول لم أَنْتِ؟ فَتَقُولُ لِكَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كَانَتْ لِغَرْسٍ غُرِسَتْ، وَإِنْ كَانَتْ لِدَوَاءٍ كُتِبَتْ» وَصَلَّى ذَاتَ يَوْمٍ فَإِذَا شَجَرَةٌ نَابِتَةٌ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ لَهَا: مَا اسْمُكِ؟ قَالَتِ الْخَرُّوبَ. قَالَ:

لِأَيِّ شَيْءٍ أَنْتِ؟ قَالَتْ: لِخَرَابِ هَذَا الْبَيْتِ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ: اللَّهُمَّ عَمِّ عَنِ الْجِنِّ مَوْتِي حَتَّى يَعْلَمَ الْإِنْسُ أَنَّ الْجِنَّ لَا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ، فَهَيَّأَ عَصًا فَتَوَكَّأَ عَلَيْهَا، وَقَبَضَهُ اللَّهُ وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَيْهَا، فَمَكَثَ حَوْلًا مَيِّتًا وَالْجِنُّ تَعْمَلُ، فَأَكَلَتْهَا الْأَرَضَةُ فَسَقَطَتْ، فَعَلِمُوا عِنْدَ ذَلِكَ بِمَوْتِهِ، فَتَبَيَّنَتِ الْإِنْسُ أَنْ الْجِنَّ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَؤُهَا كَذَلِكَ، فَشَكَرَتِ الْجِنُّ لِلْأَرَضَةِ، فأينما كانت يأتونها بِالْمَاءِ، وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا. وَأَخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ مَرْفُوعًا يَقُولُ اللَّهُ عز وجل:«إِنِّي تَفَضَّلْتُ عَلَى عِبَادِي بِثَلَاثٍ: أَلْقَيْتُ الدَّابَّةَ عَلَى الْحَبَّةِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَنَزَهَا الْمُلُوكُ كَمَا يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ، وَأَلْقَيْتُ النَّتْنَ عَلَى الْجَسَدِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَدْفِنْ حَبِيبٌ حَبِيبَهُ، وَاسْتَلَبْتُ الْحُزْنَ وَلَوْلَا ذلك لذهب النّسل» .

[سورة سبإ (34) : الآيات 15 الى 21]

لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَاّ الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (18) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)

وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَاّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَاّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)

لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ حَالَ بَعْضِ الشَّاكِرِينَ لِنِعَمِهِ عَقَّبَهُ بحال الْجَاحِدِينَ لَهَا، فَقَالَ: لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ الْمُرَادُ بِسَبَإٍ الْقَبِيلَةُ الَّتِي هِيَ مِنْ أَوْلَادِ سَبَإٍ، وَهُوَ سَبَأُ بْنُ يَشْجُبَ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطَانَ بْنِ هُودٍ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ لِسَبَإٍ بِالْجَرِّ وَالتَّنْوِينِ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ حَيٍّ، أَيِ: الْحَيُّ الذي هُمْ أَوْلَادُ سَبَأٍ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو لِسَبَإٍ مَمْنُوعَ الصَّرْفِ بِتَأْوِيلِ الْقَبِيلَةِ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَيُقَوِّي الْقِرَاءَةَ الْأُولَى قوله: فِي مَسْكَنِهِمْ وَلَوْ كَانَ عَلَى تَأْوِيلِ الْقَبِيلَةِ لَقَالَ فِي مساكنها، فمما وَرَدَ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى قَوْلُ الشَّاعِرِ:

الْوَارِدُونَ وَتَيْمٌ فِي ذُرَى سَبَأٍ

قَدْ عَضَّ أَعْنَاقَهَا جِلْدُ الْجَوَامِيسِ

وَمِمَّا وَرَدَ عَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

مِنْ سَبَأَ الْحَاضِرِينَ مَأْرِبُ إِذْ

يبنون من دون سيلها الْعَرِمَا

وَقَرَأَ قُنْبُلٌ وَأَبُو حَيْوَةَ وَالْجَحْدَرِيُّ لِسَبَإٍ بِإِسْكَانِ الْهَمْزَةِ، وَقُرِئَ بِقَلْبِهَا أَلِفًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ

ص: 366

فِي مَسْكَنِهِمْ عَلَى الْجَمْعِ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ، وَوَجْهُ الِاخْتِيَارِ أَنَّهَا كَانَتْ لَهُمْ مَنَازِلُ كَثِيرَةٌ، وَمَسَاكِنُ مُتَعَدِّدَةٌ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَحَفْصٌ بِالْإِفْرَادِ مَعَ فَتْحِ الْكَافِ. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ بِالْإِفْرَادِ مَعَ كَسْرِهَا، وَبِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ قَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ، وَوَجْهُ الْإِفْرَادِ أَنَّهُ مَصْدَرٌ يَشْمَلُ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ، أَوِ اسْمُ مَكَانٍ وَأُرِيدَ بِهِ مَعْنَى الْجَمْعِ، وَهَذِهِ الْمَسَاكِنُ الَّتِي كَانَتْ لَهُمْ هِيَ الَّتِي يُقَالُ لَهَا الْآنَ مَأْرِبٌ، وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ صَنْعَاءَ مَسِيرَةُ ثَلَاثِ لَيَالٍ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: آيَةٌ أَيْ: عَلَامَةٌ دَالَّةٌ عَلَى كَمَالِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَبَدِيعِ صُنْعِهِ، ثُمَّ بَيَّنَ هَذِهِ الْآيَةَ فَقَالَ: جَنَّتانِ وَارْتِفَاعُهُمَا عَلَى الْبَدَلِ مِنْ آيَةٌ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ، أَوْ: عَلَى أَنَّهُمَا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ قَالَهُ الزَّجَّاجُ، أَوْ عَلَى أَنَّهُمَا: مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ: عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ وَاخْتَارَ هَذَا الْوَجْهَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَفِيهِ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِابْتِدَاءُ بِالنَّكِرَةِ مِنْ غَيْرِ مُسَوِّغٍ وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ «جَنَّتَيْنِ» بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُمَا خَبَرٌ ثَانٍ وَاسْمُهَا آيَةٌ، وَهَاتَانِ الْجَنَّتَانِ:

كَانَتَا عَنْ يَمِينِ وَادِيهِمْ وَشِمَالِهِ قَدْ أَحَاطَتَا بِهِ مِنْ جِهَتَيْهِ، وَكَانَتْ مَسَاكِنُهُمْ فِي الْوَادِي، وَالْآيَةُ هِيَ الْجَنَّتَانِ، كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَمْشِي فِيهِمَا وَعَلَى رَأْسِهَا الْمِكْتَلُ، فَيَمْتَلِئُ مِنْ أَنْوَاعِ الْفَوَاكِهِ الَّتِي تَتَسَاقَطُ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَمَسَّهَا بِيَدِهَا. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ: إِنَّ الْآيَةَ الَّتِي كَانَتْ لِأَهْلِ سبأ في مساكنهم أنه لَمْ يَرَوْا فِيهَا بَعُوضَةً وَلَا ذُبَابًا وَلَا بُرْغُوثًا وَلَا قَمْلَةً وَلَا عَقْرَبًا وَلَا حَيَّةً وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْهَوَامِّ، وَإِذَا جَاءَهُمُ الرَّكْبُ فِي ثِيَابِهِمُ الْقَمْلُ مَاتَتْ عِنْدَ رُؤْيَتِهِمْ لِبُيُوتِهِمْ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَلَمْ يُرِدْ جَنَّتَيْنِ اثْنَتَيْنِ، بَلْ أَرَادَ مِنِ الْجِهَتَيْنِ يَمْنَةً وَيَسْرَةً فِي كُلِّ جِهَةِ بَسَاتِينُ كَثِيرَةٌ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ أَيْ: قِيلَ لَهُمْ ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ ثَمَّ أَمْرٌ، وَلَكِنِ الْمُرَادُ تَمْكِينُهُمْ مِنْ تِلْكَ النِّعَمِ، وَقِيلَ إِنَّهَا قَالَتْ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَالْمُرَادُ بِالرِّزْقِ: هُوَ ثِمَارُ الْجَنَّتَيْنِ، وَقِيلَ: إِنَّهُمْ خُوطِبُوا بِذَلِكَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِمْ وَاشْكُرُوا لَهُ عَلَى مَا رَزَقَكُمْ مِنْ هَذِهِ النِّعَمِ وَاعْمَلُوا بِطَاعَتِهِ وَاجْتَنِبُوا مَعَاصِيَهُ، وَجُمْلَةُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ مُوجِبِ الشُّكْرِ. وَالْمَعْنَى: هَذِهِ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ لِكَثْرَةِ أَشْجَارِهَا وَطِيبِ ثِمَارِهَا. وَقِيلَ مَعْنَى كَوْنِهَا طَيِّبَةً: أَنَّهَا غَيْرُ سَبِخَةٍ، وَقِيلَ لَيْسَ فِيهَا هَوَامُّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ صَنْعَاءُ. وَمَعْنَى وَرَبٌّ غَفُورٌ أَنَّ الْمُنْعِمَ عَلَيْهِمْ رَبٌّ غَفُورٌ لِذُنُوبِهِمْ. قَالَ مُقَاتِلٌ: الْمَعْنَى وَرَبُّكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ فيما رَزَقَكُمْ رَبٌّ غَفُورٌ لِلذُّنُوبِ.

وَقِيلَ إِنَّمَا جَمَعَ لَهُمْ بَيْنَ طِيبِ الْبَلْدَةِ وَالْمَغْفِرَةِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الرِّزْقَ قَدْ يَكُونُ فِيهِ حَرَامٌ. وَقَرَأَ ورش بنصب بلدة وربّ عَلَى الْمَدْحِ، أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ اسْكُنُوا بَلْدَةً وَاشْكُرُوا رَبًّا. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَا كَانَ مِنْهُمْ بَعْدَ هَذِهِ النِّعْمَةِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْهِمْ فَقَالَ: فَأَعْرَضُوا عَنِ الشُّكْرِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ وَكَذَّبُوا أَنْبِيَاءَهُمْ قَالَ السُّدِّيُّ: بَعَثَ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ سَبَأٍ ثَلَاثَةَ عَشَرَ نَبِيًّا فَكَذَّبُوهُمْ، وَكَذَا قَالَ وَهْبٌ. ثُمَّ لَمَّا وَقَعَ مِنْهُمُ الْإِعْرَاضَ عَنْ شُكْرِ النِّعْمَةِ أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نِقْمَةً سَلَبَ بِهَا مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَاءَ كَانَ يَأْتِي أَرْضَ سَبَأٍ مِنْ أَوْدِيَةِ الْيَمَنِ، فَرَدَمُوا رَدْمًا بَيْنَ جَبَلَيْنِ وَحَبَسُوا الْمَاءَ، وَجَعَلُوا فِي ذَلِكَ الرَّدْمِ ثَلَاثَةَ أَبْوَابٍ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، وَكَانُوا يَسْقُونَ مِنَ الْبَابِ الْأَعْلَى ثُمَّ مِنَ الْبَابِ الثَّانِي، ثُمَّ مِنَ الثَّالِثِ فَأَخْصَبُوا وَكَثُرَتْ أَمْوَالُهُمْ، فَلَمَّا كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ بَعَثَ اللَّهُ جُرَذًا، فَفَتَقَتْ ذَلِكَ الرَّدْمَ حَتَّى انْتَقَضَ فَدَخَلَ الْمَاءُ جَنَّتَهُمْ فَغَرَّقَهَا وَدَفَنَ السَّيْلُ بُيُوتَهُمْ، فَهَذَا هو سيل العرم، وهو جمع عرمة: وهي السَّكْرُ «1» الَّتِي تَحْبِسُ الْمَاءَ، وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ وغيره. وقال السدّي:

(1) . السكر بالسكون: ما سد به النهر.

ص: 367

الْعَرِمُ اسْمٌ لِلسَّدِّ. وَالْمَعْنَى: أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ السَّدِّ الْعَرِمِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: الْعَرِمُ اسْمُ الْوَادِي. وَقَالَ الزَّجَّاجُ:

الْعَرِمُ اسْمُ الْجُرَذِ الَّذِي نَقَبَ السَّدَّ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْخُلْدُ: فَنُسِبَ السَّيْلُ إِلَيْهِ لِكَوْنِهِ سَبَبَ جَرَيَانِهِ.

قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الْعَرِمُ مِنْ أَسْمَاءِ الْفَأْرِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ أَبِي نَجِيحٍ: الْعَرِمُ مَاءٌ أَحْمَرُ أَرْسَلَهُ اللَّهُ فِي السَّدِّ فَشَقَّهُ وَهَدَمَهُ. وَقِيلَ إِنَّ الْعَرِمَ اسْمُ الْمَطَرِ الشَّدِيدِ، وَقِيلَ اسْمٌ لِلسَّيْلِ الشَّدِيدِ، وَالْعِرَامَةُ فِي الْأَصْلِ: الشِّدَّةُ وَالشَّرَاسَةُ وَالصُّعُوبَةُ: يُقَالُ عَرَمَ فُلَانٌ: إِذَا تَشَدَّدَ وَتَصَعَّبَ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ أَنَّهُ قَالَ: الْعَرِمُ السَّيْلُ الَّذِي لَا يُطَاقُ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: الْعَرِمُ كُلُّ شَيْءٍ حَاجِزٌ بَيْنَ شَيْئَيْنِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ أَيْ: أَهْلَكْنَا جَنَّتَيْهِمُ اللَّتَيْنِ كَانَتَا مُشْتَمِلَتَيْنِ عَلَى تِلْكَ الْفَوَاكِهِ الطَّيِّبَةِ، وَالْأَنْوَاعِ الْحَسَنَةِ، وَأَعْطَيْنَاهُمْ بَدَلَهُمَا جَنَّتَيْنِ لَا خَيْرَ فِيهِمَا، وَلَا فَائِدَةَ لَهُمْ فِيمَا هُوَ نَابِتٌ فِيهِمَا وَلِهَذَا قَالَ: ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِتَنْوِينِ أُكُلٍ وَعَدَمِ إِضَافَتِهِ إِلَى خَمْطٍ وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو بِالْإِضَافَةِ. قَالَ الْخَلِيلُ: الْخَمْطُ الْأَرَاكُ، وَكَذَا قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْخَمْطُ كُلُّ شَجَرَةٍ مُرَّةٍ ذَاتِ شَوْكٍ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: كُلُّ نَبْتٍ فِيهِ مَرَارَةٌ لَا يُمْكِنُ أَكْلُهُ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: كُلُّ شَيْءٍ تَغَيَّرَ إِلَى مَا لَا يُشْتَهَى، يُقَالُ لَهُ: خَمْطٌ، وَمِنْهُ: اللَّبَنُ إِذَا تَغَيَّرَ، وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ أَوْلَى مِنْ قِرَاءَةِ أبي عمرو. والخمط: نعت لأكل أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ، لِأَنَّ الْأُكُلَ هُوَ الْخَمْطُ بِعَيْنِهِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ:

الْإِضَافَةُ أَحْسَنُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: مِثْلُ ثَوْبُ خَزٍّ وَدَارُ آجُرٍّ، وَالْأَوْلَى تَفْسِيرُ الْخَمْطِ بِمَا ذَكَرَهُ الْخَلِيلُ وَمَنْ مَعَهُ.

قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْخَمْطُ ضَرْبٌ مِنَ الْأَرَاكِ لَهُ حَمْلٌ يُؤْكَلُ، وَتَسْمِيَةُ الْبَدَلِ جَنَّتَيْنِ لِلْمُشَاكَلَةِ أَوِ التَّهَكُّمِ بِهِمْ، وَالْأَثْلُ هُوَ الشَّجَرُ الْمَعْرُوفُ الشَّبِيهُ بِالطَّرْفَاءِ كَذَا قَالَ الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ قَالَ: إِلَّا أَنَّهُ أَعْظَمُ مِنَ الطَّرْفَاءِ طُولًا، الْوَاحِدَةُ أَثَلَةٌ، والجمع أثلاث. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْأَثْلُ: الْخَشَبُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ شَجَرُ النُّطَارِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَلَا ثَمَرَ لِلْأَثْلِ. وَالسِّدْرُ: شَجَرٌ مَعْرُوفٌ. قَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ السَّمُرُ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: السِّدْرُ مِنَ الشَّجَرِ سِدْرَانِ:

بَرِّيٌّ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ وَلَا يَصْلُحُ لِلْغَسُولِ، وَلَهُ ثَمَرٌ عَفِصٌ لَا يُؤْكَلُ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى الضَّالَ. وَالثَّانِي سِدْرٌ يَنْبُتُ عَلَى الْمَاءِ وَثَمَرُهُ النَّبْقُ، وَوَرَقُهُ غَسُولٌ يُشْبِهُ شَجَرَ الْعُنَّابِ. قِيلَ وَوَصَفَ السِّدْرَ بِالْقِلَّةِ لِأَنَّ مِنْهُ نَوْعًا يطيب أكله، وهو النوع الثاني ذَكَرَهُ الْأَزْهَرِيُّ. قَالَ قَتَادَةُ: بَيْنَمَا شَجَرُهُمْ مِنْ خَيْرِ شَجَرٍ إِذْ صَيَّرَهُ اللَّهُ مِنْ شَرِّ الشَّجَرِ بِأَعْمَالِهِمْ، فَأَهْلَكَ أَشْجَارَهُمُ الْمُثْمِرَةَ وَأَنْبَتَ بَدَلَهَا الْأَرَاكَ وَالطَّرْفَاءَ وَالسِّدْرَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَرْجِعَ قَوْلُهُ: قَلِيلٍ إِلَى جَمِيعِ مَا ذَكَرَ مِنَ الْخَمْطِ وَالْأَثْلِ وَالسِّدْرِ. وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ التَّبْدِيلِ، أَوْ إِلَى مَصْدَرِ جَزَيْناهُمْ وَالْبَاءُ فِي بِما كَفَرُوا لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ: ذَلِكَ التَّبْدِيلُ، أَوْ ذَلِكَ الْجَزَاءُ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ لِلنِّعْمَةِ بِإِعْرَاضِهِمْ عَنْ شُكْرِهَا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ أَيْ: وَهَلْ نُجَازِي هَذَا الْجَزَاءَ بِسَلْبِ النِّعْمَةِ وَنُزُولِ النِّقْمَةِ إِلَّا الشَّدِيدَ الْكُفْرِ الْمُتَبَالِغَ فِيهِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «يُجَازَى» بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ وَفَتْحِ الزَّايِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ.

وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ وَحَفْصٌ بِالنُّونِ وَكَسْرِ الزَّايِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَالْكَفُورُ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى مَرْفُوعٌ، وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ مَنْصُوبٌ، وَاخْتَارَ الْقِرَاءَةَ الثَّانِيَةَ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ قَالَا: لِأَنَّ قَبْلَهُ جَزَيْناهُمْ وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهُ لَا يُجَازِي إِلَّا الْكُفُورَ مَعَ كَوْنِ أَهْلِ الْمَعَاصِي يُجَازَوْنَ، وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: إِنَّ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ لَا يُجَازِي هَذَا الْجَزَاءَ، وَهُوَ الِاصْطِلَامُ «1» وَالْإِهْلَاكُ إلا من كفر. وقال مجاهد: إن المؤمن يكفر عنه

(1) . قال في القاموس: اصطلمه: استأصله.

ص: 368

سَيِّئَاتِهِ، وَالْكَافِرَ يُجَازَى بِكُلِّ عَمَلٍ عَمِلَهُ وَقَالَ طَاوُسٌ: هُوَ الْمُنَاقَشَةُ فِي الْحِسَابِ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَلَا يُنَاقَشُ.

وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ الْمَعْنَى إِنَّهُ يُجَازِي الْكَافِرَ مِثْلًا بِمِثْلٍ وَرَجَّحَ هَذَا الْجَوَابَ النَّحَّاسُ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها هَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ أَيْ: وَكَانَ مِنْ قِصَّتِهِمْ: أَنَّا جَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا بِالْمَاءِ وَالشَّجَرِ، وَهِيَ قُرَى الشَّامِ قُرىً ظاهِرَةً أَيْ: مُتَوَاصِلَةً، وَكَانَ مَتْجَرُهُمْ مِنْ أَرْضِهِمُ الَّتِي هِيَ مَأْرِبٌ إِلَى الشَّامِ، وَكَانُوا يَبِيتُونَ بِقَرْيَةٍ، وَيَقِيلُونَ بِأُخْرَى حَتَّى يَرْجِعُوا، وَكَانُوا لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى زَادٍ يَحْمِلُونَهُ مِنْ أَرْضِهِمْ إِلَى الشَّامِ، فَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْحِكَايَةِ لِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ. قَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ هَذِهِ الْقُرَى هِيَ بَيْنَ الْيَمَنِ وَالشَّامِ، قِيلَ إِنَّهَا كَانَتْ أَرْبَعَةَ آلَافٍ وَسَبْعَمِائَةِ قَرْيَةٍ، وَقِيلَ هِيَ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: الْقُرَى الظَّاهِرَةُ هِيَ الْمَعْرُوفَةُ، وَإِنَّمَا قِيلَ لَهَا ظَاهِرَةٌ لِظُهُورِهَا، إِذَا خَرَجْتَ مِنْ هَذِهِ ظَهَرَتْ لَكَ الْأُخْرَى فَكَانَتْ قُرًى ظَاهِرَةً: أَيْ مَعْرُوفَةً، يُقَالُ هَذَا أَمْرٌ ظَاهِرٌ: أَيْ مَعْرُوفٌ وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ أَيْ: جَعَلْنَا السَّيْرَ مِنَ الْقَرْيَةِ إِلَى الْقَرْيَةِ مِقْدَارًا مُعَيَّنًا وَاحِدًا، وَذَلِكَ نِصْفُ يَوْمٍ كَمَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ جَعَلْنَا بَيْنَ كُلِّ قَرْيَتَيْنِ نصف يوم حتى يكون فِي قَرْيَةٍ، وَالْمَبِيتُ فِي أُخْرَى إِلَى أَنْ يَصِلَ إِلَى الشَّامِ، وَإِنَّمَا يُبَالِغُ الْإِنْسَانُ فِي السير لعدم الزاد والماء والخوف في الطَّرِيقِ، فَإِذَا وُجِدَ الزَّادُ وَالْأَمْنُ لَمْ يُحَمِّلْ نَفْسَهُ الْمَشَقَّةَ، بَلْ يَنْزِلُ أَيْنَمَا أَرَادَ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ عَدَّدَ عَلَيْهِمُ النِّعَمَ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا نَزَلَ بِهِمْ مِنَ النِّقَمِ، ثُمَّ عَادَ لِتَعْدِيدِ بَقِيَّةِ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِمَّا هُوَ خَارِجٌ عَنْ بَلَدِهِمْ مِنِ اتِّصَالِ الْقُرَى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يُرِيدُونَ السَّفَرَ إِلَيْهِ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ تَبْدِيلَهُ بِالْمَفَاوِزِ وَالْبَرَارِي كَمَا سَيَأْتِي وَقَوْلُهُ: سِيرُوا فِيها هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ الْقَوْلِ: أَيْ وَقُلْنَا لَهُمْ سِيرُوا فِي تِلْكَ الْقُرَى الْمُتَّصِلَةِ، فَهُوَ أَمْرُ تَمْكِينٍ، أَيْ: ومكناهم من السير فيها متى شاؤوا لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ مِمَّا يَخَافُونَهُ، وَانْتِصَابُ لَيَالِيَ وأياما عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وَانْتِصَابُ آمِنِينَ عَلَى الْحَالِ. قَالَ قَتَادَةُ: كَانُوا يَسِيرُونَ غَيْرَ خَائِفِينَ وَلَا جِيَاعٍ ولا ظمأى، كَانُوا يَسِيرُونَ مَسِيرَةَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فِي أَمَانٍ لَا يُحَرِّكُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَلَوْ لَقِيَ الرَّجُلُ قَاتِلَ أَبِيهِ لَمْ يُحَرِّكْهُ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ لَمْ يَشْكُرُوا النِّعْمَةَ، بَلْ طَلَبُوا التَّعَبَ وَالْكَدَّ فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُمْ بَطَرًا وَطُغْيَانًا لَمَّا سَئِمُوا النِّعْمَةَ وَلَمْ يَصْبِرُوا عَلَى الْعَافِيَةِ، فَتَمَنَّوْا طُولَ الْأَسْفَارِ وَالتَّبَاعُدَ بَيْنَ الدِّيَارِ، وَسَأَلُوا اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الشَّامِ مَكَانَ تِلْكَ الْقُرَى الْمُتَوَاصِلَةِ الْكَثِيرَةِ الْمَاءِ وَالشَّجَرِ وَالْأَمْنِ، الْمَفَاوِزَ وَالْقِفَارَ وَالْبَرَارِي الْمُتَبَاعِدَةَ الْأَقْطَارِ، فَأَجَابَهُمُ اللَّهُ إِلَى ذَلِكَ وَخَرَّبَ تِلْكَ الْقُرَى الْمُتَوَاصِلَةَ، وَذَهَبَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْخَيْرِ وَالْمَاءِ وَالشَّجَرِ، فَكَانَتْ دَعْوَتُهُمْ هَذِهِ كَدَعْوَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَيْثُ قَالُوا فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها «1» الْآيَةَ مَكَانَ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى، وَكَقَوْلِ النَّضِرِ بْنِ الْحَارِثِ اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ «2» الْآيَةَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ رَبَّنا بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مُنَادَى مُضَافٌ، وَقَرَءُوا أَيْضًا باعِدْ وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَهِشَامٌ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ (بَعِّدْ) بِتَشْدِيدِ الْعَيْنِ، وَقَرَأَ ابْنُ السميقع: بِضَمِّ الْعَيْنِ فِعْلًا مَاضِيًا، فَيَكُونُ مَعْنَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ الشَّكْوَى مِنْ بُعْدِ الْأَسْفَارِ، وَقَرَأَ أَبُو صالح ومحمّد بن الْحَنَفِيَّةِ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ وَيَعْقُوبُ «رَبُّنَا» بِالرَّفْعِ «بَاعَدَ» بِفَتْحِ الْعَيْنِ عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ. وَالْمَعْنَى: لَقَدْ بَاعَدَ رَبُّنَا بَيْنَ أَسْفَارِنَا، وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عن

(1) . البقرة: 61.

(2)

. الأنفال: 32.

ص: 369

ابن عباس، واختار أَبُو حَاتِمٍ، قَالَ لِأَنَّهُمْ مَا طَلَبُوا التَّبْعِيدَ إِنَّمَا طَلَبُوا أَقْرَبَ مِنْ ذَلِكَ الْقُرْبِ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الشَّامِ بِالْقُرَى الْمُتَوَاصِلَةِ، بَطَرًا وَأَشَرًا وَكُفْرًا لِلنِّعْمَةِ. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ «رَبُّنَا» بِالرَّفْعِ «بَعَّدَ» بِفَتْحِ الْعَيْنِ مُشَدَّدَةً، فَيَكُونُ مَعْنَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ الشَّكْوَى بِأَنَّ رَبَّهُمْ بَعَّدَ بَيْنِ أَسْفَارِهِمْ، مَعَ كَوْنِهَا قَرِيبَةً مُتَّصِلَةً بِالْقُرَى وَالشَّجَرِ وَالْمَاءِ، فَيَكُونُ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ بَطَرِهِمْ، وَقَرَأَ أَخُو الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ كقراءة ابن السميقع السَّابِقَةِ مَعَ رَفْعِ (بَيْنَ) عَلَى أَنَّهُ الْفَاعِلُ، كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَرَوَى الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ قِرَاءَةً مِثْلَ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ لَكِنْ مَعَ نَصْبِ بَيْنَ عَلَى أَنَّهُ ظَرْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: بَعُدَ سَيْرُنَا بَيْنَ أَسْفَارِنَا. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذِهِ الْقِرَاءَاتُ إِذَا اخْتَلَفَتْ مَعَانِيهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ إِحْدَاهَا أَجْوَدُ مِنَ الْأُخْرَى، كَمَا لَا يُقَالُ ذَلِكَ فِي أَخْبَارِ الْآحَادِ إِذَا اخْتَلَفَتْ مَعَانِيهَا، وَلَكِنْ أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ دَعَوْا رَبَّهُمْ أَنْ يُبَعِّدَ بَيْنَ أَسْفَارِهِمْ، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ شَكَوْا وَتَضَرَّرُوا، وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ: وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ حَيْثُ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبَطَرُوا نِعْمَتَهُ وَتَعَرَّضُوا لِنِقْمَتِهِ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ بِأَخْبَارِهِمْ. وَالْمَعْنَى: جَعَلْنَاهُمْ ذَوِي أَحَادِيثَ يَتَحَدَّثُ بِهَا مَنْ بعدهم تعجبا من فعلهم واعتبارا لحالهم وَعَاقِبَتِهِمْ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ أَيْ: فَرَّقْنَاهُمْ فِي كُلِّ وَجْهٍ مِنَ الْبِلَادِ كُلَّ التَّفْرِيقِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُبَيِّنَةٌ لِجَعْلِهِمْ أَحَادِيثَ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَغْرَقَ مَكَانَهُمْ وَأَذْهَبَ جَنَّتَهُمْ، تَفَرَّقُوا فِي الْبِلَادِ فَصَارَتِ الْعَرَبُ تَضْرِبُ بِهِمُ الْأَمْثَالَ، فَتَقُولُ: تَفَرَّقُوا أَيْدِي سَبَا. قَالَ الشَّعْبِيُّ:

فَلَحِقَتِ الْأَنْصَارُ بِيَثْرِبَ، وَغَسَّانُ بِالشَّامِ، وَالْأَزْدُ بِعُمَانَ، وَخُزَاعَةُ بِتِهَامَةَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَيْ:

فِيمَا ذُكِرَ مِنْ قِصَّتِهِمْ وَمَا فَعَلَ اللَّهُ بِهِمْ لَآيَاتٍ بَيِّنَاتٍ، وَدَلَالَاتٍ وَاضِحَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ أَيْ: لِكُلِّ مَنْ هُوَ كَثِيرُ الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ، وَخَصَّ الصَّبَّارَ الشَّكُورَ لِأَنَّهُمَا الْمُنْتَفِعَانِ بِالْمَوَاعِظِ وَالْآيَاتِ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ قَرَأَ الْجُمْهُورُ صَدَقَ بِالتَّخْفِيفِ وَرَفْعِ إِبْلِيسُ وَنَصْبِ ظَنَّهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَهُوَ عَلَى الْمَصْدَرِ:

أَيْ صَدَقَ عَلَيْهِمْ ظَنًّا ظَنَّهُ، أَوْ صَدَقَ فِي ظَنِّهِ، أَوْ عَلَى الظَّرْفِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ ظَنَّ بِهِمْ أَنَّهُ إِذَا أَغْوَاهُمُ اتَّبَعُوهُ فَوَجَدَهُمْ كَذَلِكَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُنْتَصِبًا عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، أَوْ بِإِسْقَاطِ الْخَافِضِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ وعاصم صَدَّقَ بالتشديد، وظنه بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: أَيْ صَدَّقَ الظَّنَّ الَّذِي ظَنَّهُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: ظَنَّ ظَنًّا فَصَدَّقَ ظَنَّهُ، فَكَانَ كما ظنّ، وقرأ أبو جعفر وأبو الجهجاه وَالزُّهْرِيُّ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ «صَدَقَ» بِالتَّخْفِيفِ وَ «إِبْلِيسَ» بِالنَّصْبِ وَ «ظَنُّهُ» بِالرَّفْعِ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَا وَجْهَ لِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ عِنْدِي، وَقَدْ أَجَازَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ الْفَرَّاءُ وَذَكَرَهَا الزَّجَّاجُ، وَجَعَلَ الظَّنَّ: فَاعِلَ صَدَقَ، وَإِبْلِيسَ:

مَفْعُولَهُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ إِبْلِيسَ سَوَّلَ لَهُ ظَنُّهُ شَيْئًا فِيهِمْ فَصَدَقَ ظَنُّهُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَلَقَدْ صَدَقَ عَلَيْهِمْ ظَنُّ إِبْلِيسَ.

وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو أَنَّهُ قَرَأَ بِرَفْعِهِمَا مَعَ تَخْفِيفِ صَدَقَ عَلَى أَنْ يَكُونَ ظَنُّهُ بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنْ إِبْلِيسَ، قِيلَ: وَهَذِهِ الْآيَةُ خَاصَّةٌ بِأَهْلِ سَبَأٍ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ غَيَّرُوا وَبَدَّلُوا بَعْدَ أَنْ كَانُوا قَدْ آمَنُوا بِمَا جَاءَتْ بِهِ رُسُلُهُمْ، وَقِيلَ هِيَ عَامَّةٌ، أَيْ: صَدَّقَ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ إِلَّا من أطاع الله. قال مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: إِنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ إِنْ أَغْوَاهُمْ أَجَابُوهُ، وَإِنْ أَضَلَّهُمْ أَطَاعُوهُ فَصَدَّقَ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ قَالَ الْحَسَنُ: مَا ضَرَبَهُمْ بِسَوْطٍ ولا بعصا، وإنما ظنّ فكان كما ظنّ بِوَسْوَسَتِهِ، وَانْتِصَابُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الاستثناء، وفيه

ص: 370

وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يُرَادَ بِهِ بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يُذْنِبُ وَيَنْقَادُ لِإِبْلِيسَ فِي بَعْضِ الْمَعَاصِي، وَلَمْ يَسْلَمْ مِنْهُ إِلَّا فَرِيقٌ، وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وقيل المراد بفريقا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ: الْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ عَلَى أَنْ تَكُونَ مِنْ بَيَانِيَّةً وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ أَيْ: مَا كَانَ لَهُ تُسَلُّطٌ عَلَيْهِمْ: أَيْ لَمْ يَقْهَرْهُمْ عَلَى الْكُفْرِ، وَإِنَّمَا كَانَ منه الدعاء والوسوسة والتزيين، وقيل السلطان: القوّة، وَقِيلَ:

الْحُجَّةُ، وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ مُنْقَطِعٌ، وَالْمَعْنَى: لَا سُلْطَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنِ ابْتَلَيْنَاهُمْ بِوَسْوَسَتِهِ لِنَعْلَمَ. وَقِيلَ: هُوَ مُتَّصِلٌ مُفَرَّغٌ مِنْ أَعَمِّ الْعَامِّ، أَيْ: مَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ تَسَلُّطٌ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ وَلَا لِعِلَّةٍ مِنَ الْعِلَلِ إِلَّا لِيَتَمَيَّزَ مَنْ يُؤْمِنُ، وَمَنْ لَا يُؤْمِنُ، لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ عَلِمَ ذَلِكَ عِلْمًا أَزَلِيًّا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى إِلَّا لِنَعْلَمَ ذَلِكَ عِنْدَكُمْ، وَقِيلَ إِلَّا لِتَعْلَمُوا أَنْتُمْ، وَقِيلَ: لِيَعْلَمَ أَوْلِيَاؤُنَا وَالْمَلَائِكَةُ.

وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ «إِلَّا لِيُعْلَمَ» عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَالْأَوْلَى حَمْلُ الْعِلْمِ هُنَا عَلَى التَّمْيِيزِ وَالْإِظْهَارِ كَمَا ذَكَرْنَا وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ أَيْ: مُحَافِظٌ عَلَيْهِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: عَلِمَ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الْإِيمَانِ وَالشَّكِّ.

وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَغَيْرُهُمْ عَنْ فَرْوَةَ بْنِ مُسَيْكٍ الْمُرَادِيِّ قَالَ:«أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا أُقَاتِلُ مَنْ أَدْبَرَ مِنْ قَوْمِي بِمَنْ أَقْبَلَ مِنْهُمْ؟ فَأَذِنَ لِي فِي قِتَالِهِمْ وَأَمَرَنِي، فَلَمَّا خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِهِ أَرْسَلَ فِي أَثَرِي فَرَدَّنِي فَقَالَ: ادْعُ الْقَوْمَ، فَمَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ فَاقْبَلْ مِنْهُ، وَمَنْ لَمْ يُسْلِمْ فَلَا تَعْجَلْ حَتَّى أُحْدِثَ إِلَيْكَ، وَأُنْزِلَ فِي سَبَأٍ مَا أُنْزِلَ، فَقَالَ رَجُلٌ، يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا سَبَأٌ: أَرْضٌ أَمِ امْرَأَةٌ؟ قَالَ: لَيْسَ بِأَرْضٍ وَلَا امْرَأَةٍ، وَلَكِنَّهُ رِجُلٌ وَلَدَ عَشَرَةً مِنَ الْعَرَبِ، فَتَيَامَنَ مِنْهُمْ سِتَّةٌ، وَتَشَاءَمَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ، فَأَمَّا الَّذِينَ تَشَاءَمُوا: فَلَخْمٌ وَجُذَامُ وَغَسَّانُ وَعَامِلَةُ، وَأَمَّا الَّذِينَ تَيَامَنُوا، فَالْأَزْدُ وَالْأَشْعَرِيُّونَ وَحِمْيَرُ وَكِنْدَةُ وَمُذْحِجٌ وَأَنْمَارٌ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا أَنْمَارٌ فأزد قَالَ: الَّذِي مِنْهُمْ خَثْعَمُ وَبَجِيلَةُ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ عَدِيٍّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ بِأَخْصَرَ مِنْهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: سَيْلَ الْعَرِمِ قَالَ: الشَّدِيدُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قَالَ: سَيْلَ الْعَرِمِ وَادٍ كَانَ بِالْيَمَنِ كَانَ يَسِيلُ إِلَى مَكَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: أُكُلٍ خَمْطٍ قَالَ:

الْأَرَاكُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ قَالَ: تِلْكَ الْمُنَاقَشَةُ. وَأَخْرَجَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ يَعْنِي: بَيْنَ مَسَاكِنِهِمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها يَعْنِي الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ قُرىً ظاهِرَةً يَعْنِي عَامِرَةً مُخْصِبَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ يَعْنِي فِيمَا بَيْنَ مَسَاكِنِهِمْ وَبَيْنَ أَرْضِ الشَّامِ سِيرُوا فِيهَا إِذَا ظَعَنُوا من منازلهم إلى أرض الشام من الأرض الْمُقَدَّسَةِ.

وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ قَالَ إِبْلِيسُ:

إِنَّ آدَمَ خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ وَمِنْ طِينٍ وَمِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ خَلْقًا ضَعِيفًا، وَإِنِّي خُلِقْتُ مِنْ نَارٍ، وَالنَّارُ تُحْرِقُ كُلَّ شَيْءٍ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا. قَالَ فَصَدَّقَ ظَنَّهُ عَلَيْهِمْ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ.

ص: 371