الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مُقْتَدًى بِهِ مُوَضِّحٍ لِكُلِّ شَيْءٍ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ: أَرَادَ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: أَرَادَ صَحَائِفَ الْأَعْمَالِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «وَنَكْتُبُ» عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَ زِرٌّ وَمَسْرُوقٌ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ كُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ بِنَصْبِ كُلَّ عَلَى الِاشْتِغَالِ. وَقَرَأَ أَبُو السَّمْأَلِ بِالرَّفْعِ. عَلَى الِابْتِدَاءِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: يس قَالَا: يَا مُحَمَّدُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:
يس قَالَ: يَا إِنْسَانُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ وَالضَّحَّاكِ وَعِكْرِمَةَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:«كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الْمَسْجِدِ فَيَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ، حَتَّى تَأَذَّى بِهِ نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ، حَتَّى قَامُوا لِيَأْخُذُوهُ، وَإِذَا أَيْدِيهِمْ مَجْمُوعَةٌ إِلَى أَعْنَاقِهِمْ، وَإِذَا هم عمي لا يبصرون، فجاؤوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: نَنْشُدُكَ اللَّهَ وَالرَّحِمَ يَا مُحَمَّدُ، قَالَ: وَلَمْ يَكُنْ بَطْنٌ مِنْ بُطُونِ قُرَيْشٍ إلا وللنبيّ صلى الله عليه وسلم فِيهِمْ قَرَابَةٌ، فَدَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى ذَهَبَ ذَلِكَ عَنْهُمْ، فَنَزَلَتْ يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِلَى قَوْلِهِ: أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ قَالَ: فَلَمْ يُؤْمِنْ مِنْ ذَلِكَ النَّفَرِ أَحَدٌ» . وَفِي الْبَابِ رِوَايَاتٌ فِي سَبَبِ نُزُولِ ذَلِكَ، هَذِهِ الرِّوَايَةُ أَحْسَنُهَا وَأَقْرَبُهَا إِلَى الصِّحَّةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: الْأَغْلَالُ مَا بَيْنَ الصَّدْرِ إِلَى الذَّقَنِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ كَمَا تُقْمَحُ الدَّابَّةُ بِاللِّجَامِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ:
وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا الْآيَةَ قَالَ: كَانُوا يَمُرُّونَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَا يَرَوْنَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: اجْتَمَعَتْ قُرَيْشٌ بِبَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَنْتَظِرُونَ خُرُوجَهُ لِيُؤْذُوهُ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ بِسُورَةِ يس، وَأَمَرَهُ بِالْخُرُوجِ عَلَيْهِمْ، فَأَخَذَ كَفًّا مِنْ تُرَابٍ وَخَرَجَ وَهُوَ يَقْرَؤُهَا ويذرّ التراب على رؤوسهم، فَمَا رَأَوْهُ حَتَّى جَازَ، فَجَعَلَ أَحَدُهُمْ يَلْمِسُ رَأْسَهُ فَيَجِدُ التُّرَابَ، وَجَاءَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: مَا يُجْلِسُكُمْ؟ قَالُوا نَنْتَظِرُ مُحَمَّدًا، فَقَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُهُ دَاخِلًا الْمَسْجِدَ، قَالَ: قُومُوا فَقَدْ سَحَرَكُمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَالْبَزَّارُ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: كَانَ بَنُو سَلَمَةَ فِي نَاحِيَةٍ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَأَرَادُوا أَنْ يَنْتَقِلُوا إِلَى قرب المسجد، فأنزل الله إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ فَدَعَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنَّهُ يَكْتُبُ آثَارَكُمْ، ثُمَّ قَرَأَ عَلَيْهِمُ الْآيَةَ فَتَرَكُوا. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ، وَأَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ: «إِنَّ بَنِي سَلَمَةَ أَرَادُوا أَنْ يَبِيعُوا دِيَارَهُمْ وَيَتَحَوَّلُوا قَرِيبًا مِنَ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
يَا بَنِي سَلَمَةَ، دِيَارُكُمْ تَكْتُبُ آثَارَكُمْ» .
[سورة يس (36) : الآيات 13 الى 27]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَاّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَاّ تَكْذِبُونَ (15) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَما عَلَيْنا إِلَاّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (17)
قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (18) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَما لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22)
أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)
قَوْلُهُ: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ هَذَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَسُورَةِ النَّمْلِ، وَالْمَعْنَى: اضْرِبْ لِأَجْلِهِمْ مَثَلًا، أَوِ اضْرِبْ لِأَجْلِ نَفْسِكَ أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ مَثَلًا: أَيْ مَثِّلْهُمْ عِنْدَ نَفْسِكَ بِأَصْحَابِ الْقَرْيَةِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ لَمَّا قَالَ تَعَالَى: إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ وقال: لِتُنْذِرَ قَوْماً قَالَ قُلْ لَهُمْ: مَا أَنَا بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ، فَإِنَّ قَبْلِي بِقَلِيلٍ جَاءَ أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ مُرْسَلُونَ، وَأَنْذَرُوهُمْ بِمَا أَنْذَرْتُكُمْ، وَذَكَرُوا التَّوْحِيدَ، وَخَوَّفُوا بِالْقِيَامَةِ، وَبَشَّرُوا بِنَعِيمِ دَارِ الْإِقَامَةِ. وَعَلَى الثَّانِي لَمَّا قَالَ: إِنَّ الْإِنْذَارَ لَا يَنْفَعُ مَنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ، وَكَتَبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: اضْرِبْ لِنَفْسِكَ وَلِقَوْمِكَ مَثَلًا: أَيْ مَثِّلْ لَهُمْ عِنْدَ نَفْسِكَ مَثَلًا بِأَصْحَابِ الْقَرْيَةِ حَيْثُ جَاءَهُمْ ثَلَاثَةُ رُسُلٍ وَلَمْ يُؤْمِنُوا، وَصَبَرَ الرُّسُلُ عَلَى الْإِيذَاءِ وَأَنْتَ جِئْتَ إِلَيْهِمْ وَاحِدًا، وَقَوْمُكَ أَكْثَرُ مِنْ قَوْمِ الثَّلَاثَةِ، فَإِنَّهُمْ جَاءُوا إِلَى أَهْلِ الْقَرْيَةِ، وَأَنْتَ بَعَثْتُكَ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً. وَالْمَعْنَى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا مَثَلَ أَصْحَابِ الْقَرْيَةِ، أَيِ: اذْكُرْ لَهُمْ قِصَّةً عَجِيبَةً قِصَّةَ أَصْحَابِ الْقَرْيَةِ، فَتُرِكَ الْمَثَلُ، وَأُقِيمَ أَصْحَابُ الْقَرْيَةِ مَقَامَهُ فِي الْإِعْرَابِ. وَقِيلَ: لَا حَاجَةَ إِلَى الْإِضْمَارِ، بَلِ الْمَعْنَى: اجْعَلْ أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ لَهُمْ مَثَلًا على أن يكون مثلا وأصحاب القرية مفعولين لا ضرب، أَوْ يَكُونَ أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ بَدَلًا مِنْ مَثَلًا، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ مِنْ هَذَيْنِ الْمَفْعُولَيْنِ هَلْ هُوَ مَثَلًا أَوْ أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ ضَرْبَ الْمَثَلِ يُسْتَعْمَلُ تَارَةً فِي تَطْبِيقِ حَالَةٍ غَرِيبَةٍ بِحَالَةٍ أُخْرَى مِثْلِهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ «1» وَيُسْتَعْمَلُ أُخْرَى فِي ذِكْرِ حَالَةٍ غَرِيبَةٍ، وَبَيَانِهَا لِلنَّاسِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إِلَى تَطْبِيقِهَا بِنَظِيرِهِ لَهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ:
وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ «2» أَيْ: بَيَّنَّا لَكُمْ أَحْوَالًا بَدِيعَةً غَرِيبَةً. هِيَ فِي الْغَرَابَةِ كَالْأَمْثَالِ فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ هُنَا وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا يَصِحُّ اعْتِبَارُ الْأَمْرَيْنِ فِيهِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَذِهِ الْقَرْيَةُ هِيَ أَنْطَاكِيَةُ فِي قَوْلِ جَمِيعِ الْمُفَسِّرِينَ، وَقَوْلُهُ: إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ أَصْحَابِ الْقَرْيَةِ، وَالْمُرْسَلُونَ: هُمْ أَصْحَابُ عِيسَى بَعَثَهُمْ إِلَى أَهْلِ أَنْطَاكِيَةَ لِلدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ، فَأَضَافَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْإِرْسَالَ إِلَى نَفْسِهِ فِي قَوْلِهِ: إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ لِأَنَّ عِيسَى أَرْسَلَهُمْ بِأَمْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَرْسَلَهُمْ بَعْدَ رَفْعِ عِيسَى إِلَى السَّمَاءِ، فَكَذَّبُوهُمَا فِي الرِّسَالَةِ، وَقِيلَ ضَرَبُوهُمَا وَسَجَنُوهُمَا. قِيلَ: وَاسْمُ الِاثْنَيْنِ يُوحَنَّا وَشَمْعُونُ. وَقِيلَ: أَسْمَاءُ الثَّلَاثَةِ صَادِقٌ وَمَصْدُوقٌ وَشَلُومُ قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ. وَقِيلَ: سَمْعَانُ وَيَحْيَى وَبُولُسُ فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ قرأ الجمهور
(1) . التحريم: 10.
(2)
. إبراهيم: 45.
بِالتَّشْدِيدِ، وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِتَخْفِيفِ الزَّايِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ «فَعَزَّزْنَا» يُخَفَّفُ وَيُشَدَّدُ، أَيْ: قَوَّيْنَا وَشَدَّدْنَا فَالْقِرَاءَتَانِ عَلَى هَذَا بِمَعْنًى. وَقِيلَ: التَّخْفِيفُ بِمَعْنَى غَلَبْنَا وَقَهَرْنَا، وَمِنْهُ وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ «1» وَالتَّشْدِيدُ بِمَعْنَى: قَوَّيْنَا وَكَثَّرْنَا. قِيلَ: وَهَذَا الثَّالِثُ هُوَ شَمْعُونُ، وَقِيلَ غَيْرُهُ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ أَيْ: قَالَ الثَّلَاثَةُ جَمِيعًا، وَجَاءُوا بِكَلَامِهِمْ هَذَا مُؤَكَّدًا لَسَبْقِ التَّكْذِيبِ لِلِاثْنَيْنِ، وَالتَّكْذِيبُ لَهُمَا تَكْذِيبٌ لِلثَّالِثِ، لِأَنَّهُمْ أُرْسِلُوا جَمِيعًا بِشَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ الدُّعَاءُ إِلَى اللَّهِ عز وجل، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا قَالَ هَؤُلَاءِ الرُّسُلُ بَعْدَ التَّعْزِيزِ لَهُمْ بِثَالِثٍ؟ وَكَذَلِكَ جُمْلَةُ: قالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فإنها مستأنفة جواب سؤال قدّر: كَأَنَّهُ قِيلَ فَمَا قَالَ لَهُمْ أَهْلُ أَنْطَاكِيَةَ، فَقِيلَ: قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا، أَيْ: مُشَارِكُونَ لَنَا فِي الْبَشَرِيَّةِ، فَلَيْسَ لَكُمْ مَزِيَّةٌ عَلَيْنَا تَخْتَصُّونَ بِهَا. ثُمَّ صَرَّحُوا بِجُحُودِ إِنْزَالِ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ فَقَالُوا: وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ مِمَّا تَدَّعُونَهُ أَنْتُمْ وَيَدَّعِيهِ غَيْرُكُمْ مِمَّنْ قَبْلَكُمْ مِنَ الرُّسُلِ وَأَتْبَاعِهِمْ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ أَيْ: مَا أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ فِي دَعْوَى مَا تَدَّعُونَ مِنْ ذَلِكَ، فَأَجَابُوهُمْ بِإِثْبَاتِ رِسَالَتِهِمْ بِكَلَامٍ مُؤَكَّدٍ تَأْكِيدًا بَلِيغًا لِتَكَرُّرِ الإنكار من أهل أنطاكية، وهو قوله: رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ فَأَكَّدُوا الْجَوَابَ بِالْقَسَمِ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِمْ: رَبُّنَا يَعْلَمُ، وَبِإِنَّ، وَبِاللَّامِ وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أَيْ: مَا يَجِبُ عَلَيْنَا مِنْ جِهَةِ رَبِّنَا إِلَّا تَبْلِيغُ رِسَالَتِهِ عَلَى وَجْهِ الظُّهُورِ وَالْوُضُوحِ، وَلَيْسَ عَلَيْنَا غَيْرُ ذَلِكَ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ كَالَّتِي قَبْلَهَا، وَكَذَلِكَ جُمْلَةُ: قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ فَإِنَّهَا مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابًا عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: إِنَّا تَشَاءَمْنَا بِكُمْ، لَمْ تَجِدُوا جَوَابًا تُجِيبُونَ بِهِ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا هَذَا الْجَوَابَ الْمَبْنِيَّ عَلَى الْجَهْلِ الْمُنْبِئِ عَنِ الْغَبَاوَةِ الْعَظِيمَةِ، وَعَدَمِ وُجُودِ حُجَّةٍ تَدْفَعُونَ الرُّسُلَ بِهَا. قَالَ مُقَاتِلٌ: حُبِسَ عَنْهُمُ الْمَطَرُ ثَلَاثَ سِنِينَ. قِيلَ: إِنَّهُمْ أَقَامُوا يُنْذِرُونَهُمْ عَشْرَ سِنِينَ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى التَّجَبُّرِ وَالتَّكَبُّرِ لَمَّا ضَاقَتْ صُدُورُهُمْ وَأَعْيَتْهُمُ الْعِلَلُ فَقَالُوا: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ أَيْ: لَئِنْ لَمْ تَتْرُكُوا هَذِهِ الدَّعْوَى وَتُعْرِضُوا عَنْ هَذِهِ الْمَقَالَةِ لَنَرْجُمَنَّكُمْ بِالْحِجَارَةِ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ أَيْ: شَدِيدٌ فَظِيعٌ. قَالَ الْفَرَّاءُ: عَامَّةُ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الرَّجْمِ الْمُرَادُ بِهِ الْقَتْلُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ عَلَى بَابِهِ مِنَ الرَّجْمِ بِالْحِجَارَةِ. قِيلَ: وَمَعْنَى الْعَذَابِ الْأَلِيمِ: الْقَتْلُ، وَقِيلَ: الشَّتْمُ، وَقِيلَ:
هُوَ التَّعْذِيبُ الْمُؤْلِمُ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِنَوْعٍ خَاصٍّ وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ. ثُمَّ أَجَابَ عَلَيْهِمُ الرُّسُلُ دَفْعًا لِمَا زَعَمُوهُ من التطير بهم قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أي: شأمكم مَعَكُمْ مِنْ جِهَةِ أَنْفُسِكُمْ، لَازِمٌ فِي أَعْنَاقِكُمْ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ شُؤْمِنَا. قَالَ الْفَرَّاءُ: طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ: أَيْ رِزْقُكُمْ وَعَمَلُكُمْ وَبِهِ قَالَ قَتَادَةُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «طَائِرُكُمْ» اسْمُ فَاعِلٍ: أَيْ مَا طَارَ لَكُمْ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ «طيركم» أي: تطيركم أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ مِنَ السَّبْعَةِ وَغَيْرِهِمْ بِهَمْزَةِ اسْتِفْهَامٍ بَعْدَهَا إِنِ الشَّرْطِيَّةُ عَلَى الْخِلَافِ بَيْنَهُمْ فِي التَّسْهِيلِ وَالتَّحْقِيقِ، وَإِدْخَالِ أَلِفٍ بَيْنَ الْهَمْزَتَيْنِ وَعَدَمِهِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَزِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ وابن السميقع وَطَلْحَةُ بِهَمْزَتَيْنِ مَفْتُوحَتَيْنِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ وَالْحَسَنُ «أَيْنَ» بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْيَاءِ على صيغة الظرف.
(1) . ص: 23. [.....]
وَاخْتَلَفَ سِيبَوَيْهِ وَيُونُسُ إِذَا اجْتَمَعَ اسْتِفْهَامٌ وَشَرْطٌ أَيُّهُمَا يُجَابُ؟ فَذَهَبَ سِيبَوَيْهِ إِلَى أَنَّهُ يُجَابُ الِاسْتِفْهَامُ، وَذَهَبَ يُونُسُ إِلَى أَنَّهُ يُجَابُ الشَّرْطُ، وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ فَالْجَوَابُ هُنَا مَحْذُوفٌ، أَيْ: أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ فَطَائِرُكُمْ مَعَكُمْ لِدَلَالَةِ مَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ. وَقَرَأَ الْمَاجِشُونُ «أَنْ ذُكِّرْتُمْ» بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ، أَيْ: لِأَنْ ذُكِّرْتُمْ، ثُمَّ أَضْرَبُوا عَمَّا يَقْتَضِيهِ الِاسْتِفْهَامُ وَالشَّرْطُ مِنْ كَوْنِ التَّذْكِيرِ سَبَبًا لِلشُّؤْمِ فَقَالُوا: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ أَيْ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادَتُكُمُ الْإِسْرَافُ فِي الْمَعْصِيَةِ. قَالَ قَتَادَةُ: مُسْرِفُونَ فِي تَطَيُّرِكُمْ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَامٍ: مُسْرِفُونَ فِي كُفْرِكُمْ. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: السَّرَفُ هُنَا الْفَسَادُ، وَالْإِسْرَافُ فِي الْأَصْلِ: مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي مُخَالَفَةِ الْحَقِّ وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى هُوَ حَبِيبُ بْنُ مُوسَى النَّجَّارُ، وَكَانَ نَجَّارًا، وَقِيلَ: إِسْكَافًا، وَقِيلَ: قَصَّارًا.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَمُقَاتِلٌ: هُوَ حَبِيبُ بْنُ إِسْرَائِيلَ النجار، وَكَانَ يَنْحِتُ الْأَصْنَامَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فِي غَارٍ، فَلَمَّا سَمِعَ بِخَبَرِ الرُّسُلِ جاء يسعى، وجملة: قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَمَاذَا قَالَ لَهُمْ عِنْدَ مَجِيئِهِ؟ فَقِيلَ: قال يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أُرْسِلُوا إِلَيْكُمْ فَإِنَّهُمْ جَاءُوا بِحَقٍّ، ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ وكرّره فقال: اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً أَيْ: لَا يَسْأَلُونَكُمْ أَجْرًا عَلَى مَا جَاءُوكُمْ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَهُمْ مُهْتَدُونَ يَعْنِي: الرُّسُلَ. ثُمَّ أَبْرَزَ الْكَلَامَ فِي مَعْرِضِ النَّصِيحَةِ لِنَفْسِهِ، وَهُوَ يُرِيدُ مُنَاصَحَةَ قَوْمِهِ فَقَالَ: وَما لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي أَيْ: أَيُّ مَانِعٍ مِنْ جَانِبِي يَمْنَعُنِي مِنْ عِبَادَةِ الَّذِي خَلَقَنِي. ثُمَّ رَجَعَ إِلَى خِطَابِهِمْ لِبَيَانِ أَنَّهُ مَا أَرَادَ نَفْسَهُ، بَلْ أَرَادَهُمْ بِكَلَامِهِ فَقَالَ: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَلَمْ يَقُلْ إِلَيْهِ أَرْجِعُ، وَفِيهِ مُبَالَغَةٌ فِي التَّهْدِيدِ. ثُمَّ عَادَ إِلَى الْمَسَاقِ الْأَوَّلِ لِقَصْدِ التَّأْكِيدِ وَمَزِيدِ الْإِيضَاحِ فَقَالَ:
أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً فَجَعَلَ الْإِنْكَارَ مُتَوَجِّهًا إِلَى نَفْسِهِ، وَهُمُ الْمُرَادُونَ بِهِ، أَيْ: لَا أَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً وَأَعْبُدُهَا، وَأَتْرُكُ عِبَادَةَ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ وَهُوَ الَّذِي فَطَرَنِي. ثُمَّ بَيَّنَ حَالَ هَذِهِ الْأَصْنَامِ الَّتِي يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ إِنْكَارًا عَلَيْهِمْ، وَبَيَانًا لِضَلَالِ عُقُولِهِمْ وَقُصُورِ إِدْرَاكِهِمْ فَقَالَ: إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً أَيْ: شَيْئًا مِنَ النَّفْعِ كَائِنًا مَا كَانَ وَلا يُنْقِذُونِ مِنْ ذَلِكَ الضُّرِّ الَّذِي أَرَادَنِي الرَّحْمَنُ بِهِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ صِفَةٌ لِآلِهَةٍ، أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ حَالِهَا فِي عَدَمِ النَّفْعِ وَالدَّفْعِ، وَقَوْلُهُ: لَا تُغْنِ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ «إِنْ يُرِدْنِيَ» بِفَتْحِ الْيَاءِ، قَالَ: إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ أَيْ: إِنِّي إِذَا اتَّخَذْتُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ وَاضِحٍ، وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِهِمْ كَمَا سَبَقَ، وَالضَّلَالُ: الْخُسْرَانُ.
ثُمَّ صَرَّحَ بِإِيمَانِهِ تَصْرِيحًا لَا يَبْقَى بَعْدَهُ شَكٌّ فَقَالَ: إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ خاطب بهذا الكلام المرسلين. قال المفسرون: أراد الْقَوْمُ قَتْلَهُ، فَأَقْبَلَ هُوَ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ أَيُّهَا الرُّسُلُ فَاسْمَعُونِ، أَيِ: اسْمَعُوا إِيمَانِي وَاشْهَدُوا لِي بِهِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ خَاطَبَ بِهَذَا الْكَلَامِ قَوْمَهُ لَمَّا أَرَادُوا قَتْلَهُ تَصَلُّبًا فِي الدِّينِ وَتَشَدُّدًا فِي الْحَقِّ، فَلَمَّا قَالَ هَذَا الْقَوْلَ وَصَرَّحَ بِالْإِيمَانِ وَثَبُوا عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ، وَقِيلَ: وَطِئُوهُ بِأَرْجُلِهِمْ، وَقِيلَ: حَرَقُوهُ، وَقِيلَ: حفروا له حفرة وَأَلْقَوْهُ فِيهَا، وَقِيلَ: إِنَّهُمْ لَمْ يَقْتُلُوهُ بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَى السَّمَاءِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَقِيلَ: نَشَرُوهُ بِالْمِنْشَارِ قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ أَيْ: قِيلَ لَهُ ذَلِكَ تَكْرِيمًا لَهُ بِدُخُولِهَا بَعْدَ قَتْلِهِ كَمَا هِيَ سُنَّةُ اللَّهِ فِي شُهَدَاءَ عِبَادِهِ. وَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ إِنَّهُ رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ وَلَمْ يُقْتَلْ يَكُونُ الْمَعْنَى: أَنَّهُمْ