الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عَنِ الْحَسَنِ عَنْ جَابِرٍ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا هِشَامُ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ عِيَاضِ بْنِ حَمَّادٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ يَوْمًا فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ حَاكِيًا عَنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ:«وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَأَضَلَّتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ وحرّمت عليهم ما أحللت لهم» الحديث.
[سورة الروم (30) : الآيات 38 الى 46]
فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40) ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42)
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (45) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46)
لَمَّا بَيَّنَ سُبْحَانَهُ كَيْفِيَّةَ التَّعْظِيمِ لِأَمْرِ اللَّهِ أَشَارَ إِلَى مَا يَنْبَغِي مِنْ مُوَاسَاةِ الْقَرَابَةِ، وَأَهْلِ الْحَاجَاتِ مِمَّنْ بَسَطَ اللَّهُ لَهُ فِي رِزْقِهِ فَقَالَ: فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأُمَّتِهِ أُسْوَتِهِ، أَوْ لِكُلِّ مُكَلَّفٍ لَهُ مَالٌ وَسَّعَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ، وَقَدَّمَ الْإِحْسَانَ إِلَى الْقَرَابَةِ لِأَنَّ خَيْرَ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَلَى قَرِيبٍ، فَهُوَ صَدَقَةٌ مُضَاعَفَةٌ، وَصِلَةُ رَحِمٍ مرغب فِيهَا، وَالْمُرَادُ: الْإِحْسَانُ إِلَيْهِمْ بِالصَّدَقَةِ، وَالصِّلَةِ، وَالْبِرِّ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ أَيْ: وَآتِ الْمِسْكِينَ، وَابْنَ السَّبِيلِ حَقَّهُمَا الَّذِي يَسْتَحِقَّانِهِ. وَوَجْهُ تَخْصِيصِ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ بِالذِّكْرِ أَنَّهُمْ أَوْلَى مِنْ سَائِرِ الْأَصْنَافِ بالإحسان، ولكون ذلك واجبا عَلَى كُلِّ مَنْ لَهُ مَالٌ فَاضِلٌ عَنْ كِفَايَتِهِ، وَكِفَايَةِ مَنْ يَعُولُ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هَلْ هِيَ مُحْكَمَةٌ أَوْ مَنْسُوخَةٌ؟ فَقِيلَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ. وَقِيلَ:
مُحَكَمَةٌ وَلِلْقَرِيبِ فِي مَالِ قَرِيبِهِ الْغَنِيِّ حَقٌّ وَاجِبٌ، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: لَا تُقْبَلُ صَدَقَةٌ مِنْ أَحَدٍ وَرَحِمُهُ مُحْتَاجٌ. قَالَ مُقَاتِلٌ: حَقُّ الْمِسْكِينِ: أَنْ يُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ، وَحَقُّ ابن السبيل: الضيافة. وقيل:
المراد بالقربى: قرابة النبيّ صلى الله عليه وسلم. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، فَإِنَّ حَقَّهُمْ مُبَيَّنٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ عز وجل فِي قَوْلِهِ: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى «1» وقال الحسن: إن الأمر في إيتاء ذي الْقُرْبَى لِلنَّدْبِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ أَيْ: ذَلِكَ الْإِيتَاءُ أَفْضَلُ مِنَ الْإِمْسَاكِ لِمَنْ يُرِيدُ التَّقَرُّبَ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أَيِ: الْفَائِزُونَ بِمَطْلُوبِهِمْ حَيْثُ أَنْفَقُوا لِوَجْهِ اللَّهِ امْتِثَالًا لِأَمْرِهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً قرأ
(1) . الأنفال: 41.
الجمهور «آتيتم» بِمَعْنَى أَعْطَيْتُمْ، وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ، وَحُمَيْدٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ بِالْقَصْرِ بِمَعْنَى مَا فَعَلْتُمْ، وَأَجْمَعُوا عَلَى الْقِرَاءَةِ بِالْمَدِّ فِي قَوْلِهِ: وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ وأصل الربا: الزيادة، وقراءة القصر تؤول إِلَى قِرَاءَةِ الْمَدِّ، لِأَنَّ مَعْنَاهَا مَا فَعَلْتُمْ عَلَى وَجْهِ الْإِعْطَاءِ، كَمَا تَقُولُ: أَتَيْتُ خَطَأً وَأَتَيْتُ صَوَابًا وَالْمَعْنَى فِي الْآيَةِ: مَا أَعْطَيْتُمْ من زيادة خالية عن العوض لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ أي: ليزيد، ويزكو في أموالهم فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ أَيْ: لَا يُبَارِكُ اللَّهُ فِيهِ. قَالَ السُّدِّيُّ: الرِّبَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: الْهَدِيَّةُ يُهْدِيهَا الرَّجُلُ لِأَخِيهِ يَطْلُبُ الْمُكَافَأَةَ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ، لَا يُؤْجَرُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ، وَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، وَهَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَهَذَا قَوْلُ جَمَاعَةِ الْمُفَسِّرِينَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: يَعْنِي دَفْعُ الْإِنْسَانِ الشَّيْءَ لِيُعَوَّضَ أَكْثَرَ مِنْهُ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِحَرَامٍ، وَلَكِنَّهُ لَا ثَوَابَ فِيهِ، لِأَنَّ الَّذِي يَهَبُهُ يَسْتَدْعِي بِهِ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْهُ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ مَا خَدَمَ بِهِ الْإِنْسَانُ أَحَدًا لِيَنْتَفِعَ بِهِ فِي دُنْيَاهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ النَّفْعَ الَّذِي يَجْزِي بِهِ الْخِدْمَةَ لَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ. وَقِيلَ: هَذَا كَانَ حَرَامًا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْخُصُوصِ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ وَمَعْنَاهَا: أَنْ تُعْطِيَ فَتَأْخُذَ أَكْثَرَ مِنْهُ عِوَضًا عَنْهُ. وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي هِبَةِ الثَّوَابِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ مِمَّا يَصْنَعُهُ الْإِنْسَانُ لِيُجَازَى عَلَيْهِ. قَالَ عِكْرِمَةُ: الرِّبَا رِبَوَانِ: فَرِبًا حَلَالٌ، وَرِبًا حَرَامٌ، فَأَمَّا الرِّبَا الْحَلَالُ: فَهُوَ الَّذِي يَهْدِي يَلْتَمِسُ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ، يَعْنِي: كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا الَّذِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الرِّبَا الْمُحَرَّمُ، فَمَعْنَى لَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ: لَا يَحْكُمُ بِهِ، بَلْ هُوَ لِلْمَأْخُوذِ مِنْهُ.
قَالَ الْمُهَلَّبُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ وَهَبَ هِبَةً يَطْلُبُ بِهَا الثَّوَابَ، فَقَالَ مَالِكٌ: يُنْظَرُ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ مِثْلُهُ مِمَّنْ يَطْلُبُ الثَّوَابَ مِنَ الْمَوْهُوبِ لَهُ فَلَهُ ذَلِكَ، مِثْلُ هِبَةِ الْفَقِيرِ لِلْغَنِيِّ، وَهِبَةِ الْخَادِمِ لِلْمَخْدُومِ، وَهِبَةِ الرَّجُلِ لِأَمِيرِهِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَكُونُ لَهُ ثَوَابٌ إِذَا لَمْ يَشْتَرِطْ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ الْآخَرُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «لِيَرْبُوَ» بِالتَّحْتِيَّةِ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ مُسْنَدٌ إِلَى ضَمِيرِ الرِّبَا. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَيَعْقُوبُ بِالْفَوْقِيَّةِ مَضْمُومَةٌ خِطَابًا لِلْجَمَاعَةِ بِمَعْنَى: لِتَكُونُوا ذَوِي زِيَادَاتٍ. وَقَرَأَ أَبُو مَالِكٍ «لِتُرْبُوهَا» وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهُ لَا يَزْكُو عِنْدَ اللَّهِ، وَلَا يُثِيبُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ إِلَّا مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُهُ، خَالِصًا لَهُ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ أَيْ: وَمَا أَعْطَيْتُمْ مِنْ صَدَقَةٍ لَا تَطْلُبُونَ بِهَا الْمُكَافَأَةَ، وَإِنَّمَا تَقْصِدُونَ بِهَا مَا عِنْدَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ الْمُضْعِفُ دُونَ الْأَضْعَافِ مِنَ الْحَسَنَاتِ الَّذِينَ يُعْطَوْنَ بِالْحَسَنَةِ عَشَرَةَ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ.
قَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ نَحْوُ قَوْلِهِمْ: مُسْمِنٌ وَمُعْطِشٌ وَمُضْعِفٌ إِذَا كَانَتْ لَهُ إِبِلٌ سِمَانٌ، أَوْ عِطَاشٌ، أَوْ ضَعِيفَةٌ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ «الْمُضْعَفُونَ» بِفَتْحِ الْعَيْنِ اسْمَ مَفْعُولٍ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ عَادَ سُبْحَانَهُ إِلَى الِاحْتِجَاجِ على المشركين، وأنه الخالق الرازق الْمُمِيتُ الْمُحْيِي، ثُمَّ قَالَ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِفْهَامِ: هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ:
لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَتَقُومُ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ، ثُمَّ نَزَّهَ سُبْحَانَهُ نَفْسَهُ فَقَالَ: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ أَيْ: نَزَّهُوهُ تَنْزِيهًا، وَهُوَ مُتَعَالٍ عَنْ أَنْ يَجُوزَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: مِنْ شُرَكائِكُمْ:
خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، وَمِنْ: لِلتَّبْعِيضِ، وَالْمُبْتَدَأُ: هُوَ الْمَوْصُولُ، أَعْنِي: مَنْ يَفْعَلُ، وَمِنْ ذَلِكُمْ: مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ
لِأَنَّهُ حَالٌ مِنْ شَيْءٍ الْمَذْكُورِ بَعْدَهُ، وَمِنْ فِي «مِنْ شَيْءٍ» مَزِيدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ، وَأَضَافَ الشُّرَكَاءَ إِلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَهُمْ آلِهَةً، وَيَجْعَلُونَ لَهُمْ نَصِيبًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الشِّرْكَ وَالْمَعَاصِيَ سَبَبٌ لِظُهُورِ الْفَسَادِ فِي الْعَالَمِ.
وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى ظُهُورِ الْفَسَادِ الْمَذْكُورِ، فَقِيلَ: هُوَ الْقَحْطُ، وَعَدَمُ النَّبَاتِ، وَنُقْصَانُ الرِّزْقِ، وَكَثْرَةُ الْخَوْفِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ: فَسَادُ الْبَرِّ: قَتْلُ ابْنِ آدَمَ أَخَاهُ، يَعْنِي: قَتْلَ قَابِيلَ لِهَابِيلَ، وَفِي الْبَحْرِ: الْمَلِكُ الَّذِي كَانَ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا.
وَلَيْتَ شِعْرِي أَيُّ دَلِيلٍ دَلَّهُمَا عَلَى هَذَا التَّخْصِيصِ الْبَعِيدِ وَالتَّعْيِينِ الْغَرِيبِ؟ فَإِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَالتَّعْرِيفُ فِي الْفَسَادِ: يَدُلُّ عَلَى الْجِنْسِ، فَيَعُمُّ كُلَّ فَسَادٍ وَاقِعٍ فِي حَيِّزَيِ الْبَرِّ، وَالْبَحْرِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْفَسَادُ:
الشِّرْكُ، وَهُوَ أَعْظَمُ الْفَسَادِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الشِّرْكَ وَإِنْ كَانَ الْفَرْدُ الْكَامِلُ فِي أَنْوَاعِ الْمَعَاصِي، وَلَكِنْ لَا دَلِيلَ عَلَى أَنَّهُ الْمُرَادُ بِخُصُوصِهِ. وَقِيلَ: الْفَسَادُ كَسَادُ الْأَسْعَارِ، وَقِلَّةُ الْمَعَاشِ، وَقِيلَ: الْفَسَادُ قَطْعُ السُّبُلِ، وَالظُّلْمُ، وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ تَخْصِيصٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ. وَالظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ ظُهُورُ مَا يَصِحُّ إِطْلَاقُ اسْمِ الْفَسَادِ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ رَاجِعًا إِلَى أَفْعَالِ بَنِي آدَمَ مِنْ مَعَاصِيهِمْ، وَاقْتِرَافِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَتَقَاطُعِهِمْ، وَتَظَالُمِهِمْ، وَتَقَاتُلِهِمْ، أَوْ رَاجِعًا إِلَى مَا هُوَ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِسَبَبِ ذُنُوبِهِمْ، كَالْقَحْطِ، وَكَثْرَةِ الْخَوْفِ، وَالْمَوْتَانِ، وَنُقْصَانِ الزَّرَائِعِ، وَنُقْصَانِ الثِّمَارِ. وَالْبَرُّ وَالْبَحْرُ: هُمَا الْمَعْرُوفَانِ الْمَشْهُورَانِ، وَقِيلَ الْبَرُّ: الْفَيَافِي، وَالْبَحْرُ: الْقُرَى الَّتِي عَلَى مَاءٍ قَالَهُ عِكْرِمَةُ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْأَمْصَارَ: الْبِحَارَ. قَالَ مُجَاهِدٌ: الْبَرُّ: مَا كَانَ مِنَ الْمُدُنِ وَالْقُرَى عَلَى غَيْرِ نَهْرٍ، وَالْبَحْرُ: مَا كَانَ عَلَى شَطِّ نَهْرٍ، وَالْأَوَّلُ: أَوْلَى. وَيَكُونُ مَعْنَى الْبَرِّ: مُدُنُ الْبَرِّ، وَمَعْنَى الْبَحْرِ:
مُدُنُ الْبَحْرِ، وَمَا يَتَّصِلُ بِالْمُدُنِ مِنْ مَزَارِعِهَا وَمَرَاعِيهَا، وَالْبَاءُ فِي بِمَا كَسَبَتْ: لِلسَّبَبِيَّةِ، وَمَا: إِمَّا مَوْصُولَةٌ أَوْ مَصْدَرِيَّةٌ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا اللَّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِظَهَرَ، وَهِيَ لَامُ الْعِلَّةِ، أَيْ: لِيُذِيقَهُمْ عِقَابَ بَعْضِ عَمَلِهِمْ، أو جزاء بعض عَمَلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عَمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْمَعَاصِي، وَيَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ لَمَّا بَيَّنَ سُبْحَانَهُ ظُهُورَ الْفَسَادِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ، وَالْعُصَاةِ بَيَّنَ لَهُمْ ضَلَالَ أَمْثَالِهِمْ مِنْ أَهْلِ الزَّمَنِ الْأَوَّلِ، وَأَمَرَهُمْ بِأَنْ يَسِيرُوا لِيَنْظُرُوا آثَارَهُمْ، وَيُشَاهِدُوا كَيْفَ كَانَتْ عَاقِبَتُهُمْ، فَإِنَّ مَنَازِلَهُمْ خَاوِيَةٌ، وَأَرَاضِيَهُمْ مُقْفِرَةٌ مُوحِشَةٌ، كَعَادٍ وَثَمُودَ، وَنَحْوِهِمْ مِنْ طَوَائِفِ الْكُفَّارِ، وَجُمْلَةُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ الْحَالَةِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا، وَإِيضَاحِ السَّبَبِ الَّذِي صَارَتْ عَاقِبَتُهُمْ بِهِ إِلَى مَا صَارَتْ إِلَيْهِ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ هَذَا خِطَابٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وأمته وأسوته فِيهِ، كَأَنَّ الْمَعْنَى: إِذًا قَدْ ظَهَرَ الْفَسَادُ بِالسَّبَبِ الْمُتَقَدِّمِ فَأَقِمْ وَجْهَكَ يَا مُحَمَّدُ إِلَخْ.
قَالَ الزَّجَّاجُ: اجْعَلْ جِهَتَكَ اتِّبَاعَ الدِّينِ الْقَيِّمِ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ الْمُسْتَقِيمُ «مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ» يَعْنِي: يَوْمَ الْقِيَامَةِ «لَا مَرَدَّ لَهُ» لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى رَدِّهِ، وَالْمَرَدُّ: مَصْدَرُ رَدَّ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: أَوْضِحِ الْحَقَّ، وَبَالِغْ فِي الأعذار، و «من الله» يتعلق بيأتي، أَوْ بِمَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَصْدَرُ، أَيْ: لَا يَرُدُّهُ مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ، وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: لَا يَرُدُّهُ اللَّهُ لِتَعَلُّقِ إِرَادَتِهِ الْقَدِيمَةِ بِمَجِيئِهِ، وَفِيهِ مِنَ الضَّعْفِ وَسُوءِ الْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ مَا لَا يَخْفَى يَوْمَئِذٍ
يَصَّدَّعُونَ أَصْلُهُ: يَتَصَدَّعُونَ، وَالتَّصَدُّعُ: التَّفَرُّقُ، يُقَالُ: تَصَدَّعَ الْقَوْمُ: إِذَا تَفَرَّقُوا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَكُنَّا كندماني جذيمة حقبة
…
مِنَ الدَّهْرِ حَتَّى قِيلَ لَنْ يَتَصَدَّعَا
وَالْمُرَادُ بِتَفَرُّقِهِمْ هَاهُنَا: أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَصِيرُونَ إِلَى الْجَنَّةِ، وَأَهْلَ النَّارِ يَصِيرُونَ إِلَى النَّارِ مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ أَيْ: جَزَاءُ كُفْرِهِ، وَهُوَ النَّارُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ أَيْ: يُوَطِّئُونَ لِأَنْفُسِهِمْ مَنَازِلَ فِي الْجَنَّةِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَالْمِهَادُ: الْفِرَاشُ، وَقَدْ مَهَّدْتُ الْفِرَاشَ مَهْدًا: إِذَا بَسَطْتَهُ وَوَطَّأْتَهُ، فَجَعَلَ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ الَّتِي هِيَ سَبَبٌ لِدُخُولِ الْجَنَّةِ، كَبِنَاءِ الْمَنَازِلِ فِي الْجَنَّةِ، وَفَرْشِهَا. وَقِيلَ الْمَعْنَى: فَعَلَى أَنْفُسِهِمْ يُشْفِقُونَ، مِنْ قَوْلِهِمْ فِي الْمُشْفِقِ: أُمٌّ فَرَشَتْ فَأَنَامَتْ، وَتَقْدِيمُ الظَّرْفِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ «فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ» فِي الْقَبْرِ، وَاللَّامُ فِي لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا مُتَعَلِّقَةٌ بِيَصَّدَّعُونَ، أَوْ يُمَهِّدُونَ: أَيْ: يَتَفَرَّقُونَ لِيَجْزِيَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا يَسْتَحِقُّونَهُ مِنْ فَضْلِهِ أَوْ يُمَهِّدُونَ لِأَنْفُسِهِمْ، بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ لِيَجْزِيَهُمْ، وَقِيلَ: يَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: تَقْدِيرُهُ ذَلِكَ لِيَجْزِيَ، وَتَكُونُ الْإِشَارَةُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: مَنْ عَمِلَ وَمَنْ كَفَرَ. وَجَعَلَ أَبُو حَيَّانَ قَسِيمَ قَوْلِهِ: الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مَحْذُوفًا لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكافِرِينَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ بُغْضِهِ لَهُمُ الْمُوجِبُ لِغَضَبِهِ سُبْحَانَهُ، وَغَضَبُهُ يَسْتَتْبِعُ عُقُوبَتَهُ وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ أَيْ: وَمِنْ دَلَالَاتِ بَدِيعِ قَدْرَتِهِ إِرْسَالُ الرِّيَاحِ مُبَشِّرَاتٍ بِالْمَطَرِ لِأَنَّهَا تَتَقَدَّمُهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ «1» قَرَأَ الْجُمْهُورُ «الرِّيَاحَ» وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ «الرِّيحَ» بِالْإِفْرَادِ عَلَى قَصْدِ الْجِنْسِ لِأَجْلِ قَوْلِهِ «مُبَشِّرَاتٍ» وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ مُتَعَلِّقَةٌ بِيُرْسِلُ، أَيْ: يُرْسِلُ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ، وَيُرْسِلُهَا لِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ، يَعْنِي: الْغَيْثَ وَالْخِصْبَ، وَقِيلَ: هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ: وَلِيُذِيقَكُمْ أَرْسَلَهَا، وَقِيلَ: الْوَاوُ مَزِيدَةٌ عَلَى رَأْيِ مَنْ يُجَوِّزُ ذَلِكَ، فَتَتَعَلَّقُ اللَّامُ بِيُرْسِلُ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ مَعْطُوفٌ عَلَى لِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ، أَيْ: يُرْسِلَ الرِّيَاحَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِي الْبَحْرِ عِنْدَ هُبُوبِهَا، وَلَمَّا أَسْنَدَ الْجَرْيَ إِلَى الْفُلْكِ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ أَيْ: تَبْتَغُوا الرِّزْقَ بِالتِّجَارَةِ الَّتِي تَحْمِلُهَا السُّفُنُ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ هَذِهِ النِّعَمَ، فَتُفْرِدُونَ اللَّهَ بِالْعِبَادَةِ، وَتَسْتَكْثِرُونَ مِنَ الطَّاعَةِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً الْآيَةَ قَالَ: الرِّبَا رِبَوَانِ: رِبًا لَا بَأْسَ بِهِ، وَرِبًا لَا يَصْلُحُ. فَأَمَّا الرِّبَا الَّذِي لَا بَأْسَ بِهِ، فَهَدِيَّةُ الرَّجُلِ إِلَى الرَّجُلِ يُرِيدُ فَضْلَهَا وَأَضْعَافَهَا.
وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ قَالَ: هَذَا هُوَ الرِّبَا الْحَلَالُ أَنْ يُهْدِيَ يُرِيدُ أَكْثَرَ مِنْهُ وَلَيْسَ لَهُ أَجْرٌ وَلَا وِزْرٌ، وَنَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خاصة فقال: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ «2» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ قَالَ: هِيَ الصَّدَقَةُ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَالَ: الْبَرُّ الْبَرِّيَّةُ الَّتِي لَيْسَ عِنْدَهَا نَهْرٌ، وَالْبَحْرُ: مَا كَانَ مِنَ الْمَدَائِنِ، وَالْقُرَى عَلَى شَطِّ نَهْرٍ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ قَالَ: نُقْصَانُ الْبَرَكَةِ بِأَعْمَالِ الْعِبَادِ كَيْ يَتُوبُوا. وأخرج
(1) . الأعراف: 57.
(2)
. المدثر: 6.