الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مُبِينٌ الْآيَةَ، فَأُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَسْقِ اللَّهَ لِمُضَرَ، فَاسْتَسْقَى لَهُمْ فَسُقُوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ فَلَمَّا أَصَابَتْهُمُ الرَّفَاهِيَةُ عَادُوا إِلَى حَالِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ فَانْتَقَمَ اللَّهُ مِنْهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، فَقَدْ مَضَى الْبَطْشَةُ وَالدُّخَانُ وَاللِّزَامُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوُ هَذَا مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: لَمْ أَنَمْ هَذِهِ اللَّيْلَةَ، فَقُلْتُ لِمَ؟ قَالَ: طَلَعَ الْكَوْكَبُ فَخَشِيتُ أَنْ يَطْرُقَ الدُّخَانُ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ، وَكَذَا صَحَّحَهُ السُّيُوطِيُّ وَلَكِنْ لَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ. وَقَدْ عَرَّفْنَاكَ أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ كَوْنِ هَذِهِ الْآيَةِ نَازِلَةً فِي الدُّخَانِ الَّذِي كَانَ يَتَرَاءَى لِقُرَيْشٍ مِنَ الْجُوعِ، وَبَيْنَ كَوْنِ الدُّخَانِ مِنْ آيَاتِ السَّاعَةِ وَعَلَامَاتِهَا وَأَشْرَاطِهَا.
فَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ صِحَاحٌ وَحِسَانٌ وَضِعَافٌ بِذَلِكَ، وَلَيْسَ فِيهَا أَنَّهُ سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ، فَلَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى التَّطْوِيلِ بِذِكْرِهَا، وَالْوَاجِبُ التَّمَسُّكُ بِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ دُخَانَ قُرَيْشٍ عِنْدَ الْجَهْدِ وَالْجُوعِ هُوَ سَبَبُ النُّزُولِ، وَبِهَذَا تَعْرِفُ انْدِفَاعَ تَرْجِيحِ مَنْ رَجَّحَ أَنَّهُ الدُّخَانُ الَّذِي هُوَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ كَابْنِ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ وَغَيْرِهِ، وَهَكَذَا يَنْدَفِعُ قَوْلُ مَنْ قَالَ إِنَّهُ الدُّخَانُ الْكَائِنُ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ مُتَمَسِّكًا بِمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ دُخَانٌ وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ فَإِنَّ هَذَا لَا يُعَارِضُ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ إِسْنَادِهِ مَعَ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ظَنَّ مِنْ وُقُوعِ ذَلِكَ الدُّخَانِ يَوْمَ الْفَتْحِ أَنَّهُ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ، وَلِهَذَا لَمْ يُصَرِّحْ بِأَنَّهُ سَبَبُ نُزُولِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الْبَطْشَةُ الْكُبْرَى يَوْمَ بَدْرٍ وَأَنَا أَقُولُ هِيَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ قَبْلَ هَذَا: فَسَّرَ ذَلِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ بِيَوْمِ بَدْرٍ، وَهَذَا قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِمَّنْ وَافَقَ ابْنَ مَسْعُودٍ عَلَى تَفْسِيرِهِ الدُّخَانَ بِمَا تَقَدَّمَ، وَرُوِيَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ رواية العوفي عنه وعن أبيّ ابن كَعْبٍ وَجَمَاعَةٍ وَهُوَ مُحْتَمَلٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَإِنْ كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ يَوْمَ بَطْشَةٍ كُبْرَى أَيْضًا انْتَهَى.
قُلْتُ: بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ يَوْمُ بَدْرٍ، وَإِنْ كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يَوْمَ بَطْشَةٍ أَكْبَرَ مِنْ كُلِّ بَطْشَةٍ، فَإِنَّ السِّيَاقَ مَعَ قُرَيْشٍ، فَتَفْسِيرُهُ بِالْبَطْشَةِ الْخَاصَّةِ بِهِمْ أَوْلَى مِنْ تَفْسِيرِهِ بِالْبَطْشَةِ الَّتِي تَكُونُ يَوْمَ القيامة لكل عاص من الإنس والجنّ.
[سورة الدخان (44) : الآيات 17 الى 37]
وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21)
فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (26)
وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (27) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (28) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31)
وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (32) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (33) إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَاّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (36)
أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (37)
قَوْلُهُ: وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَيِ: ابْتَلَيْنَاهُمْ، وَمَعْنَى الْفِتْنَةِ هُنَا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رُسُلَهُ، وَأَمَرُوهُمْ بِمَا شَرَعَهُ لَهُمْ فَكَذَّبُوهُمْ، أَوْ وَسَّعَ عَلَيْهِمُ الْأَرْزَاقَ فَطَغَوْا وَبَغَوْا. قَالَ الزَّجَّاجُ: بَلَوْنَاهُمْ، وَالْمَعْنَى: عَامَلْنَاهُمْ مُعَامَلَةَ الْمُخْتَبَرِ بِبَعْثِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ، وَقُرِئَ فَتَنَّا بِالتَّشْدِيدِ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ أَيْ: كَرِيمٌ عَلَى اللَّهِ كَرِيمٌ فِي قَوْمِهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: حَسَنُ الْخُلُقِ بِالتَّجَاوُزِ وَالصَّفْحِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: كَرِيمٌ عَلَى رَبِّهِ إِذِ اخْتَصَّهُ بِالنُّبُوَّةِ أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ أَنْ هَذِهِ هِيَ الْمُفَسِّرَةُ لِتَقَدُّمِ مَا هُوَ بِمَعْنَى الْقَوْلِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمُخَفَّفَةَ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الشَّأْنَ وَالْحَدِيثَ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، أَيْ:
بِأَنْ أَدُّوا وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ طَلَبَ مِنْهُمْ أَنْ يُسَلِّمُوا إِلَيْهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. قَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَعْنَى أَرْسِلُوا مَعِي عِبَادَ اللَّهِ وَأَطْلِقُوهُمْ مِنَ الْعَذَابِ، فَعِبَادُ اللَّهِ عَلَى هَذَا مَفْعُولٌ بِهِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ مَا وَجَبَ عَلَيْكُمْ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ، فَيَكُونُ مَنْصُوبًا عَلَى أَنَّهُ مُنَادًى مُضَافٌ. وَقِيلَ: أَدُّوا إِلَيَّ سَمْعَكُمْ حَتَّى أُبَلِّغَكُمْ رِسَالَةَ رَبِّكُمْ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ هُوَ تَعْلِيلٌ لِمَا تَقَدَّمَ، أَيْ: رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ إِلَيْكُمْ أَمِينٌ عَلَى الرِّسَالَةِ غَيْرُ مُتَّهَمٍ وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ أَيْ: لَا تَتَجَبَّرُوا وَتَتَكَبَّرُوا عَلَيْهِ بِتَرَفُّعِكُمْ عَنْ طَاعَتِهِ، وَمُتَابَعَةِ رُسُلِهِ، وَقِيلَ: لَا تَبْغُوا عَلَى اللَّهِ، وَقِيلَ: لَا تَفْتَرُوا عَلَيْهِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَبِهِ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَيَحْيَى بْنُ سَلَامٍ، وَجُمْلَةُ: إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهُ مِنَ النَّهْيِ، أَيْ: بِحُجَّةٍ وَاضِحَةٍ لَا سَبِيلَ إِلَى إِنْكَارِهَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: بِعُذْرٍ بَيِّنٍ.
وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَبِهِ قَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَامٍ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِكَسْرِ هَمْزَةِ إِنِّي وَقُرِئَ بِالْفَتْحِ بِتَقْدِيرِ اللَّامِ وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ اسْتَعَاذَ بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ لَمَّا تَوَعَّدُوهُ بِالْقَتْلِ، وَالْمَعْنَى: مِنْ أَنْ تَرْجُمُونِ. قَالَ قَتَادَةُ: تَرْجُمُونِي بِالْحِجَارَةِ، وَقِيلَ: تَشْتُمُونِ، وَقِيلَ: تَقْتُلُونِ وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ أَيْ: إِنْ لَمْ تُصَدِّقُونِي وَتُقِرُّوا بِنُبُوَّتِي فَاتْرُكُونِي وَلَا تَتَعَرَّضُوا لِي بِأَذًى. قَالَ مُقَاتِلٌ: دَعُونِي كَفَافًا لَا عَلَيَّ وَلَا لِي، وَقِيلَ: كُونُوا بِمَعْزِلٍ عَنِّي، وَأَنَا بِمَعْزِلٍ مِنْكُمْ إِلَى أَنْ يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا، وَقِيلَ: فَخَلُّوا سَبِيلِي، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ.
ثُمَّ لَمَّا لَمْ يُصَدِّقُوهُ وَلَمْ يُجِيبُوا دَعْوَتَهُ، رَجَعَ إِلَى رَبِّهِ بِالدُّعَاءِ كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَلَى إِضْمَارِ حَرْفِ الْجَرِّ: أَيْ: دَعَاهُ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ بِكَسْرِهَا عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، أَيْ: فَكَفَرُوا فَدَعَا رَبَّهُ، وَالْمُجْرِمُونَ: الْكَافِرُونَ، وَسَمَّاهُ دُعَاءً مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ إِلَّا مُجَرَّدَ كَوْنِهِمْ مُجْرِمِينَ، لِأَنَّهُمْ قَدِ اسْتَحَقُّوا بِذَلِكَ الدُّعَاءَ عَلَيْهِمْ فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا أجاب الله سبحانه دعاءه، فأمره أَنْ يَسْرِيَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ لَيْلًا، يُقَالُ سَرَى وَأَسْرَى لُغَتَانِ، قَرَأَ الْجُمْهُورُ فَأَسْرِ بِالْقَطْعِ، وَقَرَأَ أَهْلُ الْحِجَازِ بِالْوَصْلِ، وَوَافَقَهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ، فَالْقِرَاءَةُ الْأُولَى مِنْ أَسْرَى، وَالثَّانِيَةُ مِنْ سَرَى، وَالْجُمْلَةُ بِتَقْدِيرِ الْقَوْلِ: أَيْ فَقَالَ اللَّهُ لِمُوسَى أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ
أَيْ: يَتْبَعُكُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ خُرُوجُ فِرْعَوْنَ بَعْدَهُمْ وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً أَيْ: سَاكِنًا، يُقَالُ رَهَا يَرْهُو رَهْوًا: إِذَا سَكَنَ لَا يَتَحَرَّكُ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: يُقَالُ افْعَلْ ذَلِكَ رَهْوًا، أَيْ: سَاكِنًا عَلَى هَيْئَتِكَ، وَعَيْشٌ رَاهٍ: أَيْ سَاكِنٌ، وَرَهَا الْبَحْرُ سَكَنَ، وَكَذَا قَالَ الْهَرَوِيُّ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ فِي اللُّغَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَالْخَيْلَ تَمْرَحُ رَهْوًا في أعنّتها
…
كالطير تنجو مِنَ الشُّرْنُوبِ ذِي الْوَبَرِ
أَيْ: وَالْخَيْلُ تَمْرَحُ فِي أَعِنَّتِهَا سَاكِنَةً، وَالْمَعْنَى: اتْرُكِ الْبَحْرَ سَاكِنًا عَلَى صِفَتِهِ بَعْدَ أَنْ ضَرَبْتَهُ بِعَصَاكَ، وَلَا تَأْمُرْهُ أَنْ يَرْجِعَ كَمَا كَانَ لِيَدْخُلَهُ آلُ فِرْعَوْنَ بَعْدَكَ وَبَعْدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَيَنْطَبِقَ عَلَيْهِمْ فَيَغْرَقُونَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ:
رَهَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ يرهو رَهْوًا: أَيْ فَتَحَ.. قَالَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً وَالْمَعْنَى: اتْرُكْهُ مُنْفَرِجًا كَمَا كَانَ بَعْدَ دُخُولِكُمْ فِيهِ، وَكَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ. قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: وَهُمَا يَرْجِعَانِ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، وَإِنِ اخْتَلَفَ لَفْظَاهُمَا، لِأَنَّ الْبَحْرَ إِذَا سَكَنَ جَرْيُهُ انْفَرَجَ. قَالَ الْهَرَوِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَهْوًا نَعْتًا لِمُوسَى، أَيْ: سِرْ سَاكِنًا عَلَى هَيْئَتِكَ. وَقَالَ كَعْبٌ وَالْحَسَنُ رَهْوًا: طَرِيقًا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: وَالرَّبِيعُ سَهْلًا.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: يَبَسًا كَقَوْلِهِ: فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، فَالْمَعْنَى اتْرُكْهُ ذَا رَهْوٍ أَوِ اتْرُكْهُ رَهْوًا عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ أَيْ: إِنَّ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ مُغْرَقُونَ.
أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ مُوسَى بِذَلِكَ لِيَسْكُنَ قَلْبُهُ وَيَطْمَئِنَّ جَأْشُهُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِكَسْرِ إِنَّ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ لِقَصْدِ الْإِخْبَارِ بِذَلِكَ، وَقُرِئَ بِالْفَتْحِ عَلَى تَقْدِيرِ لِأَنَّهُمْ كَمْ هِيَ الْخَبَرِيَّةُ الْمُفِيدَةُ لِلتَّكْثِيرِ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ وَمَقامٍ بِفَتْحِ الْمِيمِ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ مَكَانٍ لِلْقِيَامِ، وَقَرَأَ ابن هرمز، وقتادة، وابن السميقع، وَرُوِيَ عَنْ نَافِعٍ بِضَمِّهَا اسْمُ مَكَانِ الْإِقَامَةِ وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ النَّعْمَةُ بِالْفَتْحِ التَّنَعُّمُ: يُقَالُ نَعَّمَهُ اللَّهُ وَنَاعَمَهُ فَتَنَعَّمَ، وَبِالْكَسْرِ الْمِنَّةُ، وَمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكَ، وَفُلَانٌ وَاسِعُ النِّعْمَةِ: أَيْ وَاسِعُ الْمَالِ ذَكَرَ مَعْنَى هَذَا الْجَوْهَرِيُّ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ فاكِهِينَ بِالْأَلْفِ. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ، وَالْحَسَنُ، وَأَبُو الْأَشْهَبِ، وَالْأَعْرَجُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَشَيْبَةُ «فَكِهِينَ» بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَالْمَعْنَى عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى: مُتَنَعِّمِينَ طَيِّبَةً أَنْفُسُهُمْ، وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ: أَشِرِينَ بَطِرِينَ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: فَكِهَ الرَّجُلُ بِالْكَسْرِ فَهُوَ فَكِهٌ إِذَا كَانَ طَيِّبَ النَّفْسِ مَزَّاحًا، وَالْفَكِهُ أَيْضًا: الْأَشِرُ الْبَطِرُ. قَالَ: وَفَاكِهِينَ: أَيْ نَاعِمِينَ. وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ: هُمَا لُغَتَانِ كَالْحَاذِرِ وَالْحَذِرِ، وَالْفَارِهِ وَالْفَرِهِ. وَقِيلَ إِنَّ الْفَاكِهَ: هُوَ الْمُسْتَمْتِعُ بِأَنْوَاعِ اللَّذَّةِ كَمَا يَتَمَتَّعُ الرَّجُلُ بِأَنْوَاعِ الْفَاكِهَةِ كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ الْكَافُ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهَا خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى مَصْدَرِ فِعْلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ تَرَكُوا، أَيْ: مِثْلَ ذَلِكَ السَّلْبِ سَلَبْنَاهُمْ إِيَّاهَا، وَقِيلَ: مِثْلَ ذَلِكَ الْإِخْرَاجِ أَخْرَجْنَاهُمْ مِنْهَا، وَقِيلَ: مِثْلَ ذَلِكَ الْإِهْلَاكِ أَهْلَكْنَاهُمْ. فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَكُونُ قَوْلُهُ: وَأَوْرَثْناها مَعْطُوفًا عَلَى تَرَكُوا وَعَلَى الْوُجُوهِ الْآخِرَةِ يَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى الْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ. وَالْمُرَادُ بِالْقَوْمِ الْآخَرِينَ بَنُو إِسْرَائِيلَ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ مَلَّكَهُمْ أَرْضَ مِصْرَ بَعْدَ أَنْ كَانُوا فِيهَا مُسْتَعْبَدِينَ، فَصَارُوا لَهَا وَارِثِينَ: أَيْ أَنَّهَا وَصَلَتْ إِلَيْهِمْ كَمَا يَصِلُ الْمِيرَاثُ إِلَى الْوَارِثِ، وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُهُ:
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا «1» فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ هَذَا بَيَانٌ لِعَدَمِ الِاكْتِرَاثِ بِهَلَاكِهِمْ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَيْ إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْمَلُونَ عَلَى الْأَرْضِ عَمَلًا صَالِحًا تَبْكِي عَلَيْهِمْ بِهِ وَلَمْ يَصْعَدْ لَهُمْ إِلَى السماء عمل طيب تبكي عَلَيْهِمْ بِهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَمْ يُصَبْ بِفَقْدِهِمْ وَهَلَاكِهِمْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ السَّمَاءِ وَلَا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَقُولُ عِنْدَ مَوْتِ السَّيِّدِ مِنْهُمْ: بَكَتْ لَهُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ، أَيْ:
عَمَّتْ مُصِيبَتُهُ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ جَرِيرٍ:
لَمَّا أَتَى خَبَرُ الزُّبَيْرِ تَوَاضَعَتْ
…
سُورُ الْمَدِينَةِ وَالْجِبَالُ الْخُشَّعُ
وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ:
بَكَى حَارِثُ الْجَوْلَانِ مِنْ فَقْدِ رَبِّهِ
…
وَحَوْرَانُ مِنْهُ خَاشِعٌ مُتَضَائِلُ
وَقَالَ الْحَسَنُ: فِي الْكَلَامِ مُضَافٌ مَحْذُوفٌ: أَيْ مَا بَكَى عَلَيْهِمْ أَهْلُ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ تَبْكِيَانِ عَلَى الْمُؤْمِنِ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا، وَقِيلَ إِنَّهُ يَبْكِي عَلَى الْمُؤْمِنِ مَوَاضِعُ صَلَاتِهِ وَمَصَاعِدُ عَمَلِهِ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ أَيْ: مُمْهَلِينَ إِلَى وَقْتٍ آخَرَ بَلْ عُوجِلُوا بِالْعُقُوبَةِ لِفَرْطِ كُفْرِهِمْ وَشِدَّةِ عِنَادِهِمْ وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ أَيْ خَلَّصْنَاهُمْ بِإِهْلَاكِ عَدُوِّهِمْ مِمَّا كَانُوا فيه من الاستبعاد، وَقَتْلِ الْأَبْنَاءِ وَاسْتِحْيَاءِ النِّسَاءِ وَتَكْلِيفِهِمْ لِلْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ، وَقَوْلُهُ: مِنْ فِرْعَوْنَ بَدَلٌ مِنَ الْعَذَابِ إِمَّا عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: مِنْ عَذَابِ فِرْعَوْنَ، وَإِمَّا عَلَى الْمُبَالَغَةِ كَأَنَّهُ نَفْسُ الْعَذَابِ فَأُبْدِلَ مِنْهُ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الْعَذَابِ تَقْدِيرُهُ صَادِرًا مِنْ فِرْعَوْنَ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ:«مَنْ فِرْعَوْنُ» بِفَتْحِ الْمِيمِ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ التَّحْقِيرِيِّ كَمَا يُقَالُ لِمَنِ افْتَخَرَ بِحَسَبِهِ أَوْ نَسَبِهِ: مَنْ أَنْتَ؟ ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ حَالَهُ فَقَالَ: إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ أَيْ: عَالِيًا فِي التَّكَبُّرِ وَالتَّجَبُّرِ مِنَ الْمُسْرِفِينَ فِي الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَارْتِكَابِ مَعَاصِيهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ:
إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ «2» وَلَمَّا بَيَّنَ سُبْحَانَهُ كَيْفِيَّةَ دَفْعِهِ لِلضُّرِّ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَيَّنَ مَا أَكْرَمَهُمْ بِهِ فَقَالَ:
وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ أَيِ: اخْتَارَهُمُ اللَّهُ عَلَى عَالَمِي زَمَانِهِمْ عَلَى عِلْمٍ مِنْهُ بِاسْتِحْقَاقِهِمْ لِذَلِكَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ اخْتَارَهُمْ عَلَى جَمِيعِ الْعَالَمِينَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي هَذِهِ الأمة كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ «3» وَقِيلَ: عَلَى كُلِّ الْعَالَمِينَ لِكَثْرَةِ الْأَنْبِيَاءِ فِيهِمْ، ومحل على علم: النصب على الحال من فَاعِلِ اخْتَرْنَاهُمْ، أَيْ:
حَالُ كَوْنِ اخْتِيَارِنَا لَهُمْ على علم منا، وعلى العالمين متعلق باخترناهم وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ أَيْ: مُعْجِزَاتِ مُوسَى مَا فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ أَيِ: اخْتِبَارٌ ظَاهِرٌ، وَامْتِحَانٌ وَاضِحٌ لِنَنْظُرَ كَيْفَ يَعْمَلُونَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْآيَاتُ إِنْجَاؤُهُمْ مِنَ الْغَرَقِ، وَفَلْقُ الْبَحْرِ لَهُمْ، وَتَظْلِيلُ الْغَمَامِ عَلَيْهِمْ، وَإِنْزَالُ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى لَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْآيَاتُ هِيَ الشَّرُّ الَّذِي كَفَّهُمْ عَنْهُ، وَالْخَيْرُ الَّذِي أَمَرَهُمْ بِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: الْبَلَاءُ الْمُبِينُ: النِّعْمَةُ الظَّاهِرَةُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً «4» وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ:
فأبلاهما خير البلاء الذي يبلو
(1) . الأعراف: 137.
(2)
. القصص: 4.
(3)
. آل عمران: 110. [.....]
(4)
. الأنفال: 17.
وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ هؤُلاءِ إِلَى كُفَّارِ قُرَيْشٍ، لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيهِمْ، وَقِصَّةُ فِرْعَوْنَ مَسُوقَةٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَى اسْتِوَائِهِمْ فِي الْإِصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى أَيْ: مَا هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى الَّتِي نَمُوتُهَا فِي الدُّنْيَا وَلَا حَيَاةَ بَعْدَهَا وَلَا بَعْثَ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ أَيْ: بِمَبْعُوثِينَ، وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ قَصْدٌ إِلَى إِثْبَاتِ مَوْتَةٍ أُخْرَى، بَلِ الْمُرَادُ مَا الْعَاقِبَةُ وَنِهَايَةُ الْأَمْرِ إِلَّا الْمَوْتَةُ الْأُولَى الْمُزِيلَةُ لِلْحَيَاةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، قَالَ الرَّازِيُّ: الْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يَأْتِينَا مِنَ الْأَحْوَالِ الشَّدِيدَةِ إِلَّا الْمَوْتَةُ الْأُولَى، ثُمَّ أَوْرَدُوا عَلَى مَنْ وَعَدَهُمْ بِالْبَعْثِ مَا ظَنُّوهُ دَلِيلًا، وَهُوَ حُجَّةٌ دَاحِضَةٌ، فَقَالُوا فَأْتُوا بِآبائِنا أَيْ: أَرْجِعُوهُمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ إِلَى الدُّنْيَا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فِيمَا تَقُولُونَهُ وَتُخْبِرُونَا بِهِ مِنَ الْبَعْثِ. ثُمَّ رَدَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ أَيْ: أَهُمْ خَيْرٌ فِي الْقُوَّةِ وَالْمَنَعَةِ: أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ الْحِمْيَرِيِّ الَّذِي دَارَ فِي الدُّنْيَا بِجُيُوشِهِ، وَغَلَبَ أَهْلَهَا وَقَهَرَهُمْ، وَفِيهِ وَعِيدٌ شَدِيدٌ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْمِ تُبَّعٍ جَمِيعُ أَتْبَاعِهِ لَا وَاحِدٌ بِعَيْنِهِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: فَأْتُوا بِآبائِنا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وحده كقوله: رَبِّ ارْجِعُونِ «1» وَالْأَوْلَى أَنَّهُ خِطَابٌ لَهُ وَلِأَتْبَاعِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالمراد ب الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ عَادٌ، وَثَمُودُ، وَنَحْوُهُمْ، وَقَوْلُهُ: أَهْلَكْناهُمْ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ حَالِهِمْ وَعَاقِبَةِ أَمْرِهِمْ، وَجُمْلَةُ: إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ تَعْلِيلٌ لِإِهْلَاكِهِمْ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ أَهْلَكَ هَؤُلَاءِ بِسَبَبِ كَوْنِهِمْ مُجْرِمِينَ، فَإِهْلَاكُهُ لِمَنْ هُوَ دُونَهُمْ بِسَبَبِ كَوْنِهِ مُجْرِمًا مَعَ ضَعْفِهِ وَقُصُورِ قُدْرَتِهِ بِالْأَوْلَى.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ فَتَنَّا قَالَ: ابْتَلَيْنَا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ قَالَ: هُوَ مُوسَى أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ أَرْسِلُوا مَعِي بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ قَالَ: لَا تَعْثَوْا إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ قَالَ: بِعُذْرٍ مُبِينٍ وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ قَالَ: بِالْحِجَارَةِ وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ أَيْ خَلُّوا سَبِيلِي. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ قَالَ: يَقُولُ اتَّبِعُونِي إِلَى مَا أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ، وَفِي قَوْلِهِ: وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ قَالَ: لَا تَفْتَرُوا وَفِي قَوْلِهِ: أَنْ تَرْجُمُونِ قَالَ: تَشْتُمُونِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: رَهْواً قَالَ: سَمْتًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا رَهْواً قَالَ: كهيئته وامض. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ سَأَلَ كَعْبًا عَنْ قَوْلِهِ: وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً قَالَ: طَرِيقًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا قَالَ: الرَّهْوُ أَنْ يُتْرَكَ كَمَا كَانَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَمَقامٍ كَرِيمٍ قَالَ: الْمَنَابِرُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ جَابِرٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَأَبُو يَعْلَى، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، وَالْخَطِيبُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا مِنْ عَبْدٍ إِلَّا وَلَهُ بَابَانِ: بَابٌ يَصْعَدُ مِنْهُ عَمَلُهُ، وَبَابٌ يَنْزِلُ مِنْهُ رِزْقُهُ، فَإِذَا مَاتَ فَقَدَاهُ وَبَكَيَا عَلَيْهِ، وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَذَكَرَ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْمَلُونَ عَلَى الْأَرْضِ عَمَلًا صَالِحًا تَبْكِي عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَصْعَدْ لَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ مِنْ كَلَامِهِمْ، وَلَا مِنْ عَمَلِهِمْ كَلَامٌ صَالِحٌ فَتَفْقِدَهُمْ فَتَبْكِيَ عَلَيْهِمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ
(1) . المؤمنون: 99.