الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
38 - باب {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ} إِلَى: {قَرِيبٌ} [البقرة: 214]
4524
- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ أَبِى مُلَيْكَةَ يَقُولُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} [يوسف: 110] خَفِيفَةً، ذَهَبَ بِهَا هُنَاكَ، وَتَلَا {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]. فَلَقِيتُ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ. تحفة 5794
4525 -
فَقَالَ قَالَتْ عَائِشَةُ مَعَاذَ اللَّهِ، وَاللَّهِ مَا وَعَدَ اللَّهُ رَسُولَهُ مِنْ شَىْءٍ قَطُّ إِلَاّ عَلِمَ أَنَّهُ كَائِنٌ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ، وَلَكِنْ لَمْ يَزَلِ الْبَلَاءُ بِالرُّسُلِ حَتَّى خَافُوا أَنْ يَكُونَ مَنْ مَعَهُمْ يُكَذِّبُونَهُمْ، فَكَانَتْ تَقْرَؤُهَا {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} [يوسف: 110] مُثَقَّلَةً. أطرافه 3389، 4695، 4696 - تحفة 16353
قوله: ({وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} [يوسف: 110]) فيه قراءتان: مُخَفَّفة، ومُثَقَّلة، وترجمةُ الأُولى:"اون بيغمبرون سى جهونت بولا كيا"، وترجمةُ الثانية:"وه تكذيب كئى كئى"، ولا إشْكالَ في القراءةِ الثانيةِ، لأنَّ الرُّسُلَ لما استبطأ عنهم النَّصْر ظَنُّوا أنَّ أُممهم تُكذِّبُهم. أما الكافرون فظاهِرٌ، وأما المؤمنون، فلا يُؤمن عليهم أيضًا أن يَنْقلِبوا على أعقابهم، نظرًا إلى تَخلُّف النَّصْر. ثُم إنَّ تَوْجِيهَ القراءةِ المُثقَّلة على مُخْتارِ عائشةَ بأنَّ الرُّسُلَ خَافُوا أن يُكذِّب الكُفَّارُ المؤمنينَ. فَظَنُّ التكذيبِ في حَقِّ المؤمنين، أما الأنبياءُ عليهم السلام، فكان الكفار قد كَذَّبوهم، فلا معنى للظنِّ في حَقِّهم.
هذا في المُثقَّلة، أما المُخَفّفة ففيها إشكالٌ، فإنَّ الرُّسُل كانوا على عِلْم منهم أنَّ ما أخبرَ به رَبُّهم كائنٌ لا محالة، ولا يتأتَّى في حَقِّهم ظَنُّ التكذيب.
قلتُ: ومَنْ ظَنَّ أن التشويشَ لا يَجْتمع مع العِلْم، فقد رَكَّب مُقدّمةً باطلة. فإِنَّ العِلم قد يطرأ عليه التشويشُ أيضًا بالنَّظَر إلى العوارض، كالتجاذب بين الأَسبابِ العارِضة، ومَنْ لا يُحِيط بالغيبِ قد يَعْرِضُ له نَحْوُ هذا التشويش، لأنه وإنْ كان يَثِقُ بالوَعْد، لكنه لما لم تأته تفاصيلُه بعد، لا تزالُ الاحتمالاتُ تشوِّشُ قَلْبه، فتلك من لوازمِ البشريَّة. فكأنَّ الرُّسُل لما استبطأ عنهم النَّصْر عَرَاهم من ضَعْف بُنْيتهم ما يَعْرُو للخائف عند ذلك، وحاشاهم أن يَعْزُوا التكذيبَ إلى الوَحْي، ولكنَّ تَرَقُّبهم النَّصْرَ، واستعجالَهم بإِيفاء الوَعْد، واضطرابهم إلى إنجازِه، نَزَل مَنْزلةَ التكذيب، تَلَقِّيًا للمخاطَب، بما لا يَتَرَقَّب، فكأنَّ اللَّهَ تعالى عظم اضطرابَهم، وجَعَله كالتكذيبِ في حَقِّهم. وهذا كما قال تعالى:{فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء: 87] وما أَقْرَب الظنَّان، فهل ترى يُونُس عليه الصلاة والسلام يَتقدَّم إلى مِثْل هذا الظنِّ؟ فهذه ونَحْوُها، ودونَها، وفَوْقَها معاتباتٌ
ومناقشاتٌ، تجري مع الأنبياءِ عليهم السلام، وخواصِّ عبادِه، وذلك لغايةِ لُطْفه بهم، وقُرْبهم منه، ومن باب التهويل:{وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ} [طه: 121]
(1)
.
ثُم إنَّ ههنا سِرًّا، وهو أن تلك كلمةٌ صدرت من غايةِ لُطْفه، ونهايةِ محبَّته، وفَرْط عَلاقَتِه مع الرُّسُل، فإِنَّ الإِلزامَ لا يُعْطَى إلَّا لِمَنْ يُرْجى منه خِلافُه، أما مَنْ لا اعتمادَ لك عليه، فأَنْت لا تُلْقي له بالًا، ولا تُعَنِّفه، ولا تَلُومُه، ولا تعاتِبُه بشيءٍ، ولكنْ مَنْ كان صاحِبَ سِرِّك، وصاحِبَ نَجْواك في جهرك وسِرِّك، فأنت لا تغفر له أدنى غَفْلةٍ عنك، وتؤاخِذُه بالنَّقِير والقِطْمِير. ولو كانت تلك الكلمةُ صَدَرت من البَشَر، لقلت: إنَّه يُظْهِرُ مَلَالَه، ويَبُثُّ قَلَقَه من حبيبه، ويلزمه أنك اضطربت، واستبطأت نَصْري، كأنك زعمت أنني كذبتك، وكنت أَرْجُو منك أن لا يَظْهَر عليك شيءٌ من ذلك، ولو بَلَغتِ القلوبُ الحناجِرَ، أو بلغت الحُلْقُوم، ولكن المَلَال والحُزْن مما لا يناسِبُ عَزْوه إلى الله تعالى، فلا أقول: إنه أَظْهَر مَلَاله، بل أقول: إنَّ فيه إظهارًا بِلُطْفه بهم، واستنكارًا لاستبطائهم النَّصْر، وإلزامًا بكونه غيرَ متوقَّع منهم. ثُم إنَّ الله تعالى قد احتاط في ذلك بكلِّ ما أمكن، ولذا ألف الفاعل، ولم يَعْزُ ظَنَّ تكذِيبهم إلى نفسه، وإنْ أراده، ولكن طريقَ البيانِ في نحوه ليس إلَّا البِناء للمَفْعُول، وقال صاحِب المَثْنَوي:
*"إين قراءت خوان كه تخفيف كذب
…
اين بودكه خويش داند محتجب"
فالظَّنُّ حينئذٍ بمعنى الحُكْم على اللَّهِ بما وَقَع في نَفْسه.
ثُمَّ إنَّ الزَّمخشَريّ أَخَذ الظنَّ بمعنى الوَسْوَسة، تنزيهًا لجانب ابن عَبَّاس، فإِنَّه كيف يتحمَّل الظنَّ به في حقِّ الرُّسُل؟ قلتُ: الظنُّ لم يَثْبت في اللغةِ بمعنى الوسوسة، بل يقال
(1)
قلتُ: قال الخَطَّابي: لا شَكَّ أن ابنَ عَبَّاس لا يُجِيزُ على الرُّسُل أنها تكذِّبُ بالوَحْي، ولا يَشُكُّ في صِدْقِ المخبَرِ، فيُحْملُ كلامُه على أنه أرادَ أنهم لِطول البلاءِ عليهم، وإبطاءِ النَّصْر عنهم، وشِدّة استنجاز ما وعدوا به، توهموا أن الذي جاءهم من الوَحْي كان حُسبانًا من أنْفُسهم، وظَنُّوا عليها الغَلَطَ في تَلقِّي ما ورد عليهم من ذلك، فيكون الذي بُني له الفِعْل أَنْفُسَهم، لا الآتي بالوَحْي. والمرادُ بالكَذِب الغَلَطُ، لا حقيقةُ الكَذِب، كما يقولُ القائل، كَذَّبَتْك نَفْسُه. اهـ. قلتُ: والصوابُ في تقريرِ ابن عَبَّاس ما أخرجه الحافظ عن ابن عباس نَفسه، قال: فعند النَّسائي من طريقٍ أُخْرى عن سعيدِ بنِ جُبَير عن ابنِ عَباس في قوله: {قَدْ كُذِبُوا} ، قال: استيأس الرُّسُل من إيمانِ قَوْمهم، وظَنَّ قَوْمُهم أنَّ الرُّسُل قد كذبوهم. وإسناده حَسَن. فليكن هو المعتمد في تأويلِ ما جاء عن ابن عباس في ذلك، وهو أعلم بمرادِ نَفْسه مِن غيره، إلى آخر ما ذكره. ثُم إنِّي أستغفِرُ الله لِجُرأتي على مِثل الخَطَّابي رحمه الله، وأعلى درَجَتَه في عِلِّيينَ، غيرَ أنه حملتني على ذلك فتنةٌ ابتليت بها، فَأَرَدْتُ أن أحقِّق الحقَّ عندي، لئلا يقعَ أَحَدٌ فى ضلالة، فيقع في هُوَّةٍ من النار، والعياذ بالله: وقد بَسَط الحافِظ الكلام في "سورة يوسف" فراجعه. ثُم إنَّ مْا ذَكَره الخطَّابي راجع إلى ما ذكره الشيخُ، لولا فيه حديث غلط الحسبان، مع أَنَّ له وَجْهًا، فإِنَّ التوهُّم غيرُ التحقق، والتوهم يَحْدُثُ في الأمورِ المحقَّقة عند تجاذُب الأَطْراف، غيرَ أَنَّه لا يَفْهمُه كل أحَدٍ، وفي بلادِنا شياطينُ في جُسْمان الإِنْس، يتمسّكُون بالشُّبهات، فلذا عَدَلْتُ عنه.