الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
5 - باب {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} إِلَى {بِهِ عَلِيمٌ} [آل عمران: 92]
4554 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِى مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى طَلْحَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ - رضى الله عنه - يَقُولُ كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ أَنْصَارِىٍّ بِالْمَدِينَةِ نَخْلاً، وَكَانَ أَحَبَّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءٍ، وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ، فَلَمَّا أُنْزِلَتْ {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} قَامَ أَبُو طَلْحَةَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِى إِلَىَّ بَيْرُحَاءٍ وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ، أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «بَخْ، ذَلِكَ مَالٌ رَايِحٌ، ذَلِكَ مَالٌ رَايِحٌ، وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ، وَإِنِّى أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِى الأَقْرَبِينَ» . قَالَ أَبُو طَلْحَةَ أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِى أَقَارِبِهِ وَبَنِى عَمِّهِ.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ وَرَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ «ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ» .
حَدَّثَنِى يَحْيَى بْنُ يَحْيَى قَالَ قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ «مَالٌ رَايِحٌ» . أطرافه 1461، 2318، 2752، 2758، 2769، 4555، 5611 - تحفة 204
4555 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِىُّ قَالَ حَدَّثَنِى أَبِى عَنْ ثُمَامَةَ عَنْ أَنَسٍ - رضى الله عنه - قَالَ فَجَعَلَهَا لِحَسَّانَ وَأُبِىٍّ، وَأَنَا أَقْرَبُ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَجْعَلْ لِى مِنْهَا شَيْئًا. أطرافه 1461، 2318، 2752، 2758، 2769، 4554، 5611 - تحفة 510
قوله: (حدَّثني يَحْيَى بن يَحْيى) قال القَسْطلَّاني: هو النَّيْسابوري.
6 - باب {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 93]
4556 -
حَدَّثَنِى إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا أَبُو ضَمْرَةَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - أَنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إِلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم بِرَجُلٍ مِنْهُمْ وَامْرَأَةٍ قَدْ زَنَيَا، فَقَالَ لَهُمْ «كَيْفَ تَفْعَلُونَ بِمَنْ زَنَى مِنْكُمْ» . قَالُوا نُحَمِّمُهُمَا وَنَضْرِبُهُمَا. فَقَالَ «لَا تَجِدُونَ فِى التَّوْرَاةِ الرَّجْمَ» . فَقَالُوا لَا نَجِدُ فِيهَا شَيْئًا. فَقَالَ لَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ كَذَبْتُمْ {فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فَوَضَعَ مِدْرَاسُهَا الَّذِى يُدَرِّسُهَا مِنْهُمْ كَفَّهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ، فَطَفِقَ يَقْرَأُ مَا دُونَ يَدِهِ وَمَا وَرَاءَهَا، وَلَا يَقْرَأُ آيَةَ الرَّجْمِ، فَنَزَعَ يَدَهُ عَنْ آيَةِ الرَّجْمِ فَقَالَ مَا هَذِهِ فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَالُوا هِىَ آيَةُ الرَّجْمِ. فَأَمَرَ بِهِمَا فَرُجِمَا قَرِيبًا مِنْ حَيْثُ مَوْضِعُ الْجَنَائِزِ عِنْدَ الْمَسْجِدِ، فَرَأَيْتُ صَاحِبَهَا يَجْنَأُ عَلَيْهَا يَقِيهَا الْحِجَارَةَ. أطرافه 1329، 3635، 6819، 6841، 7332، 7543 - تحفة 8458 - 47/ 6
نزلت في واقعةِ زِنا يهوديَ
(1)
، ولَعلَّها في السَّنة الرابعة. ثُم قيل: إنَّ الذين جاءوه كانوا يهودَ فَدَك. وقيل: يهود خَيْبر، تشاوَرُوا فيما بينهم أَنْ يرفعوا أَمْرَه إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم لِما كانوا يَرَوْن أَنَّ في دِينه اليُسْر، وكان ذلك مِن حَمقِهم، حيث أرادوا أن يسترخِصُوا برُخَص الدِّين، قبل أن يدخلُوا فيه، ولم يعلموا أنه يتولَّى قاره، مَنْ يتولَّى حاره.
4556 -
قوله: (فرأَيْتُ صاحِبَها يَجْنأُ عَلَيْها) وغَرَضُ الراوي التنبيهُ على إصابةِ رأي النبيِّ صلى الله عليه وسلم في حَقِّهم، فإِنَّ وقايَته لها عن الحجارة، وحنوه عليها، يدلُّ على صحة أَمْرِ الزِّنا. ثُم إنَّ في الحديثِ معركةً للقوم، وهي أنَّ الإِسلام شرط عند إمامِنا، فكيف رَجَم النبيُّ صلى الله عليه وسلم اليهوديَّ واليهوديةَ، مع كونِهما كافرَين؟ وذهب الشافعيُّ
(1)
نقل في "المعتصر" أولًا قِصَّة زِنا اليهودي واليهودية، وذكر أنَّ الرَّجل الذين جاؤوا به من عُلمائهم كان ابن صوريا، فذكر الحديث على خلاف ما في عامة الروايات شيئًا. ثُم قال: قيل: إنها مُحْكمة، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم إنما رَجَم اليهوديَّ باختيارِه أن يَرجُمه، وكان له أَن لا يرجمه، لقوله:{فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} [النساء: 63] وخالفهم آخرُون، فقالوا: هي منسوخة لقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 49] رُوي عن ابن عباس، قال: نُسِخت من المائدة آيتانِ: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42] فردهم إلى أحكامِهم، فنزلت {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} قال: فأَمَر رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أن يَحْكُم بينهم على كتابِنا، وحُكْم مَنْ بعده صلى الله عليه وسلم في ذلك، كَحُكْم النبيِّ صلى الله عليه وسلم. فإن قلنا: بأنَّها منسوخةٌ، فالحُكْم بينهم مُفْتَرَضٌ واجِب، وإنْ لم نقل بذلك، فالحُكْم بينهم هو الأَوْلى مِن الإِعراض عنهم، لأنه إذا حَكَم بينهم، فقد سَلِم على القَوْلين، لأنه فَعَل الواجبَ، أو الجائز، وإنْ لم يحكم بينهم، فقد ترك فَرْضًا واجِبًا عليه، على أَحَد القوْلين، فالأوْلى به أن يَفْعل. وقوله تعالى:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ} يحتمل معناه: إنْ تحاكَموا إليك، ويحتمل: إنْ وَقَفْت على ما يُوجب لك الحُكْم عليه، وإنْ لم يتحاكموا إليك. ثُم أَخْرج حديثًا يدلُّ على أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم يُحَاكِم بينهم من غير أنْ يتحاكَمُوا إليه. ثم قال: ومَنْ ذهب إلى تَرْكِ الرَّجْم في أَهْل الذمَّة، وهم أبو حنيفةَ، والثَّوْرِي، وزُفَر، وأبو يُوسُف، ومحمد رحمهم الله تعالى، قال: إنَّ الحُكْم فى التوراة الرَّجْم، أحصن، أو لم يُحصن، على ما يدل عليه ظاهِرُ الآثار، مِن غيرِ اشتراط الإِحصان، وكان ذلك قَبْل أن يُنزِل اللهُ تعالى في كتابه في حَدِّ الزِّنا ما أنزل من الإِمساك في البيوت، والإِيذاء، ثُم نسخه بما فى سُورةِ النُّور، وبقوله صلى الله عليه وسلم:"خُذُوا عنى، قد جعل اللهُ لهنَّ سبيلًا: البِكْر تُجْلد، وتُنْفى؛ والثَّيبُ تُجْلَد، وتُرجم"، فَبيَّن حَدَّ كلِّ صِنْف. وقال عبدُ الله بنُ عمر: مَنْ أَشرك بالله، فليس بِمُحْصن، بعد أنْ عَلِم بِرَجْم رسولِ الله صلى الله عليه وسلم مَنْ كان رَجَمه مِن اليهود، وإذا لم يكونوا مُحْصَنين، لم يكونوا مَرْجُومين. وذكر عن مالك أنَّ النَّصْراني إذا أَسْلم، ثُم زَنَى، وهو متزوِّجٌ في النصرانيةِ، لا يكونُ مُحْصَنًا حتى يطأَ زَوْجته بعد الإِسلام، وإذا كان كذلك دلَّ على أنَّ مِن أسبابِ الإِحصان التي يجب بها الرَّجْمُ في الزنا الإِسلام. اهـ مختصرًا؛ وفيه رَوى ابنُ معقل بن مقرن سأله ابنُ مسعود فقال: أَمَتي زَنَت، قال: اجلدها خمسينَ، قال: إنها لم تُحْصَن، قال: أليستْ مُسْلِمة؟ قال: بلى، قال: فإِسلامُها إحصانُها، اهـ: قلتُ: ونحوه رُوي عن ابن مسعود في "مسند" الإِمام للخَوارِزْمي، وفيه عن إبراهيم، قال: لا يُحْصَن المسلمُ باليهوديةِ، ولا النصرانيةِ، ولا يُحْصن إلَّا بالمسلمة. اهـ: قال محمد: وبه نأخُذُ، وهو قولُ أبي حنيفةَ، وفيه عنه الذي يتزوَّج في الشِّرْك، ويدخُل بامرأته، ثم أسلم بعد ذلك، ثُم يَزْني، أنه لا يُرْجم حتى يُحْصَن بامرأةٍ مُسْلمةٍ. اهـ.
إلى أنَّ الكافر أيضًا يُرْجم، وفيه تفصيلُ عند المالكية؛ وبالجملة الحديثُ وارِدٌ على الحنفية.
ثُم إنَّ ابن أبي شَيْبَة أفرد كتابًا سَمَّاه «كتاب الردّ على أبي حنيفة» وعدَّد فيه مسائلَ الحنفيةِ التي تُناقِضُ الأحاديثَ عنده، وبلغ عددُها زهاءَ مئة وأربعة، وبدأ كتابه بهذا الحديث. والعجب أنه لم يَعُدَّ فيه مسألةَ الجهر بآمين، والإِخفاء، وتَرْك الرَّفْع، ولا مسألةَ تَرْك الفاتحةِ خَلفَ الإِمام. وقد أجاب العلامةُ القاسم بنُ قُطْلُوبغا عن كتابه، ولكنه مفقود، لا يوجد ثُمَّ إنَّ الطحاوي أجاب عن حديثِ الباب، وأصاب. وحاصله أنَّ شَرْط الإِحصان في شَرْعنا نَزَل بعد هذه القضيةِ، فالقضايا التي كانت قَبْلها لا ترد عليها، وكان رَجْمُه إذ ذاك بِحُكْم التوراة. ولم يكن فيه شَرْطُ الإِحصان.
قلتُ: ويُعلم من «فتح الباري» أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يعملُ بشريعةِ التوراةِ، فيما لم ينزل فيه شَرْعُه قَبْل الفَتْح، ثُم خالف بعده. وإنما أخذت هذا التاريخ من «فتح الباري» ، وإلَّا فأَصْل الحديث موجودٌ في البخاري أيضًا. ثُم هل يسمَّى ذلك عَملًا بالشريعة الموسوية، أَم عملًا بشريعتِه؟ فهذان اعتباران. فإن قلت: إنَّه إذا عَمِل به فقد صارت شريعتُه أيضًا، فيكون عَملًا بشريعةِ نفسه، وإن اعتبرت أنَّ شَرْعه لما لم ينزل فيه بعد، وإنما عَمِل بالشريعةِ الموسوية، يقال: إنَّه عَمِل بشريعتهم، ولا حَجْر في كلا الاعتبارين، والأَمْرُ فيه سَهْلٌ.
واعلم أنَّ القرآن قد هَدي في تلك الآياتِ إلى أَمْرٍ هامّ، كادَت نَفْس النبيِّ أنْ تتردَّد فيه، وهو أنَّ الكفَّار إنْ ترافعوا إليه في أمْر، فماذا ينبغي له أنْ يفعل؟ إما أن يَحْكم بشريعته، فهم لا يلتزمُونَها، أو يُعْرِض عنهم، ولا يَحْكُم بشيءٍ، فذلك أيضًا غيرُ مناسِبٍ، وإمَّا أن يَحْكُم بِشَرْعهم، فهو أيضًا مَحَلُّ تردُّد، فعلَّمه القرآنُ أَنَّك بين خِيرَتَيْن: إنْ شِئت أنْ تُعْرض عنهم فأَعْرض، وإنْ أردت أن تَحْكُم بينهم فاحكم بما عندك، فإِن عَمِلوا به فبها، وإلَّا فالإِثْمُ عليهم.
ولنا أنْ نقولَ: إنَّ في إلزامِ شَرْعهم عليهم، وإغرائهم على العملِ به، إجراءَ شَرْعٍ سماويَ، وهو أَوْلى مِن إفناء حَقَ وإعدامه. ولذا لما جاءوا إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم ألزمهم بالتوراةِ، فاضطروا إلى العَمَلِ به، ولا رَيْب في أنه أَوْلى من أن لا يعملوا بِشَرْعهم، ولا بِشَرْعه صلى الله عليه وسلم فإِنَّ شَرْعهم أيضًا حقٌّ في الجملة، وإنْ نُسِخه بعد نزول شَرْعنا. وهذا إنْ سلَّمناه أنَّ القضية بعد نُزول شَرْعنا، وإلَّا فالأَمْر أَظْهر. ولذا قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم بعد الرجم: إنِّي أَحْييت حُكْمًا من الشريعة الموسوية
(1)
، على أنَّ اليهودِيَّيْن كانا مُحْصَنَينِ بِحُكْم
(1)
يقول العبد الضعيف: ولَفْظه في "الفتح" زاد في حديث أبي هريرة: فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "فإنِّي أَحْكُم بما في =
التوراةِ، فإِنَّهما لو كانا غَيْرَ مُحْصنَين لكانا باعتبار شَرْعِنا، ولكنهما لم يكونا لَيُقرّا بعدمِ إحصانهما من أَجْلِ شريعتنا، فإِذا ثبت إحصانُهما عند شَرْعِهما حلَّت بهما عقوبةُ الرجم.
وههنا وَجْهٌ آخَر أيضًا، وهو أَنَّه ناسب تنفيذ الرَّجْم لانعقادِ صورةِ المناظرة بينه صلى الله عليه وسلم وبينهم، فإِنَّهم كانوا يُنْكِرُون كَوْنَ الرَّجْم شريعتَهم، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَدَّعِيه، كالإِخبار بالغيبِ، فلما خرج في التوراة كما كان أخبر به، ناسب إجراؤه أيضًا، وإذن لا يكون رَجْمُه من باب تنفيذِ الحُكْم عليهم، بما في كتابهم، ولا من باب الحُكْم عليهم بِشَرْعه، بل يكون ذلك لداعيةِ المقام، فيقتصر على مَوْرِده، وإنْ شِئت جَمعت هذه الأعذارَ كلَّها، ولذا ذَكَرْت هذه الأُمورَ، لِتعلم أنَّ المقام قد احتفَّ بعوارِضَ شَتَّى، ولم يبق مُنْكَشِف الحال، فحينئذٍ جاز لنا التفصِّي عنه بِنَحْوٍ من المقال.
بقي إقامةُ البرهانِ على اشتراط الإِسلام في الإِحصان، فنقولُ: إنَّهُ رُوي عن عبد الله بن عمر: مَنْ أشرك بالله، فليس بِمُحْصَن. ورجالُه ثِقاتٌ، وإسنادُه قويٌّ
(1)
، إلَّا أنَّ الحافِظ مال إلى وَقْفه، وتصدَّى الحاكمُ إلى إثبَاتِ رَفْعه.
قلتُ: والذي يَحْكُم به الوجدانُ أنه مَوْقُوفٌ، لأنَّ مَذْهب ابنِ عمرَ عدمُ جواز المناكحةِ مع أهل الكتاب، على خلاف الجمهور، وقال: إنَّهم مُشْركون، وأيُّ شِرْك أعظمُ مِن ادِّعائهم أبناءَ للَّهِ تعالى. فكأَنَّ أهلَ الكتاب الذين يعتقدون بالبنوةِ وغيرِها كفارٌّ عنده، وليس أولئك مِن أهلِ الكتاب الذين أباح لنا القرآنُ مناكحتَهُم، لأنَّه شَرَط فيهم الإِحصانَ، وهؤلاء مُشْركون، لا يوجد فيهم شَرْطُ الإِحصان، وإذا انتفى الشَّرْط، انتقى المَشْروط. فلما عَلِمت من مذهبه ذلك، ظَنَنْت أنه لا يَبْعُد أن يكون: مَنْ أَشْرك بالله فليس بِمُحْصن، موقوفًا عليه.
ولنا ما أخرجه الشيخُ علاء الدين في «الجَوْهر النَّقي»
(2)
: أنَّ عمرو بنَ العاص أراد
= التوراة". وفي حديث البراء: "اللهم إني أَوَّل مَن أحيا أَمْرَك إذ أماتوه"
…
إلخ. قلتُ: إلَّا أنَّ الحافظ ضعَّفه، وقال: إنَّ في سنده رَجُلًا مُبْهمًا. ثُم إنَّ الحافظ وَعَد في سورةِ آل عمران أنه يتكلم على قوله: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ} [آل عمران: 93] في الحُدود، فراجعته، فوجدت في كتاب المحارِبين من أهل الكُفْر والردَّة تكلم فيه على قِصْة رَجْم اليهودِيَّين مبسوطًا، فراجعه في باب: أحكام أهل الذِّمة، وإحصانهم إذا زنوا، ورُفِعوا إلى الإِمام.
(1)
حَكى البيهقيُّ روايةَ ابنِ عمرَ من وجهين، ثُم حكى عن الدارقُطْني أن الصواب أنهما موقوفانِ، فجاء العلامة المارديني، وأجاب عن إيرادِه، وقال: إذا رَفَع الثِّقةُ حديثًا لا يضرُّه وَقْفُ مَنْ وَقَفه، فظهر أن الصواب في الحديثين الرَّفْعُ. اهـ "الجَوْهر النقي" مُلخَّصًا. قلتُ: وقد أخرجه الشيخُ ابنُ الهُمَام أيضًا عن "مُسْند" إسحاق بن رَاهُويه.
(2)
قلتُ: ولم أجده في "الجَوْهر النَّقي" فلعله مِن سقط قلمي، أو خطأ بصري. أما مذهبُ ابنِ عمر فسيجيء عند البخاريّ في باب قول الله تعالى:{وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] وفيه أنه سُئِل عن نِكاح النصرانية، أو اليهودية، فقال: إن اللهَ حرَّم المشركاتِ، وله أن يُجيب عن الآيةِ أن الله سبحانه جَوَّز نِكاحَ الكتابيات بِقَيْد الإِحصان، والمُشْركة ليست بِمُحْصنة. وسيجيء تفصيلُه في صُلْب الصفحة إن شاء الله تعالى.
أن يتزوَّج كتابيةً، فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم «تزوَّجْها، ولكنها لا تُحْصِنك» . وإسنادُه حسن، وفيه عبدُ الباقي بن قَانِع من الحُفَّاظ، شيخٌ للدارقطني، والحاكم، وله «مسند» ، و «تاريخ» فقوله:«إنَّها لا تُحْصِنُك» ، إنما يَصِح إذا لم تكن مُحْصَنة هي بِنَفْسها، لاشْتراط إحصانِ الزَّوجين في الرَّجم. وقد مرَّ معنا أنه لا بدَّ من النظر في معنى الإِحصان، فقد أَخَذه القرآنُ أيضًا، ولكنَّ الفقهاء جَزَّءوه، فجعلوا في الرَّجم غيرَ ما اعتبروه في القَذْف. فلينظر فيه أنه هل للفقهاءِ حقُّ في تجزئةِ لَفْظ القرآنِ، وقد وضع له السَّرخْسي فَصْلًا مُستقلاًّ في «المبسوط» فليراجع.
ثم إنَّ هذه الآياتِ في باب الرجم، ولكنَّ القرآنَ لم يصرِّح به فيه، وكذا لم يُصرَّح به في سورةِ النُّور. وقد نَقَل الرَّازي عن الخوارج أنهم يُنْكرون الرَّجْم، ويتشبَّثُون بأنَّ القرآن لم يَذْكره في مَوْضعِ، فتفاقم الأَمْرُ، لأنه لا ينبغي للقرآنِ أن يكون تعبيرُه بحيث تَتغيَّرُ المسألةُ من عمومه، وإطلاقه، فإِنَّه كتابُ لا يزيغ به إلَّا هؤلاء، فيختار من التعبيرات أعلاها، بحيث لا يَبْقَى فيها للجانِب المخالِف مَساغٌ، وحينئذ لا بدَّ لِتَرْكه التصريحَ بالرَّجْم من نُكتةٍ.
فاعلم أنَّ نَظْم القرآنِ إذا كان يُفْهم أنَّ تلك الآيةَ نزلت في قضيةِ كذا، ثُم لم تكن تل القضيةُ مذكورةً فيها، فالذي تَحْكُم به شريعةُ الإِنصاف أنْ يكون هذا الحديثُ الذي فيه تلك القِصَّةُ في حُكْم القرآنِ، لأنَّ القرآنَ بَنَى نَظْمَه عليه، وأشار من عبارتِه إليه، فلا بدَّ من اعتباره، وحينئذٍ لا حاجةَ إلى تصريحه بالرَّجْمِ، إذ كَفَى عنه الحديثُ، فأَغْنَى عن ذكره، وسيجيء في «أبواب الحدود» بعض كلام.
ثُم اعلم أنَّ الله تعالى ذَكَر في «المائدة» في تلك القِصَّةَ بَعْضَ أوصافهم، لا بأس أن نتعرَّض إليها شيئًا، فقال:{يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} [المائدة: 41]، والمرادُ منه التبديلُ في المراد، مع إبقاء الكلماتِ على حالها، وهذا بعينِه يركبه لعين القاديان، فيقول: نُؤمن بلفظِ خاتَم النبيِّين، ثُم الوَقِح يدَّعِي النبوة بتغييرِ مرادِه، وتحريف الكَلِم من بَعْد مواضعه. ثُم قال تعالى:{يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ} [المائدة: 41]
…
إلخ، يعني أنَّ حُكْم هذا الرسولِ إنْ كان حَسَب ما تريدُون، فَخُذُوه؛ فأشار إلى الواقعةِ في الخارج، وإنْ لم يَبْسُطها.
قوله: ({سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ}) استئناف.
قوله: ({أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ}) أي يأكلون الرَّشْوة في الحُكْم.
قوله: ({فَإِنْ جَاءُوكَ})
…
إلخ، وكان هذا مَوْضِعَ تردُّدٍ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم فهذاه القرآنُ إلى أمرين: أَيّهما شاء فَعَل.