الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول: المكتبة
تمهيد
الاسلام والعلم
…
الفصل الأول: المكتبة.
أولا: تمهيد.
1-
الإسلام والعلم:
{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} 1، كانت هذه أول آيات بينات نزلت على سيدنا محمد الرسول الأمين، تنبئه بالرسالة، وتحمله مسئولياتها، تصدع أول كلماتها بالقراءة وهي مفتاح التعلم، وتنطق آياتها بتعليم الله عز وجل لعباده ما لم يعلموا، وتذكر القلم وسيلة الكتابة وحفظ العلم ونقله، وآلة التعبير عما يجول في الخواطر. لقد استرعى الله عز وجل انتباهنا إلى أهمية العلم في أولى آيات القرآن الكريم لأنه سبيل التحرر من العبودية لغير الله، والطريق القويمة إلى معرفة الله عز وجل، ومعرفة شرعه وحسن تطبيقه والعمل به.
وحسبنا أن تنوه الآيات الأولى من دستور الإسلام بالعلم؛ لندرك اهتمام هذا الدين الحنيف به. ولو أنا تأملنا فيما ورد في القرآن الكريم من آيات تتناول العلم وفضله وسبله وما يلحق به، وما ورد في السنة في هذا الباب؛ فوقفنا على مكانة العلم في الإسلام، وأدركنا اهتمامه الكبير به من خلال الآيات التي تحث على التعلم، وتشجع طلاب العلم، وترفع من شأن العلماء، وتحارب الجهل وتطارده كما يطارد النور الظلام، تريد للإنسانية نور العلم والمعرفة بدلا من ظلام الجهل والغفلة، ومن ثم خاطب الإسلام العقول
1 العلق: 1-5
والقلوب. وأناط التكليف الشرعي بالعقل والبلوغ، وجعل العقل مدار التكليف؛ لأنه وسيلة فهم خطاب الشارع الكريم، وبه ميز الله عز وجل الإنسان عن سائر مخلوقاته؛ ولهذا نرى كثيرًا من الآيات تهيب بالإنسان أن يستعمل عقله ويتدبر ويتفكر، من هذا قوله عز وجل:{إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} 1، وقوله:{وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَاّ الْعَالِمُونَ} 2، وقوله:{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} 3، وقوله:{هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ} 4، وقوله:{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} 5.
وإنا لنجد دعوة القرآن الكريم إلى العلم والرفع من شأنه مبثوثة في كثير من آياته، قال تعالى:{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} 6، وقال:{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَاّ رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} 7.
ورفع مكانة العلماء في قوله عز وجل: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا
1 الزخرف: 3
2 العنكبوت: 43
3 البقرة: 266
4 الأنعام: 50
5 النحل: 44
6 الزمر: 9
7 الأنبياء: 7
مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} 1. وقال: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} 2، ونرى من خلال آيات القرآن الكريم ما للعلم والعلماء من أهمية كبيرة في الدعوة إلى الله، والتحرر من عبدوية ما سواه، من هذا جل قصص الأنبياء، والمحاورة الدقيقة الرائعة "بين مؤمن آل فرعون وفرعون وأعوانه" من قوله عز وجل: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ
…
} إلى قوله عز من قائل: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} 3، ومثلها المحاورة المنطقية والإقناع العميق في قوله عز وجل:{وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ، اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ، وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنقِذُونِ، إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ، إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ، قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ، بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} 4.
ونرى ما للعلم من منزلة عظيمة في قصة سليمان عليه السلام، وفي طلبه عرش بلقيس: {قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ
1 المجادلة: 11
2 يوسف: 76
3 غافر: 28-44. ونرى موقف أهل العلم -من قوم قارون- من محبي الدنيا حين يتمنون أن يكون لهم مثل ماله، فينبري بعض أهل العلم قائلين لهم: {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلَاّ الصَّابِرُونَ} . القصص 80.
4 يس: 20-27.
من مقامك وإني عليه لقوي أمين، قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي} 1.
ونرى من ركب هواه عقله في الدنيا ينطق بالحق حين يرى مصيره يوم القيامة: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} 2.
وقال عز من قائل: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} 3. وقال: {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} 4، وقال عز وجل: {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنَ وَاقٍ} 5.
خاطب الإسلام في الإنسان عقله وحواسه وجوارحه التي تنفذ به إلى المعرفة والتعلم؛ فاسترعى انتباهه إلى مفاتيح العلوم بالنظر والمشاهدة والتأمل والاعتبار، وغير ذلك مما يدفع به إلى ذروة المعرفة والوقوف على الحقيقة الكبرى لهذا الكون، ومن ثم لن نستغرب اهتمام الإسلام بالعلم هذا الاهتمام الكبير الذي لم نعهد له مثيلًا في الأديان السابقة والأنظمة القديمة والحديثة حتى في أرقى بلاد العالم
1 النمل: 39-40.
2 الملك: 10
3 فصلت: 53
4 الأعراف: 185
5 غافر: 21
في عصرنا الحاضر، ولا غرابة في هذه الحقيقة الواضحة في دين الإنسانية والخلود.
ولسنا هنا بصدد إحصاء وعرض آيات العلم والتعليم والعلماء التي وردت في القرآن الكريم؛ فإن المقام لا يتسع لذلك؛ وإنما الغاية أن نعرف مقام العلم في الإسلام معرفة سريعة موجزة، ولعل خير ما يبرز لنا هذا الجانب هو الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي كان الرائد الأول في تطبيق الإسلام.
1-
فقد حض الرسول عليه الصلاة والسلام على طلب العلم، وبين منزلة العلماء فقال:"من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين"1.
وجعل طلب العلم الشرعي الذي يحتاج إليه كل مسلم ليقيم أمور دينه فريضة على كل مسلم بنص قوله صلى الله عليه وسلم: "طلب العلم فريضة على كل مسلم"2. وغير ذلك من الأحاديث التي تحض على طلب العلم، ولم يقتصر حضه صلى الله عليه وسلم على طلب العلم الشرعي من خلال القرآن والسنة؛ بل دعا إلى تعلم كل ما يعود على المسلمين بالخير، أو يدفع عنهم الشر3.
2-
وكما حض عليه الصلاة والسلام على طلب العلم حض على
1 أخرجه الإمام أحمد عن أبي هريرة، مسند أحمد ج12 ص180 حديث 7193
2 أخرجه ابن ماجه عن أنس. سنن ابن ماجه، ج1 ص5
3 من هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أول ما قدم إلى المدينة أمر زيد بن ثابت الأنصاري أن يتعلم لغة يهود؛ لأنه لا يأمنهم على دينه. انظر المزيد من هذا في كتابنا "السنة قبل التدوين" ص38 و 39
تبليغه؛ فحدث الرسول صلى الله عليه وسلم في مواقف كثيرة، وكان يقول:"ليبلغ الشاهد الغائب، رب مبلغ أوعى من سامع" 1، "ونضر الله امرءًا سمع منا حديثًا فحفظه حتى يبلغه؛ فرب مبلغ أحفظ له من سامع" 2. وفي رواية أنس رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم:"نضر الله عبدًا سمع مقالتي فوعاها ثم بلغها عني؛ فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه". وكان يأمر الوفود التي تفد إليه بأن يحملوا الإسلام إلى من خلفهم ويعلموهم كما تعلموا من الرسول صلى الله عليه وسلم3. ومن الناحية التطبيقية لم يترك الرسول صلى الله عليه وسلم طريقة من طرق التعليم والتبليغ والإعلام في ذلك العصر إلا سلكها في سبيل نشر الإسلام وتبليغه؛ فكان يعقد مجالس العلم بنفسه4، ويبعث الرسل ويرسل الكتب، ويوجه
1 صحيح البخاري بحاشية السندي ج1 ص23
2 أخرجه الإمام أحمد عن ابن مسعود في مسنده ج6 ص96 حديث 4157
3 انظر فتح الباري ج1 ص194
4 فمنذ أول عهد الدعوة إلى الله عز وجل اتخذ الرسول صلى الله عليه وسلم دار الأرقم بن عبد مناف بن سعد المخزومي مركزا له ولأصحابه حين كانت الدعوة سرية، وكانت تسمى دار الإسلام فيلتف المسلمون الأوائل حول الرسول صلى الله عليه وسلم بعيدا عن المشركين يتلون كتاب الله، ويتعلمون مبادئ الإسلام، ويحفظون ما ينزل على الرسول صلى الله عليه وسلم من القرآن، ثم ما لبث أن أصبح منزل الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة محط أنظار المسلمين ومعهدهم الذي يتلقون فيه القرآن الكريم، وينهلون من الحديث الشريف على يدي الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثم أصبح المسجد فيما بعد - المكان المعهود للعلم والفتوى والقضاء،=
الأمراء والقضاة والمعلمين؛ ليفقهوا الناس بالدين، فكان صلى الله عليه وسلم خير مبلغ1.
3-
ومنزلة العلماء المعلمين من أرفع المنازل في الإسلام بنص قول الرسول عليه الصلاة والسلام: "العلماء ورثة الأنبياء" 2 ولم يرفعهم إلى هذه المنزلة الرفيعة إلا علمهم وعملهم به وتعليمهم وإرشادهم الأمة..3
= إلى جانب أداء العبادات فيه، وعرض الأمور العامة على المسلمين.
ومع هذا لم تكن ميادين التعليم محصورة في مجال معين؛ فلم يقتصر تبليغ الرسول صلى الله عليه وسلم على مكان محدود، ولا على مناسبة بعينها؛ فقد كان يستفتى في الطريق فيفتي ويسأل في المناسبات المختلفة فيجيب، يبلغ الإسلام في كل فرصة تسنح له، وفي كل مكان يتسع لذلك. وإلى جانب هذا كانت مجالسه العلمية كثيرة يتعهد فيها أصحابه بالتوجه والتعليم؛ فكان إذا جلس جلس إليه أصحابه حلقًا حلقًا، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:"إنما كانوا إذا صلوا الغداة قعدوا حلقًا حلقًا، يقرءون القرآن، ويتعلمون الفرائض والسنن". وإن تاريخ الصحابة وحياتهم العلمية لتشهد بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يضن على مسلم بالعلم؛ بل كان يكثر مجالسة أصحابه يعلمهم ويزكيهم. انظر بسط هذا في كتابي "أصول الحديث" ص 58 وما بعدها.
1 انظر كتابي "أصول الحديث" ص 54
2 مجمع الزوائد ص121 ج1
3 وقد طبق الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك عمليًا بسند تعليم الأمة والقضاء والفتوى إلى علماء الصحابة في الأمصار البعيدة؛ فأرسل أنس بن مالك ومعاذ بن جبل إلى اليمن، وعليًا رضي الله عنه في أكثر من بعث علمي، وأبا هريرة إلى البحرين وغيرهم من أكابر الصحابة. وواضح تقديم أهل العلم والاختصاص في جميع مجالات الحياة وميادينها؛ ففي =
من هنا حث الإسلام على احترام أهل العلم، على لسان محمد صلى الله عليه وسلم فقال: "ليس من أمتي من لم يجل كبيرنا، ويرحم
= الصلاة قال صلى الله عليه وسلم: "إذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم، وليؤمكم أكثركم قرآنا" وفي الفرائض قال: "تعلموا الفرائض وعلموها فإنها نصف العلم.." وكثيرًا ما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يذكر خصائص أصحابه ومزاياهم، من هذا قوله:"ارحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في دين الله عمر، وأكثرهم حياء - أو أصدقهم حياء - عثمان، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأعلمهم بما أنزل الله علي وأبي بن كعب، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح" مسند الطيالسي حديث 2096 وانظر مسند أحمد ج3 ص 184 وفي الحروب وقيادتها يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "نعم عبد الله خالد بن الوليد سيف من سيوف الله" أخرجه الإمام أحمد والترمزي عن أبي هريرة.
وعلى نهجه صلى الله عليه وسلم سلك أصحابه والتابعون في تقديم العلماء وأهل الاختصاص؛ فحين يكلف الصديق زيد بن ثابت بجمع القرآن الكريم يقول له: إنك شاب عاقل لا نتهمك وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتتبع القرآن فاجمعه. ويظهر هذا جليًا في اللجنة التي شكلها عثمان بن عفان رضي الله عنه لنسخ المصاحف وإرسالها إلى الأمصار، وإن صفحات التاريخ الإسلامي مليئة بأخبار أهل العلم ودورهم في تقدم أمتهم، ودفعها إلى ذرا المجد والكمال، وتحريرها من الظلم والطغيان، والوقوف في وجه أعدائها؛ فقد كان العلماء قلب الأمة النابض، ويدها القوية بالحق، ووجهها في الدعوة إلى العدالة وإقامة حدود الله منذ عصر الصحابة إلى الأيام القريبة الخالية؛ فأخبار الإمام عبد الله بن المبارك والإمام أحمد وابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب وغيرهم من الأئمة الأعلام غرة في جبين التاريخ، وأخبار علماء مصر وفلسطين والعراق أيام الانتداب البريطاني وعلماء سوريةأيام الانتداب الفرنسي ليست عنا ببعيدة، وكلنا يذكر الدور العظيم الذي قام به علماء الجزائر في الانتفاضة الأخيرة في ثورة الجزائر العظيمة. ولا تزال مكانة العلماء وجهودهم وآثارهم فعالة قوية في كثير من البلدان الإسلامية.
صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه" 1. وأكد عليه الصلاة والسلام ما للعالم من أجر عند الله عز وجل بقوله:"العالم والمتعلم شريكان في الخير"2.
4-
وكما أن للعلماء أجرا في الغسلام لتعليمهم وتوجيههم، وحرصهم على بيان الحق؛ فإن لطلاب العلم أجرًا لتوطين نفوسهم على طلب العلم، وهذا واضح في قوله صلى الله عليه وسلم:"من غدا إلى المسجد لا يريد إلا أن يتعلم خيرًا، أو يعلمه؛ كان له كأجر حاج تامًا حجته" 3 وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "ومن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا؛ سهل الله له به طريقًا إلى لجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله عز وجل فيمن عنده، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه"4.
5 -
ولم يكتف الرسول صلى الله عليه وسلم بالحض على طلب العلم، وعلى تبليغه، ولم يكتف ببيان منزلة العلماء وطلاب العلم؛ بل
1 مجمع الزوائد ص127 ج1
2 الجامع الصغير ص 67 ج 2 وهو حسن، وانظر جامع بيان العلم وفضله ج1 ص28
3 هكذا في مجمع الزوائد تامًا حجته ورجاله ثقات انظر ج1 ص123 منه.
4 مسند الإمام أحمد ج13 ص161 حديث 7421 إسناده صحيح.
أوصى بطلاب العلم خيرًا، ورغب في تعليمهم والإحسان إليهم؛ من هذا ما رواه أبو هارون العبدي قال: كنا إذا أتينا أبا سعيد الخدري قال: مرحبًا بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: قلنا: وما وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه سيأتي بعدي قوم يسألونكم الحديث عني؛ فإذا جاؤوكم فألطفوا بهم، وحدثوهم"1. وفي رواية "إنهم -أي طلاب العلم- سيأتونكم من أقطار الأرض، يتفقهون في الدين؛ فإذا جاؤوكم فاستوصوا بهم خيرا". 2
هكذا تبين لنا حرص الشريعة على العلم والتعليم، وقد مارس الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك بنفسه، وشجع على طلب العلم، وأوصى بطلابهن وبين ما للمشاركة فيه من أجر، حتى بلغ التشجيع العلمي أوجه، وفتح باب العلم للجميع ليس بينه وبين أحد حاجز أو مانع. وأبلغ من هذا كله، أن الرسول صلى الله عليه وسلم حذر العلماء من أن يتساهلوا في أداء واجبهم وتعليم الجاهلين وأنذرهم بالعقاب، وحذر الجاهلين من البقاء على جهلهم، وحثهم على طلب العلم، وعلى تحطيم ربقة الجهل وعدم المعرفة، وحضهم على قرع ابواب العلماء، ويتجلى هذا بوضوح فيما رواه عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه عن جده قال: خطب النبي صلى الله عليه وسلم ذات مرة فأثنى على طوائف من المسلمين خيرًا، ثم قال: "ما بال أقوام لا يفقهون
1و2 أخرجه الترمذي وابن ماجه، وضعفه بعضهم لضعف أبي هارون العبدي؛ إلا أنه ورد من غير طريق الترمذي بطريق حسن بل صحيح كما قال مغلطاوي، انظر فيض القدير ج2 ص400.
جيرانهم ولا يلعمونهم ولا يعظونهم ولا يأمرونهم ولا ينهونهم، وما بال أقوام لا يتعلمون من جيرانهم ولا يتفقهون ولا يتعظون، والله ليعلمن قوم جيرانهم، ويفقهونهم، ويعظونهم، ويأمرونهم، وينهونهم، وليتعلمن قوم من جيرانهم ويتفقهون ويتعظون أو لأعاجلنهم العقوبة"، ثم نزل. فقال قوم: من ترونه عني بهؤلاء؟ قال: الأشعرين: هم فقهاء ولهم جيران جفاة من أهل المياه1 والأعراب؛ فبلغ ذلك الأشعرين، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا يا رسول الله ذكرت قومًا بخير وذكرتنا بشر فما بالنا؟ فقال: "ليعلمن قوم جيرانهم، وليثقفنهم وليعظنهم وليأمرنهم ولينهونهم، وليتعلمن قوم من جيرانهم ويتعظون ويتفقهون أو لأعاجلنهم العقوبة في الدنيا" فقالوا: يا رسول الله أنفطن2 غيرنا؟ فأعاد قوله عليهم؛ فأعادوا قولهم أنفطن غيرنا؟ فقال ذلك أيضا؛ فقالوا أمهلنا سنة فأمهلهم سنة ليفقهوهم ويعلموهم ويعظوهم، ثم قرأ صلى الله عليه وسلم هذه الآية:{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ} 3.
لقد بين هذا الحديث مسؤولية العلماء، كما بين واجب من لا يعلم.
1 المقصود بأهل المياه من يتتبع الأرض الخصبة طلبًا للمرعى وللماء.
2 أنفطن اي انفهم غيرنا ونوقظ همته.. ونوقظ هذا.
3 مجمع الزوائد ص 164 ج1 وقد رواه الطبراني في معجمه الكبير، وفيه بكير بن معروف قال البخاريارم به، ووثقه احمد في رواية وضعفه في أخرى، وقال ابن عدي ارجو أنه لا بأس به؛ فالحديث فيه لين. وأخرجه المنذري في الترغيب والترهيب بلفظ عن إشارة إلى أنه وجد من صحيح الحديث أو حسنه ممن أخرجه.
انظر الترغيب والترهيب ج1 ص 86 - 87 وقارن بالصفحة 3 منه.
وحث الفريقين على أداء واجبهما، أهل العلم ينشرون العلم ويبينونه، والجاهل يسعى إليهم ويتعلم
…
ورتب على إخلال أحد الفريقين أو كليهما بواجبه- عقوبة زاجرة رادعة
…
من خلال هذا الحديث يظهر لنا المستوى العلمي الذي أراده الإلسام للمسلمين؛ فبعد أن حارب الجهل في جميع الميادين بمختلف الوسائل، وبعد أن فتح أبواب المعرفة وهيأ لها أهلها -رتب العقوبة الزاجرة على الجهل؛ ذلك لأن الجهل عدو الفكر، يحول بين المرء والمعرفة؛ فيبقى الإنسان أسير جهله سجين أوهامه بعيدًا عن الحق والحقيقة، ولو أن هذا الحديث طبق في الأعصر الأخيرة في المجتمع الإسلامي لما رأيت مكانًا لجاهل، ولا درجة رفيعة لعالم لا يعمل بلعمه؛ بل لما وجد الجهل إلى المسلمين سبيلًا.. والحق أن أرقى الدول في هذا القرن تتبنى التعليم وترعاه وتسهل كل ما يتعلق به. أما أن دولة تعاقب عالما لا يعلم أو لا يعمل أو جاهلًا لا يتعلم- فهذا أمر لم تصل إليه امة من الأمم بعد؛ في حين أن الإسلام قرر ذلك قبل أربعة عشر قرنًا.
كل ما ذكرناه آنفًا من التشجيع العلمي والتزام الدولة الإسلامية بأداء واجبها في هذا الميدان، وإقبال الأمة على العلم، وتفتح القلوب للإسلام: عقدية وعبادة وشريعة وأخلاقا، كل ذلك ولد نشاطًا علميًا واسعًا في مختلف ميادين العلم والمعرفة في الدولة الإسلامية- في القرون التسعة الأولى - نشاطًا لم يعهد التاريخ مثله؛ فحقق الازدهار الحضاري العظيم الذي خلد أعمال العلماء المسلمين، وأمد التراث الإنساني بذخيرة علمية قيمة لا يزال العالم مدينًا لها حتى هذا العصر1.
1 وانظر العلم عند العرب وأثره في تطور العلم العالمي ص 423 - 483. وانظر فضل العرب على أوربا لسيجريد هونكه.