الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يقول الإمام الغزالي: ولما كانت البهائم لا أذهان لها ولا أكفّ، ولا أصابع تهيأ للأعمال، كفيت مؤنة ما يضر بها، بأن جعلت كسوتها في خلقها باقية عليها ما بقيت، فلا تحتاج إلى استبدال بها وتجديد بغيرها، بخلاف الآدمي فإنه ذو فهم وتدبير، وأعضاء مهيأة لأعمال ما يقترحه، وله في إشغاله بذلك صلاح، وفيه حكمة، فإنه خلق على قابلية لفعل الخير والشر.
انظر إلى النمل وما ألهمت له، في احتشادها في جمع قوتها وتعاونها على ذلك وإعدادها لوقت عجزها عن الخروج والتصرف بسبب حر أو برد.
وألهمت في تقلب ذلك من الحزم ما لم يكن عند من يعرف العواقب حتى تراها في ذلك إذا عجز بعضها عن حمل ما حمله أو جهد به أعانه آخر منه، فصارت متعاونة على النقل كما يتعاون الناس على العمل الذي لا يتم إلا بالتعاون.
ثم إنها ألهمت حفر بيوت في الأرض، تبتدئ في ذلك بإخراج ترابها وتقصد إلى الحب الذي فيه قوتها، فتقسمه خشية أن ينبت بنداوة الأرض فما خلق هذا في جبلتها إلا الرحمن الرحيم، ثم إذا أصاب الحب بلل أخرجته فنشرته حتى يجف، ثم إنها لا تتخذ البيوت إلا فيما علا من الأرض، خوفا من السيل أن يغرقها (1).
(ج) أنماط الحياة والتكاثر:
لقد نص القرآن الكريم أن هذه المخلوقات من الدواب والحشرات المتباينة في الأشكال والحجوم وطريقة الحركة والسير أمم وفصائل أمثال الناس: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)[النور: 45].
(1)«الحكمة في مخلوقات الله» للإمام الغزالي، ص 112.
وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)[الأنعام: 38].
لقد أدرك العلم الحديث شيئا جزئيا من حياة الحيوان بالمخالطة والتتبع والاستقراء، وتأكد لدى الباحثين أن كل حيوان ينتمي إلى فصيلة معينة تجمع بين أفرادها خصائص واحدة وتربطها فيما بينها نظم ثابتة ولها وسائلها الخاصة في التفاهم.
ومن دراسة ظواهر الحيوانات الأليفة أثبتوا أن لكل صنف منها لغة خاصة يتفاهم بها ويتعارف مع غيره على أحواله، وأحوال ما يحيط به.
فالدجاجة تصدر أصواتا خاصة مميزة عند ما تدعو صغارها إلى التقاط الحبوب وترى الصغار تتجمع حولها بسرعة، ولكنها تصدر أصواتا أخرى عند تحذيرها من خطر وشيك، فترى الصغار تهرب للاختباء في القنّ أو تحت أجنحتها.
يقول «ألن يفو» أحد علماء الحيوان: إنه وقف يوما يرقب ثلاثة من صغار الثعالب تلعب حول أمها، وإذا بصغير منها يدخل الغابة ويبتعد عنها كثيرا حتى غاب عن النظر، فاستوت الأم قائمة ومدت أنفها إلى الناحية التي ذهب منها وبقيت على حالها هذه برهة عاد بعدها الصغير في اتجاه لا يلتفت يمنة ولا يسرة كأنما تجذبه بخيط لا تراه العين.
والنحلة إذا حصلت على حقل مزهر عادت إلى الخلية، وما أن تتوسطها حتى ترقص رقصا خاصا فإذا بالنحل يندفع إليها ويسير خلفها إلى حيث تهديها النحلة إلى الزهور، بل برقصاتها المعينة تكون قد حددت الجهة والبعد ونوع المرعى .. فلا بد لكل هذه الفصائل من الحيوانات والحشرات من لغة للتفاهم ونظام تسير عليه.
لقد قرر القرآن الكريم هذه الحقائق بكل وضوح قبل أن يتطور علم الحيوان الذي لا يزال يدرس الحالات الظاهرة، وبين أن هذه اللغة يمكن
إدراكها إذا شاء الله سبحانه وتعالى، بأن أودع في الإنسان خاصية تمكنه من استقبال إشارات هذه اللغة، وأخبر القرآن الكريم أن ذلك قد تحقق لأحد أصفياء الله من البشر وهو سليمان عليه السلام: وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (19)[النمل: 16 - 19].
وهناك فصائل من الحيوان تمتاز عن غيرها بصفات أودعها الله سبحانه وتعالى فيها غريزة وفطرة يعجز عنها العقل البشري مع وسائله المتطورة المتقدمة.
فمثلا النحل ومملكته، والتنظيم الرائع بين أفراد النحل عامة، إن دراسات مستفيضة قامت حول هذه المملكة فأظهرت العجب العجاب.
فالتقسيمات الدقيقة بين أصناف النحل وتحديد مهمة كل صنف منها:
صنف مهمته جمع رحيق الأزهار وإيداعه في مستودعاته من الخلية، وصنف يعمل داخل الخلية لبناء بيوت سداسية الشكل، واختيار الشكل السداسي لم يأت اتفاقا، بل عن اختيار وحكمة فإن أي شكل هندسي آخر لا يمكن أن يملأ كل الفراغات، بل تبقى زوايا مهملة لا يستفاد منها، أما الشكل السداسي فلا تبقى معه أي زاوية مهملة، وهناك صنف من النحل يجهز للملكة طعاما خاصا، ومهمة الملكة هي الإنجاب ليس إلا، إذ بعد أن تضع بيوضها تموت لتختار ملكة جديدة من بين الجيل القادم وتقتل كل الأصناف الشبيهة بالملكة المختارة حتى لا تنازع الملكة سلطتها وهنالك على باب الخلية حرس يفتشون العاملات بدقة متناهية، فالتي تقع على نجاسة أو شيء خبيث الرائحة يكون جزاؤها القتل أو الطرد والمنع من دخول الخلية.
فسبحان الذي أوحى إلى النحل مهمتها في الحياة، وخصها بهذا الدور العظيم لإخراج ما فيه الشفاء للناس: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)[النحل: 68 - 69].
وليظهر الله سبحانه وتعالى معجزات كتابه ويري آياته للناس في هذا العصر فقد سخر أناسا لدراسة طبيعة العسل وتركيبه، وذهبوا إلى تشريح جسم النحلة واستخراج السم الذي في بطنها وتحليله للتعرف على خاصياته، وتوصلوا إلى نتائج باهرة تميط اللثام عن معجزة الكتاب الخالد:
يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ وفيما يلي إشارات إلى بعض هذه النتائج:
أما عن تركيب العسل فقد وجدوا أنه يتركب من:
(25 - 40) دكستروز (جلوكوز)(30 - 45) ليفيلوز (فروكتوز)(15 - 25) ماء والجلوكوز الموجود فيه بنسبة أكثر من أي غذاء آخر هو سلاح الطبيب في أغلب الأمراض، واستعماله في ازدياد مستمر بتقدم الطب، فيعطى بالفم وبالحقن الشرجية وتحت الجلد وفي الوريد، ويعطى بصفته مقويا ومغذيا ومضادا للتسمم الناشئ عن مواد خارجية مثل الزرنيخ والزئبق والذهب .. وضد التسمم الناشئ من أمراض الكبد والاضطرابات المعدية والمعوية، وضد التسمم في الحميات مثل التيفوئيد والالتهاب الرئوي والسحائي المخي والحصبة، وفي حالات ضعف القلب، وحالات الذبحة الصدرية، وبطريقة خاصة في الارتشاحات العمومية الناشئة من التهابات الكلى الحادة، وفي احتقان المخ وفي الأورام المخية.
واتجهت الأبحاث العلمية التي تجرى على النحل والعسل إلى دراسة سم النحل، إذ تقوم حاليا بعض المؤسسات الطبية باستخراج سمّ النحل الذي يفرزه عن طريق آلة اللسع لاستعماله في معالجة بعض الأمراض المستعصية، وفي أمريكا وإنجلترا حاليا مناحل لا غرض لها إلا تربية النحل لاستخراج مصله، وعمل حقن منها لعلاج كثير من الأمراض الروماتيزمية، اللمباجو وعرق النسا، ونجحت في علاج التراخوما «الرمد الحبيبي» ، وما زال العلم يحمل إلينا في كل يوم فائدة طبية من فوائد ما يخرج من بطون النحل من عسل وسم.
ونقلت الصحف في 19 فبراير 1956 نقلا عن أخبار لندن أنه توجد فيها امرأة نمساوية تدعى (مسز أوين) تداوي المرضى الذين يئس الأطباء من شفائهم بقرص النحل، وقد أثار خبر هذه السيدة اهتماما كبيرا في أوساط لندن، لا سيما وأن نتائج معالجتها قد أدت إلى الشفاء.
ومن الأخبار العلمية التي نشرت في مارس 1956 م أن أحد كبار الجراحين في مستشفى «نور فولك» الإنجليزي استخدم عسل النحل لتغطية آثار الجروح الناتجة عن العمليات الجراحية التي يجريها بعد أن ثبت أنه يساعد على سرعة التئام هذه الجروح وإزالة آثارها، فلا تترك ندوبا وتشويها بعد العملية، كما تبين أن طبيعة العسل وما يحويه من مواد تساعد على نمو الأنسجة البشرية من جديد فتلتئم الجروح بطريقة مستوية، ويقوم الطبيب برش العسل على موضع الجرح بصورة سائل وعلى هيئة حبيبات (1).
قام الدكتور «أف. ج. ساكيت» بكلية كولورادو الزراعية بتجربة فزرع جراثيم مختلف الأمراض على العسل الصافي، ولبث ينتظر النتيجة، وقد أثارت النتائج إعجابه، إذ ماتت الجراثيم وقضي عليها كلها في فترة بضع ساعات، أو في مدة أقصاها بضعة أيام. ماتت جراثيم حمى التيفوس بعد
(1)«لفتات علمية» ص 84.
(24)
ساعة، وماتت جراثيم الالتهاب الرئوي (المكورات الرئوية) في اليوم الرابع، وكذلك بعض الأنواع الأخرى كجراثيم التهاب البريتون والبلورا والخراجات والمكورات العنقودية والمكورات العقدية، أما جراثيم الدوسنتاريا فقد قضي عليها بعد (10) ساعات.
وخلال الحرب العالمية الثانية استعمل الأطباء العسل في علاج الجروح المتسببة عن الإصابات بالرصاص، وكانت النتيجة مذهلة من حيث سرعة التئام الجروح وشفائها، واستعمل المرهم المكون من المزيج التالي في شفاء الجروح المستعصية التي فشل علاجها بالأشعة وسائر المضادات الحيوية، ويتكون من:
80 غ عسل نحل+ 20 غ زيت كبد الحوت+ 3 زير ونورم.
وقد وجد في نتائج هذه الوصفة ما يأتي:
أحد المصابين في الحرب وعمره (35) عاما عنده ندبة كبيرة في ظهر قدمه اليمنى وفي وسط الندبة قرحة مساحتها 3* 5 سم وقاعها عميق، ظل الجرح على هذه الحالة لمدة ثلاثة شهور ولم تجد المراهم والعلاج بالأشعة وغيرها من الطرق معها نفعا، وقد استعمل مرهم العسل لمدة (22) يوما فشفيت القرحة.
وقد استعمل العسل ولا يزال علاجا عالميا للزكام بإضافته إلى بعض أنواع السوائل، فبعض الأطباء مثل «ك. أ. منبيس» و «س. كنيب» ينصحون بالعسل مع اللبن الدافئ وآخرون ينصحون باستعمال العسل الممزوج بعصير الليمون، أما الدكتور «أورتل» فأوصى باستعمال العسل الممزوج بعصير البرسيم الدافئ في علاج الزكام علاجا ناجحا.
وللعسل تأثير قوي لعلاج السعال. أما العسل مع الرمان فينصح به ابن سينا لعلاج أمراض القلب والذبحة الصدرية، وفي العصر الحديث يقول الدكتور «م. س. جولدمب ورافي، وغيرهم» إن تناول ما بين 50 - 140 غ يوميا من العسل لمدة شهر أو شهرين للمرضى الذين يشكون من علل
خطيرة في القلب يحدث تحسنا ملحوظا في حالتهم ويرجع حالة الدم إلى الحالة العادية ويزيد من الهيموجلوبين وقوة الجهاز الدوري.
ويتفق الأطباء الأمريكيون والروس على أن العسل أفضل علاج للمصابين بقرح المعدة والاثنى عشر، على أن يؤخذ قبل وجبات الطعام بساعة أو أكثر، وأفضل الأوقات هو قبل الإفطار، ومذابا في كوب ماء دافئ.
ويقرر «أ. أويرتل دي» أن عسل النحل علاج ممتاز للاضطرابات العصبية، وأن كوب ماء مذاب فيه العسل إذا أخذ قبل النوم كفيل بتوفير نوم هادئ.
وقد وصف بعض الأطباء الروس والصينيين العسل لعلاج أمراض الجلد والخراريج والدمامل، أما علاج قرح القرنية في العين بالعسل، فقد أعطى نتائج مذهلة.
ويقول الدكتور «بيك» الأمريكي، إن مرض السرطان غير معروف بين النحالين في الغالب، وهذا يرجع إما إلى العسل الذي يتناوله النحالون باستمرار أو نتيجة الغذاء الملكي أو حبوب اللقاح الموجودة بالعسل أو أنها نتيجة لسم النحل الناتج من اللسع.
وإذا أخذ مرضى السكر العسل تحت إشراف الطبيب فقد أثبتت التجارب انخفاض نسبة السكر في دمائهم وعودتها إلى الحالة الطبيعية (1).
هذا بعض ما توصلوا إليه من شأن النحل والشراب الخارج من بطونها، ومن يدري ماذا يكون بعد تطور وسائل المعرفة والاكتشاف؟ فقد تكتشف خصائص للعسل أضعاف ما عرفوا الآن، وستبقى المعجزة الخالدة تحدوهم فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ وستبقى الحقيقة الإيمانية ماثلة في الأذهان:
(1) انظر في استعمالات العسل في الطب: كتاب «الأدوية والقرآن الكريم» للدكتور محمد هاشم، ص 68 وما بعدها.
(2)
رواه البخاري، كتاب الطب، 7/ 13.