الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
البحر
يقول تعالى: أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (61)[النمل: 61].
ويقول جل شأنه: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (20) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (22) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (23) وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (24) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (25)[الرحمن: 19 - 25].
الكلمات المعبرة ذات الدلالة في هذه الآيات هي: حاجز، مرج، برزخ.
يقول الراغب في «مفرداته» في مادة «حجز» (1): (يقال: الحجز المنع بين الشيئين بفاصل بينهما، قال عز وجل: وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً).
وفي مادة «مرج» (2) يقول الراغب: (والمروج الاختلاط، يقال: مرج أمرهم اختلط. ويقال: أمر مريج: أي مختلط ومنه غصن مريج مختلط).
وفي مادة «برزخ» (3) يقول الراغب: (البرزخ: الحاجز، والحد بين الشيئين، والبرزخ في القيامة: الحائل بين الإنسان وبين بلوغ المنازل الرفيعة في الآخرة، وقيل البرزخ في القيامة ما بين الموت إلى القيامة).
(1) ص 156.
(2)
ص 706.
(3)
ص 56.
إن الكلمات المذكورة تفيد إطلاق ماء البحرين فيختلطان، ولكن لا يتجاوز ماء أحدهما على ماء الآخر.
ولقد توصل العلم الحديث إلى صور شتى وحالات متعددة لا يتجاوز فيها ماء أحد البحرين على الآخر ولا يتعدى الحاجز الموضوع للفصل بينهما. فمن هذه الصور قالوا:
1 -
إن دورة المياه في الكون والتي تبدأ بتبخر كميات هائلة من سطح المحيطات وتتكون منها السحب وتنزل على اليابسة مطرا ينبت به الزرع وتحيى الأرض بعد موتها، وهذه المياه كميات لا يستهان بها وهي مياه عذبة، فارتفاعها من المحيطات لا يزيد من نسبة ملوحة المياه في البحر وتبقى نسبة الملوحة كما هي، كما أن الأمطار التي تشكل السيول والأنهار تصب ثانية في البحار والمحيطات حاملة معها ملوحة الأرض وشيئا من المعادن والأتربة لا يجعلها تطغى على البحر بل يبقى البحر ملحا أجاجا بنسبة واحدة.
2 -
وقالوا: إن مستوى سطح الأنهار أعلى في العادة من مستوى سطح البحر، ومن ثم لا يبغي البحر على الأنهار التي تصب فيه، ويغير مجاريها بمائه الملح فيحولها عن وظيفتها ويبغي على طبيعتها، وبينهما دائما هذا البرزخ من صنع الله فلا يبغيان.
3 -
ويقرر علماء البحار أن الأنهار الضخمة تشكل عند مصباتها أشبه ما يكون ببحيرات خاصة، لها خواصها من حيث المذاق فليست هي بالمياه العذبة كمياه النهر، وليست بالمياه المالحة الأجاج كما هي الحال في مياه البحر، وهذه المنطقة تعيش فيها الكائنات الحية التي لا تستطيع الخروج إلى مياه البحر لعدم ملاءمة البيئة لها فتهلك، ولا تستطيع الخروج إلى مياه النهر لعدم إمكان العيش فيها أيضا. فهذه المنطقة حجر محجور، يحجر كائناته الخاصة وطبيعة مياهه عن الاختلاط بغيره، ومحجور عن المياه الأخرى، فسبحان الذي جعل بين البحرين برزخا وحجرا محجورا.
4 -
وقال بعضهم: إن هنالك حاجزا بين البحار أنفسها يمكن تمييز خاصيات ماء كل بحر على جانبي الحاجز، وكذلك ما فيها من معادن وكائنات حية. يقول صاحب لفتات علمية (1): نشرت بعثة السيرجون أفري مع بعثة الجامعة المصرية وخفر السواحل لدرس أعماق البحر الأحمر، والمحيط الهندي في جنوب عدن، نشرت بعض الملاحظات منها:
أ- أن البعثة وجدت المياه في خليج العقبة تختلف في خواصها وتركيبتها الطبيعية والكيميائية عن المياه في البحر الأحمر، وحققت البعثة (بواسطة قياس الأعماق) وجود حاجز مغمور عند مجمع البحرين يبلغ ارتفاعه أكثر من ألف متر.
ب- وكذلك تبين وجود حاجز مغمور بين المحيط الهندي والبحر الأحمر، وأثبتت التحاليل الكيميائية أن مياه المحيط الهندي تختلف في خواصها الطبيعية والكيميائية عن مياه البحر الأحمر، ومرجع ذلك إلى وجود هذا الحاجز المغمور عند ملتقى كل بحرين.
5 -
وقال بعضهم: إن هنالك حاجزا من نوع آخر أيضا وفي داخل المحيطات إذ ثبت أن أعظم الأنهار على الإطلاق موجودة داخل البحار، يقول فرديناند لين (2):
وتوجد أعظم أنهار الدنيا في البحر، ويبدو نهر المسيسبي أو حتى نهر النيل أو نهر الأمازون بجانبيها وكأنه غدير، يبدو غريبا أن تستطيع تيارات المياه أن تتحرك لمثل هذا البعد خلال مياه أخرى دون أن تختلط بها ولكن أي مجرى من الماء أدفأ أو أبرد من الماء المحيط من كل الجهات يستمر في جريانه بمفرده لزمن طويل، وفي بعض الأحيان تتميز ضفتاه بوضوح يشبه تقريبا وضوحهما لو كان المجرى على الأرض اليابسة، وقد يختلف أيضا تيار الماء المتحرك في لونه عن ماء البحر المحيط به.
وتوجد حركات أخرى في البحر هي أعظم حتى من التيارات السطحية، وهذه هي صعود المياه الأدفأ والمياه الأخف، وهبوط المياه الأثقل والمياه الأبرد. وفي البحار القطبية تغوص المياه الباردة إلى أسفل وتزحف على قاع المحيط كما أن المياه الدافئة في المناطق الحارة تندفع ببطء على السطح تجاه القطبين ومثل هذه الحركات تمد كل الكائنات الحية في البحر باحتياجاتها فهي تحمل الأوكسجين الضروري للحياة إلى أسفل قاع المحيط، وتوزع الأملاح والمعادن الأخرى هنا وهناك في الماء تماما مثلما يضع الفلاحون السماد في التربة.
وهذه المعادن ضرورية لحياة النباتات التي هي غذاء الحياة الحيوانية في البحر، وتيارات السطح، وصعود المياه ونزولها، والزحف البطيء على طول القاع في المحيط، كل هذه تنظف البحر وتنقيه، فهي تحميه من أن يأسن كما يأسن ماء البركة الراكد، ويقدر العلماء أن مياه المحيط القطبي الشمالي تتغير كل 165 سنة كما يتغير الماء في
حمام السباحة، ويجري هذا في كل مكان في المحيطات وفي أغلب الخلجان والمداخل الصغيرة (1).
وهكذا نجد أن النص القرآني المعجز يحتمل كل ما قيل واكتشف من الحواجز سواء كانت بين الأنهار العذبة وبين مصباتها في البحار، أو بين البحار الملحة أنفسها، أو بين التيارات المائية في المحيط ومائه.
وقد يكتشف غير هذا في المستقبل، وتبقى الحقيقة الخالدة وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) [فاطر: 12] * وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (53)[الفرقان: 53].
(1)«كل شيء عن البحر» ص 47.