الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث غيب المستقبل
ويقصد بغيب المستقبل ما ذكره القرآن الكريم من حوادث ستقع ولم تكن قد وقعت عند نزول الآيات التي تحدثت عن وقوع الحادثة.
ومن خلال استقراء الآيات التي تحدثت عن هذا النوع من الغيب يمكن تقسيمه إلى ثلاثة أنواع:
أولا: ما تحدث القرآن عنه ووقع في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن ذلك:
أ- ما تحدث عن مصير بعض المكذبين وأنهم سيموتون على الكفر ويخلدون في النار، كما جاء في قوله تعالى: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (2) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)[المسد: 1 - 5].
وقوله تعالى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً (12) وَبَنِينَ شُهُوداً (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26)[المدثر: 11 - 26].
وقوله تعالى: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9) عَبْداً إِذا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18)[العلق: 9 - 18].
وقوله تعالى: خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50)[الدخان: 47 - 50].
لقد حددت الآيات الكريمة مصير كل من أبي لهب والوليد بن المغيرة وأبي جهل في الدنيا والآخرة، فلو لم يكن القرآن تنزيلا من حكيم حميد الذي بيده الحياة والموت لما
صحّ ذلك في كل ما أخبر به، بل لما كان من عاقل من البشر أن يضع مصير دعوته على شيء معين، فلو آمن واحد من هؤلاء الثلاثة الذين دمغهم القرآن الكريم بالكفر، وخلد في الأشقياء ذكرهم، لانطفأت شعلة الإسلام، ولقامت الحجة على القرآن ومن جاء به، لو أسلم أبو لهب مثلا لما كان لقوله تعالى: سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (3) منصرف ولا واقع، ولأصبحت هذه الآية في واد والواقع في واد آخر.
وكيف كان محمد صلى الله عليه وسلم يقابل الناس بها، وقد أصبح أبو لهب، من الصحابة كعمر بن الخطاب، وغيره من الذين كان لهم موقف معاد للإسلام قبل أن يدخلوا فيه، أفليست هذه معجزة قاهرة، وأي معجزة أبهر وأقهر من أمر لا يكلف صاحبه أكثر من كلمة يقولها بلسانه فيبطل بها قول محمد صلى الله عليه وسلم، ويفسد أمره جميعه، ثم لا يقول الكلمة، ولا تسمح له الحياة بأن يقولها فقد عاجلته المنية قبل يوم الفتح الذي دخلت فيه قريش كلها الإسلام فلو دخل هؤلاء لكان إسلامهم هدما للإسلام كله.
أفلا يدل هذا جليا أن القرآن من عند خالق الحياة والممات، والذي مصير كل شيء بيده، ومآل كل أمر إليه، وهو الذي حفظ دينه وكتابه.
ب- قوله تعالى: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45)[القمر: 45].
سورة القمر من السور المكية التي نزلت في المرحلة المتوسطة حيث كان أذى المشركين يزيد يوما بعد يوم على المؤمنين، فكانت الآيات الكريمة تنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم لتثبيت قلبه بذكر قصص الأنبياء والمرسلين وتبين أن العاقبة لهم وأن نصر الله آتيهم لا محالة، وأن مصير المعاندين هو
الهزيمة والخزي والعار وكان المؤمنون ينتظرون يوم النصر والفرج إلى أن جاء ذلك يوم بدر، يوم الفرقان يوم أعز الله جنده وأخزى أعداءهم، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه كنت أقرأ قوله تعالى: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) فأقول أي جمع هذا وأية هزيمة إلى أن كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يثب في الدرع وهو يقول: (سيهزم الجمع ويولون الدبر)، فعرفت تأويلها يومئذ (1) وعند نزول الآية الكريمة ما كان أحد يتوقع أن تكون للمسلمين شوكة وجيش يواجهون به جموع المشركين. فكان أن تحققت النبوءة بعد سنوات عديدة في السنة الثانية من الهجرة النبوية.
ج- قوله تعالى: الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4)[الروم: 1 - 4].
كانت الدولتان العظيمتان في ذلك الحين الفرس والروم. فحدث أن وقعت معركة بين الدولتين وانتصر الفرس على الروم وألحقت هزيمة نكراء بجيش الروم واقتطعت أراضي من بلاد الشام من الممالك الرومانية، وكانت دولة الفرس وثنية تعبد النار، وكانت دولة الروم نصرانية تدعي متابعتها للإنجيل، ففرح المشركون الوثنيون بانتصار الوثن على أهل الكتاب. تفاؤلا بانتصارهم على المسلمين أتباع القرآن. فلما نزلت الآيات الأولى من سورة الروم، سخر المشركون من هذا النبأ، لأن الهزيمة التي لحقت بالروم في مقاييس الأسباب الظاهرية أضخم من أن تزال آثارها في عشرات السنين، فضلا عن تحقيق النصر على العدو المناوئ في بضع سنين، ولكن الأمر لله من قبل ومن بعد، وما كان وعد الله ليتخلف، ولم تمض عشر سنين حتى دحرت الروم الفرس، في وقت فتح الله على رسوله فتحا مبينا، وفرح المسلمون بانتصارهم السياسي في غزوة الحديبية.
(1) الدر المنثور 7/ 681.
ثانيا: ما تحدث عنه القرآن الكريم ووقع بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أ- فمن ذلك قوله تعالى: قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ [الفتح: 16].
فقد استنفر رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعراب من حول المدينة في غزوة الحديبية، وتخلف كثير منهم خوفا من بطش قريش وسطوتها، وقالوا ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية جاءوا يعتذرون إليه ويقولون: شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا [الفتح: 11].
ففتح الله تعالى لهم باب التوبة بشرط الاستجابة لنداء الجهاد في قوله تعالى: قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ
…
ولم يدع هؤلاء الأعراب في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما استنفروا للجهاد بعد وفاته في عهد الخلفاء الراشدين.
ب- وفي قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً [النور: 55].
وقد تحقق ذلك في عهد الخلفاء من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فدحروا دولة الفرس والروم ووصلت الفتوحات الإسلامية إلى أطراف الصين شرقا وإلى المحيط الأطلسي غربا، وخضعت الشعوب والأمم للإسلام ودخل كثير منهم في الإسلام طواعية وعم ضياؤه أرجاء المعمورة وسارت الظعينة من حضرموت إلى صنعاء لا تخشى إلا الله والذئب على غنمها، وكان الناس في أمن وأمان. وكان كل ذلك في العهود اللاحقة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ج- وفي قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9)[الحجر: 9]، نبوءة متجددة مستمرة، فقد تعاقبت أحداث بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأمة
الإسلامية لو نزلت بأي أمة من الأمم لاندثر تاريخها، ولطمست معالم ثقافتها، ولبادت حضارتها كما بادت حضارات كثيرة في تاريخ البشرية. إلا أننا نجد أن كتاب الله الذي تكفل الله بحفظه
لم تنقطع سلسلة حفاظه الذين يتلقونه جيلا عن جيل من الصدور. ونجد الأمة بعد كل كبوة تستعيد فتوتها، وتجدد نشاطها، لتقوم بدورها الحضاري مرة أخرى وما ذاك إلا بفضل كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وتحقيقا لوعد الله الذي تكفل بحفظ كتابه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9).
ثالثا: ما تحدث عنه القرآن الكريم ولم يقع إلى الآن، وسيقع حتما من غير ريب فمن ذلك ما ذكره القرآن عن أشراط الساعة والأحداث التي تقع قبيل قيامها وجاءت جملة منها في ثنايا الآيات الكريمة منها:
أ- في قوله تعالى:* وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (82)[النمل: 82]. وجاء ذكرها مجملا، فلا ندرك حقيقتها ولا مكان خروجها، ولا وقته المحدد، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فصّل القول في بعض أوصافها ومكان خروجها: فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تخرج دابة الأرض ومعها عصا موسى، وخاتم سليمان، فتجلو وجه المؤمن بالخاتم، وتخطم أنف الكافر بالعصا حتى يجتمع الناس على الخوان يعرف المؤمن من الكافر» (1).
وأخرج الطيالسي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وصححه وابن مردويه والبيهقي في البعث عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدابة فقال: لها ثلاث خرجات من الدهر، فتخرج خرجة بأقصى اليمن، فينشر ذكرها بالبادية في أقصى البادية، ولا يدخل ذكرها القرية- يعني مكة- ثم تكمن زمانا طويلا ثم تخرج خرجة أخرى دون تلك، فيعلو ذكرها في أهل البادية، ويدخل ذكرها القرية- يعني مكة- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثم بينما الناس في أعظم المساجد على الله حرمة وأكرمها، المسجد الحرام لم يرعهم إلا وهي ترغو بين الركن والمقام،
(1) رواه أحمد 2/ 295 وابن ماجة في كتاب الفتن باب دابة الأرض 2/ 1351.
وتنفض عن رأسها التراب، فارفض الناس عنها شتى، وبقيت عصابة من المؤمنين، ثم عرفوا أنهم لن يعجزوا الله فبدأت بهم، فجلت وجوههم حتى جعلتها كأنها الكوكب الدري، وولت في الأرض لا يدركها طالب، ولا ينجو منها هارب، حتى إن الرجل ليتعوذ منها بالصلاة فتأتيه من خلفه فتقول: يا فلان الآن تصلي؟، فيقبل عليها فتسمه في وجهه، ثم ينطلق، ويشترك الناس في الأموال، ويصطحبون في الأمصار، يعرف المؤمن من الكافر حتى إن المؤمن ليقول: يا كافر اقضني حقي، وحتى الكافر ليقول:
يا مؤمن اقضني حقي (1).
ب- وفي قوله تعالى: حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (97)[الأنبياء: 96 - 97].
من علامات الساعة خروج يأجوج ومأجوج وإفسادهم في الأرض وسيطرتهم على العالم. ومن أخبارهم ما رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن عن النواس بن سمعان قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال ذات غداة فخفض فيه ورفع، حتى ظننا أنه في ناحية النخل فقال: غير الدجال أخوفني عليكم، فإن خرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم، وإن خرج ولست فيكم، فكل امرئ حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم، إنه شاب جعد قطط عينه طافئة، وإنه تخرج خيله بين الشام والعراق، فعاث يمينا وشمالا، يا عباد الله اثبتوا، قلنا يا رسول الله صلى الله وسلم: ما لبثه في الأرض؟ قال:
أربعون يوما، يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة، وسائر الأيام كأيامكم، قلنا: يا رسول الله، فذلك اليوم الذي هو كسنة، أتكفينا فيه صلاة يوم وليلة؟ قال: لا
…
اقدروا له قدره، قلنا: يا رسول الله، ما أسرعه في
(1) انظر الدر المنثور للسيوطي 6/ 381 ومستدرك الحاكم كتاب الفتن والملاحم 4/ 484.
الأرض؟ قال: كالغيث يشتد به الريح، فيمر بالحي فيدعوهم فيستجيبون له، فيأمر السماء فتمطر، والأرض فتنبت، وتروح عليهم سارحتهم وهي أطول ما كان درا، وأمده خواصر وأشبعه ضروعا، ويمر بالحي فيدعوهم فيردون عليه قوله، فتتبعه أموالهم فيصبحون ممحلين ليس لهم من أموالهم شيء، ويمر بالخربة فيقول لها: أخرجي كنوزك، فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل، ويأمر برجل فيقتل فيضربه ضربة بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض، ثم يدعوه فيقبل إليه، فبينما هم على ذلك إذ بعث الله المسيح بن مريم، فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين (1)، واضعا يده على أجنحة ملكين فيتبعه فيدركه فيقتله عند باب لدّ الشرقي، فبينما هم كذلك أوحى الله إلى المسيح عيسى بن مريم، أني قد أخرجت عبادا من عبادي لا يدان لك بقتالهم، فحرز عبادي إلى الطور، فيبعث الله يأجوج ومأجوج كما قال الله: وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ فيرغب عيسى وأصحابه إلى الله فيرسل نغفا في رقابهم فيصبحون موتى كموت نفس واحدة، فيهبط عيسى وأصحابه إلى الأرض فيجدون نتن ريحهم، فيرغب عيسى وأصحابه إلى الله فيرسل الله عليهم طيرا كأعناق البخت، فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله، ويرسل الله مطرا لا يكن منه بيت مدر ولا وبر أربعين يوما،
فتغسل الأرض حتى تتركها زلفة (2)، ويقال للأرض: أنبتي ثمرتك فيومئذ يأكل النفر من الرمانة، ويستظلون بقحفها، ويبارك في الرسل (3) حتى أن اللقحة (4) من الإبل لتكفي الفئام (5) من الناس، واللقحة من البقر تكفي الفخذ، والشاة من الغنم تكفي البيت، فبينما هم على ذلك إذ بعث الله
(1) المهرودتان: حلتان مصبوغتان بالورس فيهما صفرة خفيفة. انظر النهاية لابن الأثير 5/ 285 باختصار.
(2)
زلفة: قيل مصنع الماء، وقيل المرآة، شبهها بها لاستوائها ونظافتها. النهاية 2/ 309.
(3)
الرسل: من الإبل والغنم ما كان بين عشر إلى خمس وعشرين. النهاية 2/ 222.
(4)
اللقحة: الناقة القريب العهد بالنتاج. النهاية 4/ 262.
(5)
الفئام: الجماعة الكثيرة. النهاية 3/ 406.
ريحا طيبة تحت آباطهم فتقبض روح كل مسلم، ويبقى شرار الناس يتهارجون تهارج الحمر وعليهم تقوم الساعة (1).
ج- نبوءة قرآنية نعايشها الآن:
جاء في قوله تعالى: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (4)[الإسراء: 4].
ذهب كثير من المفسرين إلى أن العلو في الأرض والإفساد الأول قد تم فأرسل الله عليهم بختنصر ملك بابل فشردهم وقتل الكثير منهم وساق الكثير أسرى إلى بابل. أما العلو الآخر والإفساد الآخر فلم يأت بعد، حيث لم تقم لليهود بعد أسر بابل دولة ولا كيان.
وفي سورة الإسراء نفسها في أواخرها جاء قوله تعالى: وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (104) وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً (105)[الإسراء: 104 - 105].
أي قيل لهم انتشروا في الأرض فإذا جاء وعد المرة الآخرة في العلو والإفساد في الأرض جئنا بكم من أطراف الأرض جماعات جماعات.
ونحن نرجح أن مرحلة العلو في الأرض بدأت من مؤتمر اليهود في بال بسويسرا عام 1897 م عند ما أعلن رئيسهم هرتزل عن وضع اللبنة الأولى لدولة إسرائيل، وقال إن الإعلان عن قيامها سيتم بعد خمسين عاما من ذاك التاريخ، وبالفعل أعلن قيام دولة إسرائيل عام 1948 م. وتسابقت الدول العظمى إلى الاعتراف بها. ومنذ مؤتمر سويسرا وإلى اليوم فإن السياسة العالمية مسخرة لتسهيل هجرة اليهود من أنحاء العالم إلى فلسطين، وكان قيام الحربين العالميتين والمستفيد الأكبر منهما هم اليهود، ففي الأولى أزيلت الدولة العثمانية الإسلامية من الوجود وكانت تقف سدا منيعا في وجه اليهود، وفي الثانية هيئت الأجواء الدولية للاعتراف بإسرائيل ودعمها ماديا
(1) انظر الحديث في مسند الإمام أحمد ج 4/ 682 وصحيح مسلم، كتاب الفتن 8/ 198.
ومعنويا، فالسنوات العشرون بعد الحرب العالمية الثانية كان اقتصاد ألمانيا موجها لدعم دولة إسرائيل تحت شعار التعويض عن جرائم النازية.
إن تجميع اليهود في فلسطين من سنن الله القدرية التي لن تتخلف.
لتأتي المرحلة اللاحقة، ويتوجه جند الإسلام لاجتثاث جذور الشر والإفساد وتقوم الدول النصرانية لمساندة اليهود وتقوم الملاحم الكبرى على أرض الشام، فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدابق فيخرج إليهم جيش من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذ
…
) الحديث (1) وتستمر المعارك بين جند الإسلام وبين الروم أربع جولات، تكون الغلبة للمسلمين في الجولة الرابعة، بعد أن تلحق خسائر بشرية هائلة بالطرفين وبعد تمكن أعداء الله من هدم الكعبة المشرفة وتدمير الأقصى وإقامة الهيكل مكانه، تنطلق كتائب الإيمان إلى أرض فلسطين لاقتلاع جذور الشر بقيادة المهدي ويحين نزول عيسى عليه السلام، ويكون الدجال قد تزعم مملكة إسرائيل فينادي الحجر والشجر يا مسلم يا عبد الله إن ورائي يهوديا فتعال فاقتله (2).
إننا نعيش بدايات علو بني إسرائيل للمرة الآخرة. كما إننا نتلمس بذور جند الإسلام في شباب الصحوة الإسلامية العارمة التي تنتشر في العالم الإسلامي اليوم، وإلى أن يأتي الوعد الحق، فإننا منتظرون، ولا يخلف الله الميعاد.
(1) انظر صحيح مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة 8/ 176، قال بعض شراح الحديث المراد بالمدينة مدينة حلب، والأعماق ودابق من السهول القريبة من حلب.
(2)
في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون حتى يختبىء اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر والشجر يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود). انظر صحيح مسلم، كتاب الفتن 8/ 188.
ولمزيد عن هذه الأحداث ارجع إلى كتابنا: معالم قرآنية في الصراع مع اليهود ص 250 وما بعدها.
د- الآيات الكثيرة التي تتحدث عن اختلال النظام الكوني عند قيام الساعة كما في قوله تعالى: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (6)[التكوير: 1 - 6]. وقوله تعالى: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ
فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ
(18)
[الحاقة: 13 - 18]. وقوله تعالى: فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10)[القيامة: 7 - 10].
فإن هذه الأحداث الجسام التي تضع نهاية للنظام الكوني واقعة لا محالة، وهذا المعتقد جزء من ديننا وعقيدتنا لا يكون المؤمن صحيح الإيمان إلا باعتقاده. ونتلمس من خلال استقراء الآيات الكريمة التي تحدثت عن غيب المستقبل، أن الهدف الأساس في إيراد هذا النوع من الغيب، هو الغرض التربوي لترسيخ الإيمان في القلب، وحسن التوكل على الله خالق السماوات والأرض، الذي بيده مقاليد الأمر، الذي يقول للشيء كن فيكون. والهدف التبعي لمثل هذا النوع من الغيب تصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.