الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يسقون أغنامهم، أو مواشيهم، وامرأتين تذودان غنمهما، لا نسقي غنمنا، فسقى لهما غنمهما.
ثم إنه لا يخفى على ذي بصر أنه ليس في ذلك كله إلا أن يترك ذكره ويؤتى بالفعل مطلقا، وما ذاك إلا أن الغرض في أن يعلم أنه كان من الناس في تلك الحال سقي ومن المرأتين ذود، وأنهما قالتا: لا يكون منا سقي حتى يصدر الرعاء، وأنه كان من موسى عليه السلام من بعد ذلك سقي، فأما ما كان المسقي- أغنما أم إبلا أم غير ذلك؟ - فخارج عن الغرض وموهم خلافه، وذلك أنه لو قيل: وجد من دونهم امرأتين تذودان غنمهما، جاز أن يكون لم ينكر الذود من حيث هو ذود، بل من حيث هو ذود غنم حتى لو كان مكان الغنم إبل لم ينكر الذود، كما أنك إذا قلت:
مالك تمنع أخا لك؟ كنت منكرا المنع لا من حيث هو منع، بل من حيث هو منع أخ، فاعرفه تعلم. أنك لم تجد لحذف المفعول في هذا النحو من الروعة والحسن ما وجدت إلا لأن في حذفه وترك ذكره فائدة جليلة وأن الغرض لا يصح إلا عن تركه) (1).
ومن أمثلة عبد القاهر على احتمال النظم وجوها ثم اختيار وجه معين دون غيره من الوجوه:
(ومثال ذلك قوله تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ [الأنعام: 100]، ليس بخاف أن لتقديم الشركاء حسنا وروعة ومأخذا من القلوب أنت لا تجد شيئا منه إن أنت أخّرت فقلت: وجعلوا الجن شركاء لله. وأنك ترى حالك حال من نقل عن الصورة المبهجة والمنظر الرائق والحسن الباهر إلى الشيء الغفل الذي لا تحلى منه بكثير طائل، ولا تصير النفس به إلى حاصل، والسبب في أن كان ذلك كذلك هو أن للتقديم فائدة شريفة ومعنى جليلا، لا سبيل إليه من التأخير.
(1) دلائل الإعجاز ص 182.
بيانه: أنّا وإن كنا نرى جملة المعنى ومحصوله أنهم جعلوا الجن شركاء وعبدوهم مع الله تعالى، وكان هذا المعنى يحصل مع التأخير حصوله مع التقديم، فإن تقديم الشركاء يفيد هذا المعنى، ويفيد معه معنى آخر وهو أنه ما كان ينبغي أن يكون لله شريك لا من الجن ولا غير الجن، وإذا أخّر فقيل: جعلوا الجن شركاء لله، لم يفد ذلك ولم يكن فيه شيء أكثر من الإخبار عنهم، بأنهم عبدوا الجن مع الله تعالى، فأما إنكار أن يعبد مع الله غيره وأن يكون له شريك من الجن وغير الجن فلا يكون في اللفظ مع تأخير الشركاء دليل عليه، وذلك أن التقدير يكون مع التقديم أن (شركاء) مفعول أول لجعل و (لله) في موضع المفعول الثاني، ويكون (الجن) على كلام ثان وعلى تقدير أنه كأنه قيل: فمن جعلوا شركاء لله تعالى فقيل: الجن، وإذا كان التقدير في (شركاء) أنه مفعول أول و (لله) في موضع المفعول الثاني، وقع الإنكار على كون شركاء الله تعالى على الإطلاق من غير اختصاص شيء دون شيء.
وحصل من ذلك أن اتخاذ الشريك من غير الجن قد دخل في الإنكار، دخول اتخاذه من الجن لأن الصفة إذا ذكرت مجرّدة غير مجراة على شيء كان الذي يعلق بها من النفي عاما في كل ما يجوز أن تكون له الصفة. فإذا قلت: ما في الدار كريم، كنت نفيت الكينونة في الدار عن كل من يكون الكرم صفة له، وحكم الإنكار أبدا حكم النفي. وإذا أخّر فقيل:
وجعلوا الجن شركاء لله، كان (الجن) مفعولا أول والشركاء مفعولا ثانيا.
وإذا كان كذلك كان الشركاء مخصوصا غير مطلق من حيث كان محالا أن يجري خبرا على الجن، ثم يكون عاما فيهم وفي غيرهم، وإذا كان كذلك احتمل أن يكون القصد
بالإنكار إلى الجن خصوصا أن يكونوا شركاء دون غيرهم، جلّ الله وتعالى عن أن يكون له شريك وشبيه بحال.
وجعلوا الجن شركاء لله وما ينبغي أن يكون لله شريك لا من الجن ولا من غيرهم فقام التقديم والتأخير مقام الكلام السابق).